هجرة العرب نحو الغرب، الامريكيتين تحديدا ! ومدى حجم نجاحاتهم ! ح 3

د. رضا العطار

كان الادباء العرب الذين هاجروا الى الامريكيتين خلال القرن التاسع عشر، قد عانى معظمهم ضنك الحياة وقسوتها لسنوات طويلة الى ان وصلوا الى حياة النعيم.

كان الشاعر الشهير عباس فرحات الذي حفلت حياته بالعديد من المغامرات، فقد استعان بداية بتربية المواشي، ولكن منذ ان بدا عمله، حتى تدهورت اسعارها وارتفع ثمن علفها، فطلق هذه التجارة الخاسرة وراح يعمل منضدا في مطبعة ولكنه اختلف مع صاحبها فتركها. ثم انتقل الى مزرعة واشتغل بتربية الغنم، واخيرا احترف التجول بمساطر البضائع يعرضها على تجار الداخلية، عشرون عاما سلخها الشاعر من شبابه في حياة التجول الى ان ارتقى الى منزلة وكيل — يصف حياته في الابيات التالية :

فنمسي وفي اجفاننا الشوق للكرى * * ونضحي وجمر السهد فيهن يلهب

ومأكلنا مما نصيد وطالما * * طوينا لأن الصيد عنا مغيب

ونشرب مما تشرب الخيل تارة * * وطورا تعاف الخيل مانحن نشرب

حياة مشقات ولكن لبعدها * * عن الذل تصفو للأبيّ وتعذب

لئن كان صعبا حملك الهمّ والأذى * * فحملك مَنّ الناس لا شك اصعب

فلما ألف الشاعر فرحات عمله وآنس تباشير النجاح فيه حتى ضاقت عين صاحب المصنع الذي يعمل له، فأنقص عمالته من خمسة بالمئة الى ثلاثة، فكتب اليه فرحات:

يا صاحب النول كلْ * * واظلم فلن انتحر

اني الصديق الذي * * مهما تسئ يغتفر

انقصت من اجرتي * * في ذا الزمان العسر

هل خفت ان اغتني * * ام خفت ان تفتقر

من كان في اسفل * * الهوة لا ينحدر

صادف ان بعضا من ادباء المهجر لم يجدوا من ياتمنهم على بضائع يتاجرون بها لأن هندامهم كان نظيفا أراب التجار في كفائتهم وفي استعدادهم للعمل المضني، وهم عادة يتجنبون التعامل مع باعة متأنقين في لباسهم، فإذا جائهم طالب عمل وعلى طوق عنقه رباط رفضوه، اعتقادا منهم ان مهاجرا نشأ على هذا النمط من الحياة لا يفيدهم.

في نهاية هذه المرحلة التمهيدية، تتباعد الحظوظ بين المهاجرين تبعا لامكانياتهم الادبية والمالية، فيكون نصيب هذا في العاصمة على رأس متجر كبير بينما يكون نصيب غيره حانوت صغير في قرية، وذاك في ورشة بناء وذاك في ادارة مصنع وآخر في قاعة مطعم، واسوأهم حظا في مكتب جريدة.

ويزداد التفاوت بينهم بتوالي السنين. فإذا هم بعد عقد من السنين طبقات متباعدة، هذا في الذروة من الغنى وذاك لم يزل يعاقر خمرة الادب ويستعطي القلم.

الاغنياء يحسبون الصحافيين والادباء والشعراء عالة عليهم، والادباء يجدون في الاثرياء عيالا على اقلامهم. وتكاد ترجح كفة المال على الادب لولا ان بعض الاثرياء المثقفين ضموا الادباء الى صدورهم وانزلوهم المرتبة التي يستحقونها من مراتب الكرامة.

وبين الاغنياء من تأصلت في نفوسهم عادة البخل بتأثير الاعوام الاولى لهجرتهم، فلما بلغوا شاطئ الغنى، ظلوا منكمشين على انفسهم لا يؤمنون الاّ بفضيلة البخل التي مهدت لهم سبيل الغنى ثم اصبحت عارا على جبينهم. ومنهم من لا قبل له بالتطور لان تربيته القروية في بيئته الاصلية لم تؤهله لمعاشرة الاوساط الراقية من المجتمع، فظل أمينا لعادات وتقاليد محيطه الاول، لا يهمه ان يسخر الناس من سلوكه في المأكل والملبس والحديث.

ومنهم من جارى تيار التطور الاجتماعي حتى فاق الاجانب بمظاهر البذخ والترف، فشيد القصور واقام الحفلات واقتنى الجواهر واستعمل احدث موديل السيارات واوثق الصلات بالاوساط الراقية وبالمراجع السياسية الحاكمة. فكان عنوانا لاعتزاز الجالية العربية وسببا لتغني المقيمين بسلطان المغتربين تغنيا ينسجم ونسيج خيالهم الوهاج الذي قد تبدوا اكثر لمعانا مما هو عليه في الحقيقة.

وفي سياق هذا السلطان الواسع الذي كان يغدق على الكماليات والمظاهر الاجتماعية ما لا ينفقه الاثرياء من المواطنين الاصليين. منها ان البعض منهم كان يحي حفلات رقص باذخة في النادي اللبناني في – سان باولو – و كانت مصلحة الامن العام ترسل عددا من رجال البوليس السري، مهمتهم الاختلاط بالجمهور للمحافظة على الجواهر النادرة التي تتلألأ على صدور السيدات العربيات، لكيلا تحرك لعاب عصابات اللصوص المتربصة بالغنيمة الباردة.

هذه هي بعضا من صور الحياة التي عاشها ادباء العرب في بلدان المهجر. وقد رسمنا خطوطها الزاهية والداكنة، لأن تأثيرها في ادبنا كان اقوى من تأثير البيئة الاجنبية، فهي المورد والمصدر الاساسيان في ادب المهجر.

الحلقة التالية في الاسبوع القادم

إ مقتبس من كتاب ادبنا وادباؤنا في المهاجر الامريكية لجورج صيدح بيروت 1957

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here