مقابر المسلمين

هذا الموضوع أثاره في ذهني  جدل محتدم رأيته على شاشة التفلزة العربية ،   ولم أكن  مُبال به من قبل  لعدم الأهمية ، ولكني لما رأيت الإصرار والنزوع  والتكالب على هذا  ، أحببت أن أقول رأيي ولا آلوا  ،  ومما أثارني في ذلك النقاش  الإصرار الزائد عن الحد من بعض رجال دين مسلمين ،  معتمدين في ذلك على أخبار ومقولات من صُنع صانع   ،  وعلى إعتبار – إن القبر أما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران –  ، والفكرة هذه مستلة من خبر يتردد على أفوآه العوام .
 وثمة من يؤكد على ذلك ظاناً به إنه مسلمة لا شية فيه ، ومع تتبعي لأصل الفكرة وجدت إن عامة الديانات التوحيدية تناكف على أحقية ذلك وخصوصيته ، ولم تكن  حجتهم  في ذلك كافية  ولا دليلهم الذي يستندون عليه تام  وناجز ، وبالتحليل الموضوعي  والقراءة الهادئة  وجدت إن الفكرة تنطلق من  –  أنانية وشعور بالنقص –  في مستهل المعلومة عن لماذا وكيف ؟ ، ذلك أن الأرض بعامتها ليس فيها خصوصية ولا تتعلق بمفهوم الجنة والنار من قريب أو بعيد ، –  إنما جاءت وصفاً وتقريباً للذهن لكي يستوعب معلومة الوصف في البناء للمجهول –  المشار إليهما ، كما أن طهارة الأرض ذاتية ولا تنجس بالعوارض مهما كبرت ، وجسد الإنسان من حيث هو وبناءاً على مفهوم النص في (  كرمنا بني آدم )  ، لا حصرية فيه  ولا تقييد  ، ثم إن فلسفة الدفن تتعلق بالحماية والصون من التعفن وكراهية ماينبعث عن ذلك ، هكذا قال الإمام علي حينما سؤل  عن فلسفة دفن الميت ، وأما هذا الكم من فتاوى الفقهاء عن هذا الموضوع فهي في غالبها متحيز مثير للأشمئزاز ، ولن أو جه كلامي لفئة معينة بل هو كلام أشمل فيه عامة أهل الديانات التوحيدية ، فهناك لدى البعض عجرفة وصلف وخرط قتاد يظهر في كل ما يصفون ويقولون .
 لكن من أين تنبع هذه الفكرة  ؟   قال أحدهم  :  إن مردها لطهارة المسلم دون سوآها !!  ، ولم أعلم من أين جاءت الطهارة حتى لا يجوز دفن غير المسلم بمقابر المسلمين ؟  ، وما علاقة الطهارة المعنوية أو الجسدية في مكان الدفن ؟  ، وهل يعني إن دفن غير المسلم بمقابر المسلمين يُنجس المكان ؟  ، بحدود علمي المتواضع لم أسمع ولم أقرأ عن هذا الشيء  ما يمكننا  الركون إليه ، عدى ذلك العرض الذي ينطلق من أنانية وفئوية ونفي متعمد للآخر ، بل زاد الطين بله إن فئات ومذاهب الدين الواحد تمنع دفن غير الأتباع في مقابرها ، مع علمي ان الجميع من دين واحد فما هذا الضرب على وتر التفريق حتى في الدفن وفي المقابر ؟ ، وماعلاقة ذلك بالله ما دمنا مبتلين بداء الفرقة والتخالف وعدم الإنصياع للوحدة في الدين والإنسانية والمذهب ؟  ، ما علاقة الله الذي لم يحدد لنا إن القبور هي ملاذآت للجنة أو حفر للنيران ؟  ، وبحدود ما قرأت في هذا الشأن  : –   إن تكريم الإنسان يكون بالدفن لعلة نفهمها ،  وهي الحفاظ على كرامته مما يصدر عنه من روائح حين التحلل بعد الموت –   ، وهذه القضية أيضاً بحدود ما أعلم عامة لا أستثناء فيها ولا ممايزة ، وإن صح في مذاهب أقوام من الهند وحتى بعض الغربيين فلا يتنافى مع المبدأ العام للحفظ ، ذلك ان الحرق هو للجسد وليس للروح والجسد بحسب المعلومة العلمية يتحلل أيضاً بالتربة ويتآكل كلاً حسب قدرته وتركيبه البايولوجي .
 والنص واضح في ذلك قوله (  وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ) – 259 البقرة  ،
   ولسنا في مجال شرح النص لكن كلامنا فيما يتعلق بالطبيعة التي يكون عليها الجسد بعد الموت ، ثم إني حاولت نفسي أن أجد ولو دلالة مفهومية على ذلك في كتاب الله المجيد ولم اجد ، وسألت أهل الخبرة في ذلك فلم يسعفني أحد منهم غير كلام وتبرير وإدعاء لا يسمن ولا يغني ، فيممت وجهي نحو تقديس المكان على زعم طهارته فلم أجد ما يوفي الغرض في ذلك ، نعم تأتي القدسية للمكان من خلال المقدس والعظيم ولكن لا يمنع ذلك بحصرية المكان على سوآه دون غيره ، ومن هنا نفهم تلك المقولة الشائعة –  إكرام الميت دفنه –  دونما النظر إلى الأين ذلك لأن المكان لا خصوصية فيه إلاَّ في أذهان البعض ممن أخترعوا  فكرة الطهارة المدُعاة  ،
 لأني أعلم إن –  الأرض لله –  وليست لجماعة أو لفئة أو لشخص وبالتالي يُمنع منه الأخرين ، وحسب علمي إنها من الأشياء التي يتشارك بها بني آدم ، فعلام نفرق ونضع الحدود ونخترع المقولات في هذا الشأن ، وحتى زيارة القبور العبرة فيها التذكير بهادم اللذات ، وليس العبرة بمجرد الزيارة ولا أظن بحسب علمي ان المدفون في أي قبر  يسمع الكلام أو يرد السلام ، إذ مقتضى الحال  يكون –  الموت إنقطاع تام عن عالم الوجود –  ، ولهذا دفع النص بمفهوم  –  تلك أمة قد خلت –  ، طبعاً لا يعني هذا عدم الزيارة بالعكس يجب مواصلة ذلك وتدريب الأبناء والأحفاد ، وهناك قبور عندي واجبة الزيارة كقبر النبي وقبور الأئمة وقبور الوالدين والأقربين ، هي واجبة ليست مستحبة هذا عندي ولكن كلامي ليس في هذا كلامي عن العزل وعن التسميات التي نشم فيها رائحة التفريق بحسب الإنتماء ، وكما إن هذا مرفوض في الحياة الدنيا كذلك يشمل الرفض أموات هذه الدنيا ..
ومن هنا أقول وأتسأل كغيري من أين جاءت تلك الفرية ؟  ، وظني الغالب إنها ليست من منتجات فكر النبوة ولا الرسالة ، لكنها وردت بلسان حال المقابلة وتجسيد ما عليه الأخرين من فعل بالمماثلة ، وكما قلدنا غيرنا في فتاوى واعمال كذلك فعلنا في هذه الشأنية ، وأنا زعيم بأنه ليس في قرآننا شيء من هذا البتة ، لكنه وفد إلينا كما وفدت الكثير من الأخطاء فصارت مسلمات ومناهج بحث تعمد بعضنا ليجعل منها أسس ومباني ديننا الحنيف ، والأمر الذي أعتمدناه في ذلك ليس تلك الأخبار المتهافته عن موضوعة التفريق في المقابر ولا تلكم الفتاوى التي أنبنت على ذلك ، إنما كان دليلي وهاجسي كتاب الله والعقل وهما لم يؤخرى سبيلي وإرشادي في أن ما ذهب إليه القوم ، إنما كان فعل مواز لفعل أخر ومقابل له على نحو من التمييز ، وهذا من الهوى كما هو معلوم وحكم الهوى في مسائل من هذا النوع لا يمكن تغليبها على المنطق والعقل ، وهكذا أهتديت إلى ذلك ورددت مقولة المتمسكين بعدم المجاورة على أساس إن المسلمين أعلى رتبة عند الله ، وهذا وهم ولا دليل عليه غير إتباع الظن الذي لا يغني من الحق شيئا ، وكما بدأنا أول مرة لا فرق عندي بين إنسان وأخر ، وإنما الفرق بالتقوى وهذا عند الله هو يعرفها ويعلمها ، والجنة والنار ليستا في الأرض إنما هما  هذا الشعور الذي يحصل للروح في النوم وعند الموت ، ولا قيمة للجسد إلاَّ بعنوان التوضيح لمن ليس له قلب أو ألقى السمع وهو ضليل …
راغب الركابي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here