الانسان وفضائل الاخلاق – هل يمكن القول ان الانسان كائن اخلاقي ؟

د. رضا العطار

اعتاد فلاسفة الاخلاق تخصيص جانب كبير من اهتمامهم لتعريف موضوع علم الاخلاق. من اجل الوصول الى تحديد دقيق – – – والرأي عندنا ان كل هذه الجهود التي يبذلها الفلاسفة في سبيل تحديد موضوع الاخلاق لا تصلح (لنقطة انطلاق) لأية دراسة اخلاقية جادة اذ ان المشكلة الخلقية ليست مجرد بحث منطقي لغوي خالص وانما هي اولا وبالذات، مشكلة وجودية يواجهها المرء على مستوى (الخبرة المعاشة).

صحيح ان كثيرا من الباحثين قد ذهبوا الى ان الاخلاق هي مجرد دراسة نظرية صرفة ما دام الغرض الذي تهدف اليه هو فهم طبيعة الحياة الخلقية. ولكن من المؤكد ان نقطة انطلاق اي بحث اخلاقي فلسفي لا بد من ان تكون هي الخبرة الاخلاقية Moral Experience – – – ونحن حين نتحدث عن (الخبرة الاخلاقية) فاننا نعني كل خبرة بشرية معاشة يمكن ان تنطوي على (مضمون ذي قيمة). فالحياة الاخلاقية بما فيها من جهد ومشقة وصراع وألم وأثم وخطيئة وندم وتوبة ويأس وشقاء ولذة وسعادة ونجاح وفشل – – – حياة عامرة بالخبرات، حافلة بالمعاني، مفعمة بالقيم.

والخبرة الاخلاقية هي كل تجربة يعانيها الانسان حين يستخدم ارادته، سواء أكان ذلك من اجل تحقيق مقصد ذاتي ام من اجل تغيير العالم المحيط به والتأثير على غيره من الناس ! ولهذا فقد ارتبطت الحياة الاخلاقية منذ البداية بطابع (النشاط الهادف) الذي يراد من ورائه تحقيق (غاية) او بلوغ (مقصد) – – – ومهما اختلفت نظريات الفلاسفة الى مضمون الفعل الاخلاقي فانهم قد يتفقون على القول بانه هو ذلك النشاط الارادي الذي يترتب عليه اثر حسن او سيء، سواء أكان بالنسبة الى صاحبه ام بالنسبة الى الاخرين او بالنسبة اليهما معا.

والحق اننا بمجرد ما نعمل، فان افعالنا سرعان ما تنفصل عنا لكي تصبح ملكا للواقع دون ان يكون في امكاننا من بعد ان نجعلها وكأن لم تكن، وحين يجيء فعلنا منطويا على نقص او عيب او قصور، فاننا قلّما نستطيع بعد تحققه ان نتلافى تماما هذا النقص او ان نصلح تماما ذلك العيب: اذ ان الفعل الذي تحقق قد اصبح بمثابة (واقعة) لا تقبل الأعادة

– – والواقع ان كل موقف من المواقف لا يظهر الا مرة واحدة والى الابد. فهو – بطبيعته – غير قابل للاعادة على الاطلاق، وهو – في جوهره – فردي :اي شئ واقعي آخر. ولكنه بمجرد ما يحدث، فانه سرعان ما يلتحم بنسيج الاحداث، لكي يصبح جزءا لا يتجزأ من صميم تلك العملية الاجتماعية.

وهكذا الحال ايضا بالنسبة الى اي فعل من الافعال : اذ انه بمجرد ما يتحقق فان آثاره لا بد ان تمتد على شكل دوائر تتسع باستمرار وكأنه من شأن كل فعل ان ينتشر على طريقته الخاصة – – – وهو حين يلتحم بنسيج الوجود فانه لا يلبث ان يحيا في باطن هذا الوجود دون ان يزول ابدا، حتى ولو ضعفت ضربات الذبذبات التي تنبعث منه او لو تلاشت في المجرى الكبير الذي يحمل فوق تياره كل شئ، اجل، فان الفعل الاخلاقي بمعناه الحقيقي لا بد من ان يأتي فعلا خالدا، مثله في ذلك كمثل الواقع نفسه.

وقد تكون بعض افعالنا منذ منشئها افعالا غير متدبرة او غير صادرة عن رؤية كافية ولكنها بمجرد ما تتحقق فانها لا تلبث ان تخضع لقانون آخر، آلا وهو قانون الواقع.

وهذا القانون هو الذي يأتي فيضفي عليها حياة خاصة، وعندئذ يصبح في مقدورها اما ان تُسهم في بناء الحياة او ان تعمل على هدمها، ولا يكون في وسع الندم او اليأس سوى ان يقف امامها مكتوف اليدين، والحق ان من شان (الفعل) ان يتجاوز صاحبه، لكي لا يلبث ان يسّمه بطابعه ويصدر عليه حكمه دون ادنى هوادة او رحمة. صحيح اننا قد لا نفطن سلفا الى النتائج التي يمكن ان تترتب على افعالنا ولكن من المؤكد ان لكل فعل نتائجه التي لا بد من ان ترتد الينا وترين علينا حتى اذا لم تكن قد قصدنا اليها.

وما يقال بالنسبة الى الفرد، يقال ايضا بالنسبة الى الجماعة : لان سلوك اي مجتمع او اية أمّة او اي جيل او اي عصر لا بد من ان يولّد آثارا تكون منه بمثابة النتائج الضرورية التي لا مناص من تحملها. – – – وليس من شك في ان ما يستقر عليه قرارنا اليوم انما هو الفيصل بالنسبة للاجيال القادمة، بحيث انه لا بد للزمان المقبل من ان يحصد ثمار ما زرعه اهل الوقت الحاضر على نحو ما انضج الحاضر محصول الماضي.

وكثيرا ما يستشعر اهل الحاضر ان قيم المجتمع قد اصبحت عتيقة بالية وان ثمة قيما اخرى جديدة قد اخذت تتفجر من اعماق التربة الاجتماعية، فتظهر الحاجة عندئذ الى القيام بافعال اصيلة من اجل العمل على توطيد دعائم تلك (القيم الجديدة) التي يتطلبها ذلك المجتمع. – – – وهنا ياتي السؤال الاخلاقي : ( ما الذي ينبغي لنا ان نعمله ؟ لكي يطرح نفسه على افراد الجماعة في حدة وقسوة والحاح – – ولكن سواء أكنا بازاء الفرد ام بأزاء الجماعة فاننا في كلتا الحالتين لا بد من ان نجد انفسنا بازاء (افعال اخلاقية) لها وزنها وقيمتها ودلالتها وآثارها ونتائجها – – –

· مقتبس من كتاب فلسفة الحياة د. زكريا ابراهيم – جامعة القاهرة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here