في ادب الحياة، الشيوخ السعداء، هم الذين يحتفظون بنشاط الشباب.

* د. رضا العطار

سيكولوجية الشيخوخة تفرض سلطانها على شبابنا على ان يأخذوا بحكمة الشيوخ في التبصر والاعتدال والتأمل والبعد عن الرعونة والمغامرة. وكل هذه بلا شك تعد فضائل في بعض الاحوال. ولكنها ليست كذلك اذا اخذنا بحرفيتها في كل الاحوال. فان هناك من المواقف ما يحتاج الى المغامرة التي تشبه الرعونة. وكذلك ما نعزوه الى الشيخوخة من الفضائل انما يشتق في النهاية من الركود والجمود كما ان كثيرا من رعونة الشباب انما يشتق في النهاية ايضا من النشاط والشجاعة.

وعلى كل حال يبدو وكأننا قد اكثرنا من النصح للشباب بالاخذ بحكمة الشيوخ، وقد آن لنا ان ننصح الشيوخ بان ياخذوا بحكمة الشباب. واعظم ما يبرر لنا هذا الانقلاب ان الشيوخ السعداء هم الذين يحتفظون بمقدار كبير من نشاطهم وشبابهم، وان يكن نشاط الذهن وشباب النفس فقط، في حين ان الذين يكابدون احزان الشيخوخة واعياءها انما هم الذين قد شاخت نفوسهم وركد نشاطهم. ولكن الذي يجب ان نذكره ان النفس والذهن كلاهما يحتاج الى نشاط الجسم وحيوية الاعضاء، اذ ليس مفر من ان تركد نفوسنا اذا ركدت اجسامنا، وقد يقال اننا في الشيخوخة نستطيع ان نهنأ بالحياة التأملية، نقرأ ونفكر ونتفرج. وليس شك ان هذا كله حسن. فان المداومة على الاهتمام بالصحيفة اليومية في سن الثمانين تبعث النشاط في الذهن. وكذلك الشأن في الدراسة ولكن حياة التأمل هي في النهاية حياة الركود. متى ركدنا بالجسم ركدنا ايضا بالفكر.

وهنا حكمة الشباب التي يحب ان ياخذ بها الشيوخ. وضرورة النشاط بحيث تبقى اعضاء الجسم في حركة العمل التي تتطلب السعي على القدمين والذهاب والأياب وتحمل المسؤليات اليومية امام المكتب او غير ذالك من ضروب النشاط في النفس والذهن، فتبقى الاهداف القديمة والمطامح السالفة والعادات المألوفة قبل الخمسين من العمر ماثلة حية غير معطلة.

ان صاحب المتجر او المكتب او المصنع الذي يكف عن الذهاب الى مقر عمله في الصباح، عندما يظن انه قد بلغ سن الشيخوخة يشرع فعلا في الشيخوخة. ويبدأ في حياة التفرج والتأمل الراكدين بدلا من حياة العمل والتفكير النشيطين. وهو يكاد ينقطع عن الدنيا باهدافه واحساسه. ومثل هذه الحالة تملأ نفسه غما واسفا، وهي جديرة بان تنتهي به الى الوان مختلفة من امراض النفس، واولها ان يجتر ماضيه اجترارا، فيعيد و يكرر ما حدث له قبل نصف قرن. وقد يذكر خصوصياته القديمة فيبتئس بها ويحزن.

وكثيرا ما ترى هؤلاء الشيوخ وقد آثروا العزلة والانفراد. يكرهون الاجتماع والزيارات، وعندئذ ينكفئون على انفسهم ويحدثون مع انفسهم بكلمات مهموسة او مجهورة. ونحن نعزو ذلك فيهم الى خرف الشيخوخة. وما يهم من خرف سوى انهم معطلون جسميا فأصبحوا معطلون فكريا.

ان للعمل اليومي في مواعيده من طاقة واستعداد ودراسة ومسؤلية، نظاما يحمل رجل السبعين على ان يأخذ في حياته بنظام آخر ينأى به الى الاستهتار في الطعام والشراب. فهو ياكل بقدر ويشرب القهوة او الشاي بقدر. يلاحظ في كل ذلك مصلحة عمله وقدرته. وهذا بخلاف الشيخ الذي توقف عن العمل وبدأ لا يبالي بنظام الطعام لابمقداره ولا باوقاته، اذ ليس عنده من الواجبات ما يحمله مسؤليات تحثه على الاحتفاظ بصحته ويقظته وسلامة عضلاته.

ومن هنا سرعة الانحدار في الصحة الذي نجده عند موظفي الحكومة المتقاعدين في سن الستين. فانهم في هذه السن يعدون في العصر الراهن من اطوار الشباب ذي الصحة والنشاط. ولكن الموظف الذي وجد نفسه فجأة قد انقطع عن السعي كل صباح الى مكتبه وانه لا يستقبل من يومه عند يقظته سوى الركود او القعود على خشبة المقهى للتمطي والتثائب وحديث القيل والقال مع المعارف او (قتل) الوقت بالعاب النرد السخيفة. هذا الموظف لن تمضي عليه شهور حتى يحس بنهاية حياته وانه (زائد) على المجتمع يستهلك ولا ينتج، فتنهار نفسه ثم ينهار جسمه.

وانا انصح هؤلاء المتقاعدين لهذا السبب بان يستعدوا لحياة التقاعد منذ عمر الاربعين بان يتعلموا هواية حتى اذا بلغوا الستين وجدوا فيها عوضا عن وظيفتهم السابقة فيبقى كل منهم على نشاطه، له اهداف يحيا لها وبها — واني اعتقد ان تسعين في المئة من الموظفين المتقاعدين يمكنهم ان ينهضوا باعمالهم ويؤدوا واجباتهم الى سن السبعين واكثر. واني لا استطيع ان اقول بهذا الراي لان شبابنا في حاجة الى الوظائف الحكومية، اذ ان اعمالنا الحرة لا تستوعبهم. والاعمال الحرة هي الصناعة والتجارة .

والشاب الحريص على نحافة جسمه لا يسرف في الطعام، لئلا يسمن ويستكرش. ان نحافة الجسم تساعد على استبقاء الشباب الى جانب استبقاء نشاطهم الذهني الذي يعينهم على مواظبة اعمالهم في اعمار اطول. واخيرا احب ان انبه الى ان ايقاع الشيخوخة يجب ان يكون ابطأ من ايقاع الشباب، فاذا كان الشباب يستطيع الاستغناء عن راحة القيلولة مثلا نحو ساعة بعد الظهر فان الشيخ يحتاج الى هذه الراحة اكثر بكثير. ولكن الراحة يجب ان تكون محدودة في النهار وليست 24 ساعة في اليوم.

* مقتبس من كتاب حياتنا بعد الخمسين للعلامة سلامة موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here