تأملات في القران الكريم ح 406 سورة الحشر الشريفة

بسم الله الرحمن الرحيم

لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ{13}
تستمر الآية الكريمة كاشفة ما يدور في قلوب المنافقين “او اليهود او كلاهما” فاضحة اياهم ( لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ) , خوفهم منكم اكثر من خوفهم من الله جل جلاله , ( بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ ) , والسبب انهم لا يعلمون عظمة الله تعالى والايمان به , فيدركون انه جل وعلا الاحق بالخشية .

لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ{14}
تستمر الآية الكريمة ( لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً ) , لا يقاتلونكم اليهود والمنافقين مجتمعين , ( إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ ) , الا من داخل قرى محصنة بالخنادق , ( أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ ) , اسوار , ( بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ) , يكشف النص المبارك ايضا , ان عداوتهم فيما بينهم شديدة , ( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً ) , تظن انهم مجتمعين متفقين على كلمة واحدة , ( وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ) , متفرقة , وفقا الى اهوائهم ومصالحهم , ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ ) , ما فيه صلاحهم , او انهم لا يدركون ان تشتت القلوب من ابرز الاسباب التي تضعفهم وتؤدي بهم الى الهزيمة المنكرة .

كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{15}
تستمر الآية الكريمة مشبه اياهم ( كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ) , يختلف المفسرون في المعني بهم في النص المبارك , فمنهم من يرى انهم بني القينقاع , واخرون يرون انهم المشركين في معركة بدر , ( قَرِيباً ) , في زمان قريب , ( ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ ) , عاقبة كفرهم في الدنيا بالقتل والاسر وغيرها , ( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) , في الاخرة .

كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ{16}
تستمر الآية الكريمة مشبه اياهم ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ ) , مثل المنافقين كمثل الشيطان الرجيم , ( إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ ) , بالله تعالى , مغريا اياه بالكفر بشتى الوسائل , ( فَلَمَّا كَفَرَ ) , استجاب الانسان لإغراءات الشيطان الرجيم فكفر , ( قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ ) , قال له الشيطان الرجيم معلنا براءته منه , ( إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) , معلنا ايضا خوفه من رب العالمين , فيعلن الشيطان الرجيم براءته من الانسان الكافر خشية ان يشاركه في العذاب , لكن ذلك لم ينفعه “لعنه الله” , كذلك الحالي بين المنافقين واليهود , حيث ان المنافقين اغروا اليهود “بني النضير ” بالنصرة وتقديم الدعم , فخذولهم وتبرأوا منهم , خشية ان يطالهم انتقام المسلمين .

فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ{17}
تستمر الآية الكريمة مضيفة ( فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا ) , الغاوي والمغوي , ( أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا ) , كلاهما في النار , لا يخرجون منها ابدا , ( وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ ) , الكافرين .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ{18}
تخاطب الآية الكريمة المؤمنين ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ) , ليكن مدار عملكم تقوى الله عز وجل , ( وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ) , ليوم القيامة , ( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) , كررت لمزيد من التأكيد والاهمية , ( إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) , لا تخفى عليه خافية مما اعلنتم او اسررتم .

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ{19}
يستمر الخطاب في الآية الكريمة ناهيا ( وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ ) , طاعته جل وعلا واداء حقوقه , ( فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ) , نسوا انفسهم , فلم يقدموا ما ينفعها او يخلصها من العذاب يوم القيامة , ( أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) , بلغوا اقصى غايات الفسق .

لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ{20}
تستمر الآية الكريمة مضيفة ( لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ) , لا يتساوى الذين نسوا انفسهم , فركبوا كل ما من شأنه ان يدخلهم في العذاب الخالد في النار , والذين اطاعوا وعملوا كل ما من شأنه ان يدخلهم النعيم الدائم في الجنة , ( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ) , يقرر النص المبارك الفوز لأصحاب الجنة .

لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ{21}
تضيف الآية الكريمة ( لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ ) , جبل من الجبال , رغم ضخامة حجمه وصلادة صخوره , ( لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً ) , متشققا , ( مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ) , من خشيته جل وعلا , وهو تشبيه لقساوة وغلظة قلب الانسان , يماثله قوله جل وعلا { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }الأحزاب72 , ( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ) , لتقريب المعاني للأذهان , ( لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) , يتدبرونها ويتعظون بها .

هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ{22}
تضيف الآية الكريمة ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) , لا يستحق العبادة سواه , ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) , السر والعلن , وجاء عن الامام الباقر “ع” – الغيب ما لم يكن والشهادة ما كان – , ( هُوَ الرَّحْمَنُ ) , الذي وسعت رحمته كل شيء , البر والفاجر , ( الرَّحِيمُ ) , بالمؤمنين خاصة , يرى بعض اصحاب الرأي , ان ( الرَّحْمَنُ ) في الدنيا , اما ( الرَّحِيمُ ) للأخرة خاصة للمؤمنين .

هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ{23}
تستمر الآية الكريمة ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) , وحده جل وعلا المستحق للعبادة , ( الْمَلِكُ ) , لكل شيء , خلقا وتدبيرا وتصرفا , ( الْقُدُّوسُ ) , الطاهر , الخالص من الشوائب , البالغ في النزاهة , ( السَّلَامُ ) , ذو السلامة من كل نقص وافة , ( الْمُؤْمِنُ ) , المصدق لرسله بالمعجزات الباهرة , او واهب الامن لأوليائه من العذاب , ( الْمُهَيْمِنُ ) , الشاهد , او الرقيب الحافظ لكل شيء , ( الْعَزِيزُ ) , المنيع , الغالب , ( الْجَبَّارُ ) , الذي تجري مشيئته في كل شيء , وتنفذ على كل احد , ولا يمكن العكس , ( الْمُتَكَبِّرُ ) , عن كل حاجة او نقص , او على كل ما لا يليق به جل جلاله , ( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) , تعظيما وتنزيها عما ينسبه اليه المشركين .
( عن أمير المؤمنين عليه السلام انه سئل ما تفسير سبحان الله فقال هو تعظيم جلال الله وتنزيهه عما قال فيه كل مشرك فإذا قالها العبد صلى عليه كل ملك ) . “تفسير الصافي ج5 للفيض الكاشاني” .

هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{24}
تستكمل الآية الكريمة موضوع سابقتها الكريمة ( هُوَ اللَّهُ ) , جل جلاله , ( الْخَالِقُ ) , المقدر لكل شيء , ( الْبَارِئُ ) , المنشأ من العدم , وفقا لمقتضى حكمته جل وعلا , ( الْمُصَوِّرُ ) , لكل شيء , يرى الفيض الكاشاني في تفسيره الصافي ج5 جمعا وتوفيقا لتوالي اسماءه جل وعلا بهذه الكيفية ” كلما يخرج من العدم إلى الوجود فيفتقر إلى تقدير أو لا وعلى الايجاد على وفق التقدير ثانيا وإلى التصوير بعد الايجاد ثالثا فالله سبحانه هو الخالق البارئ المصور بالاعتبارات الثلاثة” , ( لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى ) , الدالة على محاسن المعالي , ( يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) , تعظيما وتنزيها اياه جل وعلا , انقيادا وطاعة له , واعتراف واقرار كل المخلوقات “اعترافا واقرارا تكوينيا او تشريعيا” بالعجز والحاجة اليه جل جلاله , ( وَهُوَ الْعَزِيزُ ) , المنيع , الغالب , ( الْحَكِيمُ ) , في صنعه وتدبيره , للفيض الكاشاني في تفسيره الصافي ج5 رأيا لطيفا بخصوص النص المبارك “الجامع لكل كمال لاندراج الكل في القدرة والعلم” .
( عن الصادق عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله إن لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسما مأة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة ثم ذكر تلك الاسماء .
يقول الشيخ الصدوق بخصوص الرواية “احصاؤها هو الاحاطة بها والوقوف على معانيها وليس معنى الاحصاء عدها ) . “تفسير الصافي ج5 للفيض الكاشاني” .

حيدر الحدراوي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here