ذكريات 4 نساء توثّق التحولات في مصر

صافيناز، أمينة، وداد، شاهنده.. أربع نساء صديقات من مصر، خضن تجارب طويلة في الثقافة والسياسة، ويمتلكن توجهات وآراء وتجارب اجتماعية وسياسية مختلفة، جمعتهن المخرجة الكندية-المصرية تهاني راشد في فيلمٍ وثائقي (عرض عام 1997)، وتركتهن يتكلمن بعفوية؛ حيث يشاركن ذكريات وخلاصة التجارب عبر خمسة عقود، ويتحدثن عن تحولات السياسة والثقافة والدين والمجتمع في مصر، منذ الحقبة الاستعمارية والسنوات الأخيرة في عهد الملك فؤاد، مروراً بثورة تموز (يوليو) 1952 وعهد عبدالناصر، وصولاً إلى الانفتاح على الغرب في عهد السادات، وليس انتهاء بتصاعد المدّ الديني في عهد حسني مبارك، وما انتهت إليه الأحوال في نهاية التسعينيات.

أمينة.. الشعور بالعزلة

يبدأ الفيلم الذي يحمل اسم “أربع نساءٍ من مصر” مع أمينة رشيد، أستاذة الأدب الفرنسي في جامعة القاهرة، وحفيدة إسماعيل صدقي، رئيس الوزراء لأكثر من مرة في عهد الملكين فؤاد وفاروق. تقف أمينة أمام المنزل الذي قضت سنوات طفولتها فيه، وهو المنزل الراقي، المحاط بالحدائق، والذي يعطي صورة عن البيئة الأرستقراطية التي نشأت فيها.

نشأت أمينة في أسرة أرستقراطية منعزلة عن المحيط ما ترك لديها شعوراً مستمراً بالغربة

نشأت أمينة في أسرة أرستقراطية منعزلة عن المحيط ما ترك لديها شعوراً مستمراً بالغربة

كان المنزل واقعاً وسط حيٍّ شعبي، ومحاطاً ببيوت الفقراء، تنطلق أمينة من هذه الصورة للتعبير عن العزلة التي كانت تعيش فيها هي وطبقتها في زمن طفولتها خلال العهد الملكي؛ حيث كان معظم الشعب يعاني الفقر والبؤس، بينما كانت الطبقات العليا تتمتع بامتيازاتها وحياتها الهانئة. وبينما كانت تتصاعد حركة التحرر المصرية ما بين الأعوام 1946 و1952؛ مع تصاعد العمل الفدائي ضد الإنجليز في قناة السويس، كانت طبقتها الأرستقراطية تعيش خارج الأحداث تماماً، بما فيها الملك فؤاد، الذي كان مشغولاً بلعب “الروليت” في أفخم النوادي.

 

وهنا تذكر أمينة حادثة لا تنساها، تعبر عن مدى الهوّة بينها وبين المجتمع المحيط، التي وصلت حدّ العداء، ففي يوم من الأيام رمتها إحدى الفتيات بحجر بسبب كونها حفيدة إسماعيل صدقي، الذي كان قد وقع آنذاك معاهدةً مع الإنجليز تعزز الوجود البريطاني في قناة السويس.

وهكذا، نشأت أمينة وسط شعورٍ بالقطيعة مع الشعب المحيط، وشعور بالارتباك والعزلة، وهو ما لم يفارقها أبداً طوال حياتها، حيث تعبّر قصتها عن حجم التباين والتفاوت بين طبقات المجتمع المصري خلال العهد الملكي.

 

وبعد إنهائها التعليم المدرسي، اتجهت أمينة لمواصلة دراستها الجامعية في فرنسا، وهناك تفوقت دراسياً، ونشطت في جمعية الطلبة العرب، وبعد تخرجها عملت لسنوات في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، ولكن وبالرغم من كل ما حصدته من نجاحات، إلا أنّها ظلت تفتقد الشعور بالمعنى، وفقدان الرسالة والغاية في الحياة، إلى أن أدركت أنّ لا معنى لحياتها إلا في مصر، فقررت العودة مرة أخرى إلى مصر.

وداد.. مسيرة نضالية

ينتقل المشهد إلى منزل “وداد متري”، والتي تحمل بين يديها صحيفة قديمة، تقرأ فيها خبر فوزها في عضوية اتحاد الطلبة عام 1951، حيث كانت أول طالبة تنجح في ذلك، عندما كانت طالبة فلسفة في كلية الآداب بجامعة الملك فؤاد.

التزمت وداد بالاتجاه اليساري المؤمن بالعدالة الاجتماعية منذ شبابها ولم تفارقه

التزمت وداد بالاتجاه اليساري المؤمن بالعدالة الاجتماعية منذ شبابها ولم تفارقه

كانت وداد -التي نشأت في عائلة قبطية خلافاً لأمينة- منخرطة تماماً بين الشعب، فكانت عضواً في “اللجنة النسائية للمقاومة الشعبية” في المنوفية، قريبة من الناس، مختلطة بهم، تدافع عن مصالحهم، وكانت -ولا زالت- ذات توجه يساري اشتراكي ومؤمنة بالعدالة الاجتماعية.

شاهنده.. مع الفلاحين

أما شاهنده، المنحدرة من أسرة من الطبقة الوسطى، فكما وداد، قضت عمرها قريبة من الناس، مختلطة بهم، وتدافع عن مصالحهم، وكانت شاهنده بالتحديد منخرطة في النضال من أجل حقوق الفلاحين، حيث عملت في اتحاد الفلاحين وخاضت المعارك ضد الإقطاع، وهو الاتحاد الذي تشكل بعد إصدار قانون الإصلاح الزراعي في عهد عبدالناصر، وهو القانون الذي قضى بالحدّ من الملكيات الواسعة والإقطاعية، وإعادة توزيعها على الفلاحين الفقراء، فكانت شاهند تعمل في مكتب وسط الفلاحين، وتشرف على ضمان حقوقهم.

اقرأ أيضاً: خالد محي الدين فارس الديمقراطية والإقطاعي الذي أنصف الفقراء

تزوجت شاهنده من ابن عمتها صلاح حسين، الناشط مع الفلاحين أيضاً، والذي خاض المعارك ضد الإقطاع، إلى أن تم اغتياله من قبل الإقطاعيين عام 1966 في بلدة كمشيش بالصعيد، حيث ينتقل المشهد إلى كمشيش وتستعيد شاهنده الذكريات بالتفصيل.

قضت شاهنده حياتها بين الفلاحين في الصعيد تدافع عن حقوقهم ضد الاقطاع

قضت شاهنده حياتها بين الفلاحين في الصعيد تدافع عن حقوقهم ضد الاقطاع

صافيناز.. الخيار الإسلامي

أما الصديقة الرابعة، فهي صافيناز كاظم، والتي تبدأ ذكرياتها من لحظة الدراسة في الولايات المتحدة، فتتحدث عن اهتماماتها الأدبية في ذلك الوقت، وعن كتابة روايتها الأولى (الطريق إلى منزلي) في صيف عام 1961، مضيفةً: “كانت كتابة الرواية موضة آنذاك، وكان السائد هو التأثر بأسلوب الروائي الفرنسي فرنسوا ساغان”.

 

صافيناز هي إحدى الزوجات السابقات للشاعر المصري أحمد فؤاد نجم. ويبدو عليها من لباسها توجهها الفكري، حيث تنفرد من بينهن بسلوك الاتجاه الإسلامي. ولكنها تعود إلى فترة ما قبل اعتناقها هذا الاتجاه، حين عاشت صافيناز بالولايات المتحدة في الفترة من 1960 إلى 1966، فتقول إنها قد ذهبت بدايةً وهي متأثرة بموجة “التغريب”، وكانت تعدّ نفسها إنساناً عالمياً؛ تتنصل من كل ما هو خصوصيّ؛ فكانت مهووسة بالإثبات للأمريكيين بأن المرأة والمجتمع في مصر لا يختلفان عن نظيرهما في الولايات المتحدة، وأنّهما يسيران باتجاه طريق التطابق معهما، إلى أن وقع في يديها كتاب “روضة الورد” للشيرازي، الذي دفعها إلى إعادة اكتشاف ذاتها الحضارية، وإدراك أهمية التنوع والاختلاف في الثقافة الإنسانية، فكانت تلك بداية طريق عودتها إلى ذاتها، والتي وجدتها في طريق الإسلام.

كانت صافيناز تعد نفسها إنساناً عالمياً وتتنصل من كل ما هو خصوصي

كانت صافيناز تعد نفسها إنساناً عالمياً وتتنصل من كل ما هو خصوصي

لحظة الأمل

ينتقل المشهد إلى حي العباسية في القاهرة، وهو الحي الذي نشأت فيه صافيناز وقضت سنوات طفولتها في شوارعه وحاراته. تسير صافيناز في شارع العباسية وبالقرب من ميدانها “ميدان فؤاد”، الذي أصبح اسمه بعد الثورة “ميدان الجيش”، وتستذكر مشهد عبور موكب الضباط الأحرار بعد ثورة 52، حين وقفت مع أفراد أسرتها على شرفة المنزل لتحية الموكب، وتستذكر المشاعر والآمال الكبرى التي طغت على الجميع آنذاك.

 

وتضيف صافيناز: “في تلك الأيام كان عمر “إسرائيل” لا يتجاوز الأربعة سنوات”، في إشارة إلى الغياب التام آنذاك لأي شعور بالهزيمة، والأمل الكبير بالنصر القادم.

تستذكر وداد أيضاً تلك السنوات الأولى من عهد الثورة، وبالتحديد قرار عبدالناصر عام 56 بمنح المرأة حق التصويت، لتتحقق بذلك إحدى الغايات التي كانت تسعى لها الحركة النسوية المصرية، وتتذكر نزولها إلى الشوارع مع شاهنده يوم الانتخابات لتعليم النساء كيفية القيام بالتصويت، أما شاهنده فتتذكر صدور قانون الإصلاح الزراعي والفرحة الكبيرة التي استقبله بها الفلاحين في الصعيد.

 

وتعبّر صافيناز عن حجم الأمل والتفاؤل وحالة الحلم التي عاشها الشعب المصري بعد قيام الثورة من خلال ذكر قصتها هي وأختها، حين كانتا خارجتين في رحلة حول أوروبا، فكانتا كل من يسألهما أحد عن مصر وعن وجود شيء أو ظاهرة ما في مصر، يجيبانه بأنه سيتوفر “بعد إتمام بناء السد العالي”. “السد العالي”، الذي كان يعني للمصريين آنذاك الكثير الكثير، من توفير الطاقة، إلى تحقيق الاستقلال، إلى إنهاء التبعية، فكان ذا رمزيةٍ عالية. تعبّر صافيناز عن شعورها هي وأختها وحجم الأمل لديهما آنذاك، فتصفها بأنها كانت حالة “الدفاع عن مصرنا، وعن ثورتنا اللي بنحبها”.

صافيناز تقف على شرفة منزل طفولتها في العباسية

صافيناز تقف على شرفة منزل طفولتها في العباسية

الهزيمة وما بعدها

وبعدما كان الجميع قد عاش في واقع أشبه بالحلم، وبدأت أحلام العدالة الاجتماعية، والخلاص من الاستعمار، وتحرير فلسطين، تبدو ممكنة وقريبة، جاءت لحظة الانكسار والصدمة، بعد الهزيمة الكبرى في حرب حزيران عام 67.

حاول عبدالناصر الاعتذار من الناس أو التنازل أو الوعد بإعادة البناء والإعداد، ولكن كل شيء كان قد تلاشى، وشعوراً عميقاً بالهزيمة قد طغى. تلخص صافيناز المشهد من وجهة نظرها، محملةً سبب الهزيمة إلى عبدالناصر بسبب دكتاتوريته في الحكم، أما شاهنده فتخالفها وترى أنه كان صادقاً ولكنه “عَجِز عن تحقيق وعوده”، بينما تسخر صافيناز من الكلمة: “عَجِز”.

تتحدث الصديقات عن التحولات ومظاهر الانحدار في العهد التالي، عهد السادات، عهد سلام كامب ديفيد، وعهد “التبعية”، وعودة النفوذ لرأس المال، والانقضاض على حقوق الفلاحين والعمال. تكتفي أمينة بتلخيص المشهد في الإشارة إلى الانحدار من ثقافة التضحية في سبيل الأمة (في زمن الثورة) إلى الثقافة الفردانية (أنا ومن بعدي الطوفان) في زمن الانفتاح الاقتصادي والتبعية (في عهد السادات). وهو العهد الذي كانت الصديقات الأربع قد اجتمعن في نهايته بسجن “القناطر” حيث توثقت العلاقة بينهن هناك.

الصديقات الأربع يسرن بجانب سجن القناطر حيث اجتمعن وتوثقت علاقتهن

الصديقات الأربع يسرن بجانب سجن القناطر حيث اجتمعن وتوثقت علاقتهن

العودة إلى الإسلام.. حلّ أم أزمة؟

تعددت مظاهر الهاوية والسقوط، من النزول إلى قاع النظام الدولي، إلى صعود السلفية الجهادية، وظهور الفتن الطائفية. وقد تميزت المرحلة التالية بكونها مرحلة الصعود والمدّ الإسلامي، وبالحديث عن تلك المرحلة تتحول المشاهد الأخيرة من الفيلم إلى حوارات تشترك فيها الصديقات الأربع، فيخُضن نقاشاً، ويختلفن حول شعارات تطبيق الشريعة الإسلامية، وشعار “الإسلام هو الحل”، وأطروحات الدولة الدينية، التي كانت في صعود وانتشار في سنوات نهاية التسعينات، زمن تصوير الفيلم.

تصاعد المد الديني الإسلامي، وبخاصّة بعد الثورة الإسلامية في إيران (1979)، والتي تحولت إلى نموذج، تحاول الحركات الإسلامية اتباعه وإعادة إنتاجه، وصولاً إلى عهد حسني مبارك، حيث تواصل نمو المد الديني، وتبلور ما عُرف بـ “الصحوة الإسلامية”، والتي تظهر صافيناز على الطرف المتبني والمنتمي لها، خلافاً للصديقات الأخريات.

تتحدث أمينة عن تأثير العائدين من العمل في الخليج على الثقافة والمجتمع في مصر، وتتحدث وداد (القبطية) عن زمن الفتنة الطائفية، والعدوان على الكنائس، مؤكدةً على الخيار الذي تؤمن به؛ وهو فصل الدين عن الدولة. أما صافيناز والتي تعتبرها صديقاتها “مفكرة إسلامية“، فتدافع عن شعارات الإسلاموية ومظاهرها، بداية من “الزي الإسلامي” الذي تؤكد بأنه “راية تحرير” للمرأة، إلى تأويلها لمعاني “الله أكبر”، بأنها تعني: “أكبر من أمريكا.. أكبر من النظام العالمي”، حيث ترى بأن هناك عداء واستهدافاً عالمياً للإسلام، وهي حريصة على التأكيد: “أنا لا أقول رأيي.. أنا أقول ما هو عليه الإسلام”.

 

أما شاهنده، فتخالف صافيناز في أطروحاتها، معتبر بأنّ “ربنا رب قلوب”، وهي تؤكد بأن “الغرب” يقدم الإسلام كعدو لأغراض تتعلق بقضاء مصالحه. وتعليقاً على الشعار “الإسلام هو الحل”، تبيّن: “لا يهمني الشعارات، المهم أن يكون النظام يحقق العدالة، لو كان نظاماً اقطاعاياً سأخالفه مهما كان الشعار الذي يرفعه”.

وتخالف أمينة صافيناز أيضاً، حيث تؤكد بأن القضية قضية صراع مصالح وليست صراع قيم، وبأنه لو جاءت قوة دينية وحققت مصالح الغرب لن يكون هناك أي عداء لها. وتوافق شاهنده: “ما يهمني هو تحقيق قيمة العدالة الاجتماعية”.

كل هذه الحوارات لم تظهر في إطار قوالب جامدة، فقد أخرجت تهاني راشد الفيلم في صورة عمل فني، حيث تتخلل الحوارات والذكريات، مقاطع تصوّر الحياة في مصر بين الماضي والحاضر، كما يتخللها فواصل من الضحك أو نزول الدموع. وهنا نلحظ عبقرية تهاني، حين تركتهن يتحدثن بحريّة ويختلفن بعفوية وانفعال، وكانت فواصل الضحك محاولة منها لإظهار كيف تتفق الصديقات في الجوهر رغم الاختلاف في التجارب والاتجاهات.

مخرجة الفيلم الكندية (من أصل مصري) تهاني راشد المختصّة في مجال الأفلام الوثائقية

مخرجة الفيلم الكندية (من أصل مصري) تهاني راشد المختصّة في مجال الأفلام الوثائقية

ويبقى “أربع نساء من مصر” أكثر من مجرد فيلم؛ فهو أقرب إلى فعالية، وحوار عام، تتحدث فيها الصديقات عن الأمّة، والسياسة، والثقافة، والأيديولوجيا، وغير ذلك من القضايا والإشكالات، التي كانت ولا زالت تمسّ المواطن من مختلف أنحاء العالم العربي، حيث استطاع الفيلم الربط بين السياسة والأيديولوجيات من الماضي والحاضر مع مزجها بخلاصة تجارب النساء الأربع الخاصّة، فقدم قالباً فريداً من نوعه.

خالد بشير

كاتب أردني
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here