سعد ناصر جاسم الموسوي عطاء لا يعرف الحدود

عبدالمطلب عبدالواحد
في دقائق كسلى، الوقت المر يقترب من الثالثة فجرا، اليوم هوالجمعة المصادف 17/8/2018، وحيث الظلام ما يزال مسترخيا على المكان، اغمض ابوجنان عينيه مبتسما، سارحا نحو رقدته الاخيرة، تاركا لروحه العطرة ان تحلق في الاعالي وتنثر شذاها على الكون. ترى ما الذي كان يشغل ذهنه في تلك اللحظات ؟، هل كانت شخصيته الجادة دوما، والمحبة للحياة بحلاواتها ومراراتها، وبكل ما اختزن منها من قيم نبيلة ومن علو الهمة…؟، ماجعله مازحا وربما ساخرا من اوجاع الداء العضال الذي اوهن جسده بلا تمهل، وهل كان تعلقه بالحياة وعزيمته الفولاذية ما منحاه قوة الارادة لمعاندة الجسد المنهك، ولممارسة طقسه الذي يحب، متانقا، ماشيا نحو سوق ابي الخصيب للتزود بحاجات العائلة اليومية رغم الالحاح عليه بالراحة، مستقبلا ضيوفه ومحبيه كل يوم، وربما في كل ساعة، بطيبته وحفاوته وكرمه المعهود… ؟؟، وما اكثرهم..!.

ولد الفقيد في عام 1946 في قرية الشلهة على ضفاف شط العرب الشرقية المقابلة لقرية ابي مغيرة، وعاش طفولته فيها، بين الماء والخضرة. وعلى اديمها وبين جداولها وسواقيها وتحت افياء نخيلها كانت مرابع طفولته الاولى. درس المرحلة الابتدائية في مدرسة السبيليات، حيث كان يقطع مع اقرانه الطريق الى المدرسة يوميا مشيا على الاقدام من المنزل حتى ضفة الشط، ليركب في زورق صغير الى الضفة الاخرى، ومن ثم مواصلة المشي من مكان العبور حتى قرية السبيليات. واكمل الدراسة المتوسطة والثانوية في ثانوية ابي الخصيب. وتخرج من جامعة البصرة مختصا باللغة الانجليزية ومتفوقا بها وعند تخرجه تعين مدرسا في ثانوية ابي الخصيب في بداية السبعينات من القرن المنصرم، ولتميزه واخلاصه وكفاءته تم تنسيبه الى التدريس في الاعدادية المركزية في العشار.
انتقل مع العائلة يافعا للسكن في مركز قضاء ابي الخصيب. والده واخواه الاكبر سنا يمتهنون تفصيل وخياطة الملابس الرجالية في سوق ابي الخصيب، كان لديهم ثلاثة محلات، تعلم المهنة منهم وعمل بها معهم في اوقات العطل المدرسية، ولم يدخر جهدا في صباه وشبابه للعمل في جني محاصيل التمور من البساتين العائدة للعائلة، حيث جرت العادة على العمل الجماعي خصوصا في موسم القطاف والجمع والتخزين، تهيئة للبيع الى مكابس التمور المخصصة للتصدير، او للاستخدام المنزلي، وكان قد تعلم واجاد مبكرا تسلق جذوع النخيل الطويلة، والجرداء باستخدام الفروند (التبلية) .
كان متابعا للالعاب الرياضية وعاشقا لكرة القدم على وجه التحديد، ومحبا للسينما منذ شبابه المبكر، متفتحا اجتماعيا، حائزا على دائرة واسعة من العلاقات الاجتماعية والصداقات من مختلف المشارب، وتكمن فرادته مذّاك، في ان نظرته للاخرين كانت تنطلق من السجايا الشخصية والانسانية وصدق الطوية، وليس الاتفاق والاختلاف في الفكر والعقيدة، وقد حافظ على هذه المزايا وصقلها مع الزمن وحاز بها، اضافة الى استقامته ونبله وطيب منبته وتربيته العائلية، وترفعه على الذاتيات والصغائر، على احترام الناس ومحبتهم، كما كان قارئاً نهما، حافظا عن ظهرقلب الكثير من الشعر العربي ولاحقا قصائد مختارة باللغة الانجليزية.
وكان يساري الهوى على الرغم من الخلفية الدينية لعائلته الكريمة المحتد، المنتسبة للبيت العلوي. انخرط في صفوف الحزب الشيوعي العراقي منذ اوائل السبعينات مكرسا جل طاقته للنشاط السياسي والتنظيمي، وبعد توسع التنظيم في قضاء ابي الخصيب تبوأ موقعا قياديا فيه. وعلاوة على مهامه التنظيمية المتعددة، كان عضوا في المكتب الصحفي مع الشهيد قصي عبدالواحد البلجاني ورفيق اخر لا اتذكره. وبالاضافة الى عمله الجماعي في اعداد التقارير الصحفية لصحيفة طريق الشعب العلنية آنذاك، قام بترجمة موضوعات فكرية وسياسية لصحافة الحزب ايضا، كما كان ناشطا في لجنة العلاقات الوطنية، ومشاركا في توزيع جريدة طريق الشعب على عدد من المشتركين من الشيوعيين واصدقائهم بعد قيام سلطة البعث بمضايقة التوزيع العلني للجريدة. وفي صيف 1978 سافر الى بلغاريا في دورة دراسية قصيرة في الاكاديمية الحزبية التابعة للحزب الشيوعي البلغاري في ذلك الوقت، استمرت لعدة اسابيع، عاد بعدها الى الوطن على الرغم من مخاطر الوضع الامني.
غادر العراق اواخر عام 1978 اثر حملة اعتقالات واسعة نفذتها الاجهزة الامنية، طالت الشيوعيين بشكل خاص و شخصيات ديمقراطية وقومية، متجها الى بلغاريا عن طريق البر عبر تركيا وانتقل الى يوغسلافيا ومنها هاجر عبر رحلة مضنية عن طريق البحر الى المغرب وبعد حصوله على الوظيفة تمكنت ام جنان والاطفال اللحاق به الى هناك. ثم انتقل الى الجزائر ومنها الى ليبيا، ممارسا مهنة تدريس اللغة الانجليزية وبسبب من كفائته العالية نسب محاضرا في جامعة سرت حيث كان يقيم. بعدها عمل مشرفا تربويا اختصاصيا على المدارس الثانوية، كما تولى مسؤولية مقابلة الباحثين عن عقود عمل لتدريس اللغة الانجليزية في الثانويات الليبية.
في سنوات الغربة التي نافت عما يزيد عن خمس وعشرين حولا، حمل ابوجنان الوطن بين شغاف قلبه، مواصلا بثبات نشاطه السياسي للخلاص من الدكتاتورية في السر والعلن، وفق ما تسمح به قوانين بلدان الاقامة، مضحيا بوقته وبجهده، مقتسما بسعادة رغيف خبزه مع الاخرين ممن حوله، فاتحا قلبه وبيته لقاصديه من الرفاق والاصدقاء الباحثين عن فرصة عمل في تلك السنوات العجاف. ولابد هنا من الاشارة الى حسن التدبير التي نهضت به معه الاخت العزيزة ام جنان برجاحة عقلها وقوة تحملها ودعمها اللامحدود.
عاد الى العراق مباشرة بعد زوال الدكتاتورية في 2003، الى بصرته التي احبها والى ابي الخصيب بالتحديد، وعلى الرغم من خبرته التدريسية والتربوية الطويلة وثقافته العالية، لم تتم الموافقة الا على اعادة تعيينه دون احتساب مدة الخدمة بمرتب شهري لا يسد الرمق، حاول جاهدا استعادة حقوقه اسوة بالاخرين ولكنه لم يجد اذنا صاغية من الاجهزة التنفيذية لنظام حكام الطوائف الجدد، مما اضطره الى ترك الوظيفة والعمل في المدارس الاهلية، ورغم الاستغلال البشع الذي تمارسه ادارات المدارس الاهلية على التدريسيين عموما، الا ان الدخل الشهري الذي يحصل عليه من المدارس الاهلية اعلى بكثير من راتب الدولة، والمفارقة المضحكة المبكية ان الاسباب التي كانت وراء عدم احتساب خدمته ورفضهم منحه راتبا تقاعديا، ادعاءهم بانه غير متضرر مما يسمونه النظام البائد. وقد رفض باباء الحصول على مناصب سياسية عرضت عليه من جهات متعددة مخاطبا اياهم بصراحة وشجاعة بموقفه الفكري والسياسي الوطني، ولذا وانطلاقا من ذات الموقف المبدئي ترشح على قائمة طريق الشعب لانتخابات 2010 .
بابي جنان خسرنا شخصا نادر المثال، لم تثنه الشدائد، عاش الحياة وغادرها منتصب القامة، مرفوع الهامة، امينا ومنسجما مع نفسه حتى النفس الاخير، واهبا عطاءه الثر نبراسا لنا.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here