الفرق الباطنية في التاريخ الاسلامي 4- البكتاشية القسم الثاني

.د. فرست مرعي

ثانياً: المسيحية
لقد حدت العناصر المسيحية الهامة الموجودة في الطريقة البكتاشية الى الظن بأنهم كانوا في الاصل من المسيحيين الذين لم يأخذوا من الاسلام إلا مظاهره، فنجد عندهم عقيدة التثليث، وقد أحلوا علياً مكان عيسى ( الله، محمد، علي). وهم يحتفلون بما يشبه العشاء الرباني فيوزعون النبيذ والخبز والجبن في اجتماعاتهم في تكاياهم المتعددة في تركيا والبانيا، وهذا الاحتفال يشبه ذكر طرق الدراويش الاخرى؛ وإن كان البكتاشية أنفسهم ينكرون أنهم يقومون بالاذكار وإحتفالهم هذا يشبه الى حدِِ ما بالارتوتيرايت الذين كان لهم صلة بفرقة المنتانيست.
والبكتاشيون يعترفون أيضاً بخطاياهم الى بابا، أي شيخهم ويتلقون منه المغفرة. والخمر غير محرمة عندهم بالنسبة الى قيمة النبيذ الكبيرة في طريقتهم، ونسائهم لا يتحجبن، ويعيش فريق منهم معيشة العزوبة، ولعلها القاعدة التي كانت متبعة عندهم في الاصل
لقد تتلمذ محمد بكتاش – المؤسس- على الحركة البابائية التي أسسها بابا إلياس والذي كان يطلق عليه بابا رسول. وكان بابا رسول بزعم البابائية يأتيه -الإلهام- فهو يشبه الى حدِ ما القديس بولس منظِّر الديانة المسيحية.
نقل بكتاش نفس التسمية إلى طريقته عندما أسسها وجعل الدرجات العليا فيها على غرار السلم الكهنوتي النصراني(= الشماس، والقس، والاسقف): البابا، والـدَدَّه، والـدَدّه بابا، وغيرها.
الباب هو السلطة الدينية العليا عند المسيحيين ويخاطب بلفظ (بابا)، وهذا مشهور.
ذكر أحد الباحثين، أن محمد البكتاشي كان يشير بشكل متكرر في كتاباته إلى عيسى (عليه السلام)، ويستدل بذلك على روح التسامح التي كانت سائدة بين البكتاشية والمسيحية.
كان عند الطريقة البكتاشية احتفال خاص تضاء فيه الشموع ويتناول فيه عشاء تقليدي يمارس بعده نوع من الرقص، بالإضافة إلى لبس المريدين شعاراً خاصاً وهذا شبيه تماماً بالعشاء الرباني الذي يقيمه المسيحيون يتذكرون فيه آخر عشاء للحواريين قبل صلب عيسى(عليه السلام).
كانت الدعوة البكتاشية في صفوف الجيش الانكشاري الذي يعتمد أساساً على الأسرى من المسيحيين، فقوام الجيش الانكشاري كان الفتيان المسيحيين الذين جلبوا كرقيق، وتم إدخالهم في الاسلام وتدريبهم على فنون القتال.
نشأت الطريقة أصلاً في بلاد الروم وترعرعت في بلاد كانت تختلط في مجتمعاتها العقائد المسيحية من الروم البيزنطيين(=اليونان) مع التركمان المسلمين، فكان تأثرها واضحاً، فقد جعل الشيخ الثاني للطريقة البكتاشية ومجددها باليم سلطان(ت922هـ/1516م) نفسه صورة عن المسيح(عليه السلام) وهو مولود من أم مسيحية بلغارية وأب بكتاشي (مرسل بابا)، والى باليم سلطان نسبت المظاهر الشيعية فالتي ظهرت في البكتاشية.
انتشرت البكتاشية في صفوف الشعب بسبب ما كان في اشعارها من لذة روحية وسهولة اسلوب، ولما امتاز بها شيوخها من رقة الحاشية، وحلو الحديث، والبعد عن الجدل العنيف، وكانت تكاياها مثالاً للنظافة والاناقة، مع ما اشتهرت به من (( السر البكتاشي )). والاشعار الميسرة التي كانت تنشد، تعرف بالنفس، وأكبر شعرائها (( يونس امره )).
وقد علق أحد الباحثين على الطريقة البكتاشية بعد قراءة أوراق المؤسس قائلاً:” ولعل للإشارات المتكررة إلى عيسى عليه السلام في بداية المقالات (=مقالات البكتاشية) ما يشهد بالروح المتسامحة التي تضمنتها الطريقة في البداية وآتت أكلها فيما بعد بانتشارها انتشاراً واسعاً بين الفرق العسكرية العثمانية التي اعتمدت على نقل المسيحيين في صباهم إلى الإسلام وضمهم الى الجيش الخاص بهم الذي عرف في التاريخ بالينكجرية (الإنكشارية) أو الجيش الجديد.
ثم خلط محمد بكتاش أفكاره هذه بالعقائد الشيعية لما ادعى انتسابه إلى آل البيت وانتهت الطريقة البابائية اسماً بموت “مقتل مؤسسيها” وظهر هو بطريقة ظاهرها جديدة منتسبة له شخصياً حاملة اسمه وقد ساعده على نشر الطريقة زعمه الانتساب للبيت العلوي فقد زعم القرابة والصلة بينه وبين الشيخ أحمد الرفاعي وأبناء الشيخ عبد القادر الكيلاني الذين ينتسبون جميعاً إلى آل البيت من طريق إبراهيم بن موسى الكاظم، فكان هو معهم في هذا الانتساب، ويعتبر أستاذه (لقمان برندة الخراساني) الذي كان أيضاً من أتباع البابائية أن لنسب البكتاش العلوي دوراً مهمًّا في نشر طريقته.
ويعتقد البكتاشية بالعدد لاسيما أربعة، وهو مذهب متأثر بالفيثاغورية الى حد كبير، وكانوا في ذلك متأثرين بكتاب (فضل الله الحروفى) المسمى (بالجاويدان)، وهذا الكتاب يعرف باسم عشق نامه في النسخة الفارسية، وفي النسخة التركية التي نشرها (فرشته أوغلي)، وهم يعتقدون ايضاً بالتناسخ، والشائع عنهم أنهم لا يقومون بفرائض الدين الإسلامي: من صلاة، ولا زكاة، ولا صوم، ولا حج، وأنهم قد رفعوا هذه التكاليف، بحجة أنها تجب على المبتديء لا المنتهي، وأنه بعد الوصول يصبح الانسان في حِلِّ منها.
والشيخ الأكبر للطريقة يقيم بتكية (بيرآوى) أي بيت القطب، في المحل الذي يقال له (حاجى بكتاش) في (قرة شهر) بين أنقرة و قيصرية في وسط بلاد الاناضول. وليست هذه الرئاسة وراثية في الأصل، وإنما هي منذ 200سنة في بيت واحد تنتقل من الأب إلى الابن، وللبكتاشية المتبتلين شيخ كبير أيضاً، مركزه التكية المسماة (مجرد بابا سى) أي (أبو المتبتلين). ويسمى شيخ كل تكية (بابا)، والدرويش المقيم بالتكية (مريداً)، والعامي الذي له تعلق بالطريقة (منتسبا).
ولقد ثبت وجود هذه الطريقة منذ أوائل القرن السادس عشر الميلادي في الأناضول، ثم انتشرت في الروملى وأكثر من مال إليها أمة الأرناؤوط (= الالبان )، حتى يقال أن أكثر هذه الأمة بكتاشيون. وأن الفرقة المعروفة بالأناضول وببلاد الأكراد بقزل باش أو (على إلهي) هي على عقائد تشابه مذهب البكتاشية، وإن كان هؤلاء جميعاً يدّعون كونهم من أهل السنة والجماعة، فالحقيقة ليست كذلك، وهي أنهم من غلاة الشيعة، يعتقدون بإمامة الإثني عشر من آل البيت، ويعظمون كثيراً جعفر الصادق، ويقولون بالأربعة عشر ولداً معصوما، الذين أكثرهم ماتوا شهداء من أولاد علي، ويزورون قبور الأولياء، ويصلون ويدعون عندها.
ويزعم المستشرقون أنه لابد أن يكون البكتاشيون في الأصل مسيحيون، بحجة أن الجيش الانكشاري من الرقيق الاوروبيين، فهم بأجمعهم تقريباً من أصل مسيحي، لذلك فليس من المستغرب أن نجد في البكتاشية سمات شبه مسيحية مثل الاعتقاد بالثالوث ((الله ومحمد وعلي ))، والاعتقاد بجدوى الاعتراف والغفران”، وهذا الاعتراف بالذنوب عند المشايخ يبدو الى حد ما مقارب لما عند المسيحيين من الاعتراف أمام القسس، والى هذا أشار العالم السوري شكيب أرسلان بقوله:” وأن عندهم نوعاً من الاعتراف بالذنوب يذهبون إلى مشايخهم ويسردون لديهم ذنوبهم، والشيخ يحل من الذنب نظير القسيس عند النصارى. وهم يبيحون الخمر، والنساء لا يسدلن النقاب، وكثير من البكتاشية يتبتلون ويعيشون مجردين من الأزواج، مما جميعه يدل على كون أصل هذه الطريقة غير إسلامية”، وأكثر المتبتلين منهم كانوا ينقطعون في تكية (قيزل دلى سلطان) بالقرب من (ديموطوقة)التابعة لولاية أدرنة”.
ويعتقد بعض الباحثين أن بعض الطرق الصوفية الموصولة بالغلو الباطني والمنفصلة عن التصوف السني الملتزم بالكتاب والسنة صورة مذاهب جمعية تلفيقية ومركبة، كالبكتاشية الذين جمعوا في تعاليمهم وطرق تفكيرهم بين عناصر من الديانة الفينيقية القديمة، والمسيحية وقولها بالتثليث، ويدينون بالتناسخ ويشربون الخمر التي أسموها (بمدامة حيدر)، وأجازوا الاختلاط في الذكر الجماعي، ويمارسون شعيرة الاعتراف على عادة النصارى.

ثالثاً: اليسوية
تنسب الطريقة اليسوية الى الشيخ احمد يسوي الذي ولد في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي أو مطلع القرن الثاني عشر الميلادي، في قصبة سايرام بتركستان، وقد تيتّم في السابعة من عمره، ورافق أخته إلى مدينة ياسي بأوزبكستان. ومن ثم أسس طريقته هنالك؛ وعرف باليسوي وسمّيّت طريقته باليسوية.
لقد تعلم في مدينة ياسي الأفكار الصوفية من أرسلان بابا، ثمّ قصد بخارى، حيث تتلمذ على خليفة الشيخ يوسف الهمداني (1048- 1140م) وصار مريده، وبتوجيه منه عاد إلى ياسي لتأسيس خانقاه (=تكية).
وكان للشيخ أكبر الاثر في نشر الاسلام والتصوف في آسيا الوسطى وسهولها، وقد امتد نفوذ طريقته اليسوية الى أتراك الصين شرقاً والى خوارزم وحوض نهر الفولغا وآذربيجان وآسيا الصغرى غرباً، بل امتدت طريقته غرباً الى مناطق شرق اوروبا حتى بلغاريا.
توفي احمد يسوي في سنة (562هـ /1167م)، لكن تلاميذه ساروا على طريقته، وراحوا يروّجونها في خراسان والاناضول وآذربيجان، فضلاً عن تركستان.
كان يسوي خلال حياته معروفاً بين الناس كمرشد كامل وشيخ طريقة، وبعد وفاته تأسطرت شخصيته، وبعد مضيّ قرنين على موته، شيّد الأمير تيمورلنك ضريحاً كبيراً له.
لقد مزج اليسوي بين الدين والتصوف؛ فأشاع الإسلام والتصوّف في أوساط التركستانيين، حيث راجت أشعاره الدينية والأخلاقية، التي كانت تدعو إلى حب الله مشفوعة بالعقائد الإسلامية المستمدة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، بل راجت بين البدو الرحّل مثلما شاعت بين أهالي المدن، ولأنها كانت منظومة بلغة شعبية بسيطة، ومقرونة بالساز والرقص؛ فقد نفذت إلى قلوب ونفوس الناس الناطقين بالتركية، الذين تعوّدوا منذ القدم على الساز ورقص الشعراء الجوّالين؛ ممّا أثارت العاطفة الجياّشة في نفوس الأقوام المستجدة الإسلام.
إن مزج التصوّف بالمعتقدات الدينية ؛ قلّل من التعصّب وجعل الناس يُبدون ليناً أكثر في عقيدتهم وسلوكهم. ومن المعروف أن النسوة البكتاشيات يشاركن الرجال في حلقات الذكر وأداء الفرائض الدينية في الخانقاهات(=التكايا).
واليسوي مؤلف ديوان الحكمة المنظوم، والمعروف في تاريخ التصوّف الإيراني بـ (بير تركستان= شيخ تركستان) من روّاد الشعر الصوفي التركي، أشعاره منظومة بشكل دوبيتات(رباعيات)، وأكثرها منظوم على الوزن الهجائي المقطعي (7و12)، وكان الوزن الهجائي (12) هو الشكل السائد للشعر الشعبي التركي عصرذاك، ولغة رباعياته بسيطة مفهومة لسواد الناس، واستخدم فيها كلمات فارسية وعربية صابّاً إيّاها في قالب تركي.
إن هذه الأشعار المنظومة بالتركية الكاشغرية (=الخاقانية) تتسم بنزعة تعليمية تربوية، وقد سمّى المؤلّف مجموعة أشعاره الصوفية بـ (ديوان الحكمة)، وسرعان ما إنتشرت أشعار يسوي في سائر أرجاء تركستان، ثمّ اقتفى أثره شعراء آخرون على المنحى نفسه ونظموا أشعارهم بالأسلوب نفسه؛ بحيث اختلط بعضها بأشعار احمد يسوي.
كان(حكيم سليمان آتا) أهم تلاميذ يسوي وقد نشط نشاطاً مشهوداً في مدينة باقرقان، وتوفي بعد شيخه يسوي بعشرين سنة، ويضم كتاب (باقرقان) منظوماته التركية.
لقد قام البروفيسورالتركي محمد فؤاد كوبرلو (1308 – 1386 هـ /1890-1966م) بأبحاث ودراسات معمّقة عن احمد يسوي؛ تضمّنها كتابه الصادر سنة 1918م في استانبول بعنوان (تورك ادبياتيندا ايلك متصوف لر).
كان لطريقة يسوي الصوفية دور أساسي في ظهور طرق أخرى: كالحيدرية في خراسان (القرن13م)، والبابائية، والبكتاشية في الأناضول، وكان لها أكبر الأثر أيضاً في ظهور الطريقة النقشبنديّة.

المصادر والمراجع والهوامش

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here