هواجس عادل عبد المهدي و تلوّناته

يعرف المقرّبون من السيد عادل عبد المهدي أنه شخصية مسكونة بهواجس تركت بصمتها على سلوكه منذ سن مبكرة قد تكون بدايتها توزّع انتسابه ما بين لقب “المنتفجي” – نسبة للواء المنتفق – وبين اسم “شبّر” الذي يصل أسرته – إن صحّ النسب – بالعترة العلوية , و توزّع وعيه ما بين انتمائه لأسرة اقطاعية وأبٍ وصل لمجلس النواب إبان العهد الملكي بالسوط والصوت – سوط الإقطاعي وصوت الفلاح المسحوق – وبين تفتّح وعيه بحيّ كرادة مريم على الجانب الشرقي من بغداد حيث جاور أبناء الطبقات العليا و خالطهم أيضا في كلية بغداد الراقية فكان من بينهم أياد علاوي وأحمد الجلبي وحسن العلوي . وقد تنازع عادل عبد المهدي منذ تلك السن المبكرة واقع التفاوت الإجتماعي والطبقي الحاد في جنوب العراق حيث تأسست ثروة أسرته ونفوذها , وواقع المناخ الثوري الذي تشكّل عقب الحرب العالمية الثانية وحمل إلى البلدان المستعمَرَة أفكار العدل الاجتماعي والتحرر الوطني . وفيما بدا وقتها أن عادل عبد المهدي قد اجتذبته تلك الأفكار فبنى عليها عالماً خيالياً رأى نفسه فيه نسخةً من الأديب الروسي “ليو تولوستوي” الذي انسلخ عن طبقته الإقطاعية ووزع أراضيه على الفلاحين وكتب آلاف الرسائل داعياً إلى المساواة الاجتماعية , ولكن ثورة 14 تموز 1958 لم تفسح الفرصة لخيال عبد المهدي طويلا فأصدرت قانون الإصلاح الزراعي الذي استردّ الأرض من الإقطاع و منحها لأصحابها الشرعيين الذين رووها أجيالاً بعد أجيال بدمائهم وعرقهم .
تنقل فيها ما بين طهران والمناطق النائية في شمال العراق بحماية التنظيمات والشاهد أن الشاب عادل عبد المهدي وقد وقع تحت تلك التأثيرات , التحق بصديقيه أياد علاوي و حسن العلوي وانضم للتنظيم الطلابي لحزب البعث العربي الإشتراكي , ولكن الهواجس إياها أثارت في نفسه رغبة حارقة لاكتساب ذات الموقع المتميز الذي نشأ عليه لكن في الإطار السياسي الجديد الذي انتمى إليه ؛ بيد أن الأمر لم يكن سهلا فأصوله الإقطاعية والنَفَس اليميني المتأصل فيه لم يجعلا صعوده إلى المواقع القيادية ممهداً , فضلا عن أن شخصيته الوديعة لم تسمح له بتقدم الصفوف في سنوات سادها الصدام العنيف بين التيار القومي العربي والحزب الشيوعي العراقي , إضافة إلى التمزق النفسي الذي كان يعانيه ما بين أسرة محافظة و بين انتماء سياسي متمرد على القديم وساع ٍ إلى تحطيمه , وبرغم ذلك كله فقد بذل نشاطاً متميزاً في التنظيم الطلابي للحزب مما أهّله ليصبح نائباً لرئيس الإتحاد الوطني لطلبة العراق في عام 1963 ؛ وبرغم الانتكاسة التي تعرّض لها حزب البعث في 18 تشرين أول من تلك السنة , فقد واصل عبد المهدي نشاطه الحزبي حتى عام 1968 التي شهدت عودة حزب البعث للسلطة وعند تلك اللحظة الفارقة وبلا سبب مفهوم عمد إلى الفرار لإيران بمعونة أقارب له في مدينة الناصرية , وقد مكث في إيران سنة كاملة لم ينجز فيها شيئاً يُذكر , ثم يمم وجهه شطر فرنسا وانتسب إلى جامعة “مونبلييه” حيث درس الاقتصاد السياسي , وعمل في مجلات عربية وفرنسية ثم شارك بعض معارفه في تأسيس مطبعة لم تلبث أن أشهرت إفلاسها , وقد زعم فيما بعد أنه حاز درجة الدكتوراه في الاقتصاد , بيد أن المؤرخ الرصين والأكاديمي البارز ” رشيد الخيون ” يشكك في هذا الزعم . ولم تلبث الهواجس اللصيقة بشخصيته أن شككته في أفكاره القومية فتحوّل في سنة 1970 إلى الفكر الماركسي وانتمى إلى الحزب الشيوعي العراقي – جناح القيادة المركزية – وهو جناح منشق عن الحزب الشيوعي الأم التابع للإتحاد السوفييتي ويعتنق أفكاراً قريبة من الماوية الصينية تدور حول التغيير عبر الكفاح المسلّح .
في سنة 1980 فاجأ عبد المهدي معارفه باعتناقه فكر الإسلام السياسي المتشيّع , وعلى الأرجح فإن انتصار الثورة الإيرانية في شباط 1979 بقيادة آية الله الخميني قد حرّك هواجسه حول مصداقية العلمانية وأفكار اليسار , فبادر إلى الانضمام إلى السيد محمد باقر الحكيم الذي كان قد هرب إلى إيران وأشهر معارضته للدولة الوطنية العراقية وانخرط في المجهود الحربي الإيراني في عدوانه على العراق , وكذلك تماثل عادل عبد المهدي بتلوّناته الفكرية الثلاثة مع علم الدولة الفرنسية التي حمل جنسيتها !! و في تلوّنه الإسلامي ثبت لعشرين سنة متواصلة في صفوف المجلس الأعلى مشاركا ًفي المجهود الحربي الذي كان يقوم به هذا المجلس ضد الدولة الوطنية العراقية في ظل العلم الإيراني , ومتنقلا ما بين ايران وفرنسا والمناطق النائية في شمال العراق بحماية التنظيمات الكردية عندما وقع الغزو الأميركي للعراق في آذار 2003 , لاحت لعبد المهدي بارقة أمل في تحقيق طموحه بوصل ما انقطع من زعامة أبيه , ولكن هواجسه المزمنة لم تترك له فسحة لاستقرار يقينه ولا للثبات على الأفكار الدينية التي ادعى الإلتزام بها طيلة السنوات العشرين الماضية , فراح يعرض نفسه مرة على أنه علماني منفتح على كل القوى بما فيها سلطة الإحتلال الأميركي , وكذلك تلقى دعماً من السيدة ” ميغن أوسيلبيفين ” التي كانت مستشارة للرئيس “جورج بوش” ثم عملت مساعدة لشؤون الأمن القومي لحاكم العراق المدني ” بول بريمر ” , ففتحت له الطريق إلى واشنطن قبل انتخابات 2005 حيث التقى بكبار المسؤولين الأميركيين الذين توقعوا له دوراً أساسياً في العراق الجديد لدرجة أن السفارة الأميركية في بغداد بنت خطط عملها على أساس فوزه بمنصب رئيس الوزراء لولا أن السيد “مقتدى الصدر” وبإيعاز مؤكد من ايران استمات حتى حال دونه وتحقيق حلم حياته فخسر التصويت على رئاسة الوزارة بفارق صوت واحد لصالح – القوي الأمين – ابراهيم الجعفري , وفي فترة لاحقة راح يقدم نفسه باعتباره شيعياً يفهم المواطنة على أنها كيانات طائفية وعرقية صغيرة يجب أن تتخذ من الأكثرية الشيعية محوراً لها , وقد ذهب بعيداً في تنظيراته هذه حتى أوشك أن يدعو إلى أمة العراق الشيعية !
ويتجلى اهتزاز شخصية عادل عبد المهدي تحت تأثير هواجسه في وثيقتين متناقضتين كتبهما خلال أسبوع واحد في سياق التمهيد للانتخابات العامة في سنة 2006 , وقدّم أولاهما في ايلول 2005 إلى قيادة المجلس الأعلى – وكان وقتها نائباً لرئيس الجمهورية – وقد دعا فيها إلى إحياء الحلف الذي كان قائماً قبل عام 2003 والذي كان يضم المجلس الأعلى والأحزاب الكردية وحركة الوفاق الوطني العراقي وأن يخوض هذا الحلف الانتخابات بقائمة واحدة بزعم أن هذه الجبهة المتحدة ستفضي إلى وحدة البلد , ولكن المرجع الأعلى السيستاني كان لديه مشروع مختلف يقوم على قائمة انتخابية مقتصرة على الطائفة الشيعية ورأى في دعوة عبد المهدي تهديداً جدياً لمشروعه لأنها ستزيل الصبغة الطائفية عن العملية السياسية وستقلل من قوة الإسلام السياسي المتشيع في النظام الجديد , فهدد بسحب تأييده للانتخابات وبوصمها بعدم الشرعية , ثم وضع كل ثقله ونفوذه ليفرض رؤيته تلك لشكل العملية السياسية . وبلا شك فإن الفزع قد انتاب عادل عبد المهدي بسبب خرقه لخطوط المرجعية الحمراء , وصوّرت له هواجسه أنه سيفقد الحصاد الذي جهد في غرسه عشرين عاما , فبادر عقب أسبوع واحد من تقديم وثيقته إلى كتابة نقيضها وعمّم وثيقة خطيرة على أوساط الإئتلاف العراقي الموحد بعنوان ” تصورات عن مباديء الحكم في العراق ” جاء فيها أن العراق سينتقل عقب الانتخابات المقبلة من الاستبداد إلى الديمقراطية ومن المركزية إلى الفدرالية , وأن الشيعة هم الآن الطبقة الحاكمة الجديدة ويجب التفكير والعمل وفقاً لذلك , ويجب تبديد أساطير العروبة والقومية العربية , وأن الانعتاق السياسي للشيعة سيؤدي بالضرورة إلى انعتاق العراق , وأن الديمقراطية ستتيح للشيعة أن يصبحوا المحور الذي ستدور مختلف الجماعات الأخرى حوله , ويتعين على الشيعة أن يتعاونوا مع شركاء سياسيين من الطوائف الأخرى يمتلكون رؤية تحترم مصالحهم , وأنه يجب إعادة تكوين جذرية للدولة العراقية بحيث يقلّ اعتماد مواطنيها عليها والتخلي بالتالي عن مفهوم دولة الرفاهية التي رعت مواطنيها لعقود مديدة في كل ضرورات الحياة , ويجب نقل معظم سلطات الدولة المركزية إلى الحكومات المحلية و مجالس المحافظات , ويجب بحث السبل حتى تسلّم الأقليات الدينية في نهاية المطاف برؤية الأغلبية الشيعية والتي يتعين عليها رفض الحلول الوسط والتوقف عن السعي وراء قاسم مشترك أدنى مع غيرها .
……………………………

يجمع الذين عرفوا السيد عادل عبد المهدي على دماثة خلقه وسعة صدره وعفة لسانه , ولكن المشكلة هي أن هذا المتطلع لدور قيادي في العراق , تتقاذفه الهواجس وتطوّح به من أقصى اليمين لترمي به في أقصى اليسار دون مبررات عقلانية ولا أسباب مفهومة , و تقوده بوصلة يتوجه مؤشرها باستمرار نحو حلم زعامة بذل معظم سنوات عمره لبلوغها باعتبارها إرثاً عائلياً ضاع بسبب التحولات الإجتماعية والتقلبات السياسية العراقية , ويظن الآن أن الظرف مؤاتٍ لاستردادها بالطائفية المهيمنة على المشهد العراقي . إن العلة ليست كامنة فقط في خياراته المتناقضة التي اتسمت بها كل مسيرته السياسية , وإنما في طموحه الذي يسبق قدراته وفي أمانيه التي تسبق إمكانياته , وفي عجزه عن الحسم وافتقاده للحزم , وكذلك باتت كل الأطراف المؤثرة في العراق تتشكك فيه : الأميركان والعرب والعجم والإسلاميون والعلمانيون
ولعل الأكراد هم الطرف الوحيد الباقي على مشاعر الود تجاهه بحكم قِدم علاقته معهم فلم ينقلب عليهم حتى الآن كما فعل مع كل الاتجاهات السياسية العراقية التي انتمى إليها منذ بواكير شبابه وحتى كهولته .

سليمان الحسن

20-9-2018

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here