وقفة صراحة : من هو الشعب العراقي ؟!

بقلم مهدي قاسم

قد يبدو للوهلة الأولى أمر طرح هذا السؤال عجيبا ..

وهو كذلك ، لو لم نقرأ بين حين و آخر مقالات تشنيع بالشعب العراقي ووصفه بشتى أوصاف سلبية ــ وهي في بعضها صحيحة إلى حد ما:

ــ منها ازدواجية التعامل مع الأشياء، مثل إيمان بعقيدة ماــ سواء سماوية كانت أم أرضية ــ ومن ثم التصرف عكس قيم و مبادئ تلك العقيدة ، و كذلك والاتكالية و ضحالة الروح الوطنية ، فضلا عن قبول بالإذلال أثناء الشدة والتغول و التكبر والعجرفة أثناء التفوق بسبب ظروف طارئة..

ولكن لنرجع إلى سؤالنا الأساسي :

ــ حقا من هو الشعب العراقي ؟

أليس الشعب العراقي يتكون من أنا و أنت وهو ونحن و أنت وهم و الخ ؟ ..

و كذلك من أفراد عائلتي وأقربائي ولنقل أفراد عشيرتي و كذلك الأمر نفسه بالنسبة لك وله ولنا و لكم و لهم ؟ ..

فالشعب العراقي يتكون من كل هؤلاء وأولئك ..

و إذا كان الأمر هكذا فلماذا لا نبدأ التغيير من أنفسنا أولا ..

وكذلك من أقربائنا ..

صعودا وانتشارا إلى فئات وشرائح اجتماعية أخرى ..

وكلا من ناحيته ، أعني أنا و أنت وهو و نحن وأنتم وهم ..

فأليس الشعب العراقي يتكون من هؤلاء وأولئك ؟.

و ضمن هذا السياق والمفهوم فأن مَن يشنّع بالشعب العراقي إنما يشنع بنفسه أولا و بالدرجة الأولى و بأفراد عائلته وأقربائه ثانيا ، وأبناء عشيرته أو قبيلته رابعا ، و بباقي فئات وشرائح المجتمع العراقي خامسا ..

بينما التغييرالحقيقي ــ و كما هو معروف ــ لا يبدأ بين ليلة و ضحاها ، إنما خطو بعد خطوة ومن أشياء صغيرة و بسيطة ، ليتسع طابع هذا التغيير ليشمل أشياء كبيرة أخرى أكثر أهمية صعودا، صعودا نحو التغيير الكبير والمنشود ..

طبعا في حالة وجود استجابة جماعية على مر الأيام والسنين ..

أذكر هنا مثلين ــ طبعا ليس بدافع تبجح أو غرور ــ كنتُ شاهد عيان على بعض التغييرات البسيطة التي أحدثتها بين أقربائي :

ــ عندما سافرت إلى العراق بعد سقوط النظام ، كان اقربائي ينتظرونني عند ساحة عباس بن فرناس فقدموا لي قنينة ماء بارد بلاستكية ، وبعد استهلاك الماء احتفظت بالقنينة الفارغة في يدي ، استغربوا فسألوني لماذا لا أرميها من نافذة السيارة ؟ ، فقلت لهم لا يجوز رميها بشكل عشوائي إلا في حاوية القمامة فاستغربوا أكثر وهمي يؤشرون بأيدهم إلى أكوام القمامة التي كانت ملفتة للنظر من كثرتها المتراكمة هنا وهناك على طرفي الرصيف فاجبتهم

ــ إذا لا أرمي أنا و إذا لا ترمون أنتم و غيركم من باقي الناس قنان وعبوات وعلب مشروبات سائلة وأشياء أخرى فمن أين تكثر القمامة على الأرصفة ؟

قالوا: صحيح ، ولكن بلهجة مترددة وغير مقتنعة تماما ..

إلا إنني بقيت مصرا على موقفي و كررت العملية في مناسبات أخرى ، فلاحظت تأثير ذلك عليهم شيئا فشيئا ولو بشكل بطيء .فأصبحوا أكثر حرصا في رمي القناني اوالعلب اوأقطاف السجاير في حاوية النفايات ..

أما الأمر الثاني فهو:

ــ ذات مرة راجعت إحدى الدوائر الحكومية لإنجاز أوراقا رسمية فنصحني” كاتب العرائض ” أنه يستطيع إنجاز معاملتي في غضون ساعة لو دفعتُ كذا مبلغ لكونه يتمتع بعلاقة جديدة مع المدير ، وإذا لم ، فربما علي أن أراجع ثلاث أو أربع مرات ولساعات طويلة حتى تُنجز فأجبته : بأنني لن أدفع حتى ولا فلسا واحدا ، فاندهش مستغربا ، سائلا لماذا ؟ ، مضيفا أنتم عراقيوالخارج مليانين بالدولارات ! ( حتى الآن لم أفهم كيف عرف هو و كذلك غيره من كّتاب عرائض بأننا من عراقيي الخارج ؟ وهو أمرغير مكتوب على جباهنا ) ، فأجبته أن المسألة ليست مسألة دولارات إنما هي مسألة مبدأ فحسب فآنذاك حرّك يده متهكما وقال :

ــ عمي يا مبدأ ويا بطيخ ! ليش هو بقي مبدأ في العراق !..

فأجبته ربما أن المبدأ بالنسبة لك عبارة عن بطيخ ولكنه بالنسبة لي المبدأ هو مبدأ و منذ أربعين عاما و حتى الآن وأمل أنه سيبقى هكذا ما دمتُ حيا أرزق ..

وفعلا ومثلما ” تنبأ ” هو فقد راجعت تلك الدائرة الفاسدة حتى النخاع لعدة مرات وكانت عبارة عن عذاب نفسي رهيب إلى أن أنجزت المعاملة دون أن أدفع فلسا واحدا .

وقد حذا حذوي فيما بعد بعض من أقربائي فرفضوا هم أيضا دفع رشاوى من أجل إنجاز أوراقهم الرسمية ..

في زيارتي الأخيرة للعراق لزيارة الأهل والأقرباء والأصدقاء في شهر شباط من هذا العام قال لي أحد أقربائي بفخر واضح في نبرة صوته :

ــ أني هم مثلك أنجزت معاملتي قبل أسبوع وما دفعت فلس واحد رشوة !..

حينذاك شعرت بأن الناس عندهم إمكانية لمواجهة الفساد فكل ما يحتجونه هو إلى عدد لابأس من ” القدوة ” يشجعهم على ذلك . .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here