زمن التوافه

في عالم  تزداد فيه  القيم إنحداراً  ،  وتزداد  فيه  التوافه  سطوةً وسيادةً   ،  سأل سائل  : وهل للتوافه زمن   ؟   حتى يُقال  –  زمن التوافه  –  ،  أم إن الأمر  من إفرازات  العصر والعولمة  ؟  ،  ولكن ماذا نعني  بمقالنا هذا   وما  نُريد   ؟  ،  وببساطة  نقول  ومن غير مقدمات إن   – زمن التوافه –  الذي نعيش  به  ،  يلتقينا  في الحكم  وفي نظام الحكم  وبطبيعة الحكام   ،   كما  إن التفاهة  أصبحت عنوان  لمرحلة  سادت في الأداب وفي التربية وفي التعليم وفي الإقتصاد وفي كل شيء  ، وقد أُتيح  لهذا  الزمن  ورموزه  السيادة  منذ بداية التسعينات من القرن الماضي وإلى يومنا هذا يتسيدون    ، وأصبح  هؤلاء التوافه هم واجهة   المشهد  يتكلمون  بالنيابة عنا  و يقررون و يفرضون من الشروط  ما تروق  لهم  .
 وفي ظل هذا التهافت  اللامنطقي  غاب عن المشهد أهل القيم وأهل الرسالة ومن يحملون فكراً نافعاً  للمجتمع وللبشرية   ،   ولفظ  –  تافه  –  وجمعه  توافه   لفظ  صحيح رباعي المصدر والرسم   ومعناه : (  في المفرد   ذلك الشخص  الذي فقد توازنه  أو ذلك الشخص الذي   لا قيمة له  ولا عقل وهو من  يتحكم بالعباد والبلاد  ،  والمعنى في الجمع  يشمل المجتمع  والأمة التي فقدت توازنها وأصبحت من غير قيم ولا عقل تهتدي به   )    ،   هذا  المعنى  إن تتبعنا  إسقاطاته  في واقعنا  العربي والمسلم  نجده جلياً واضحاً لا لبس فيه   ،   وسريان  هذا  المعنى  نجده  في  فتاوى شيوخ الدين الذين  غدت مقولاتهم تافهة لدرجة من الإسفاف والسطحية   ،   ونحن قاصدين أن  نشير إلى هذه النوعية  والتي لا عمق  فيها ولا تدبر  ولا تتحرى الدقة وتسير مع الركبان حيث يميل الهوى ومن بيده السلطان .
 إذن نحن نعيش هذا  الواقع وهذا الزمن  الرديء و الذي يحكمنا ويحكم  ثقافتنا  ويحكم فكرنا و وعينا  ، حتى صارت  عادة  ومنقبة  لدى  البعض  حين يستسهل  الخروج على النظام  والقانون  ، وفي ذات  الوصف أنتفت القيم الإنسانية وأنتفت  معه  معاني مقدسة عن الهوية والجذور ،  وأصبحنا في المُخيلة  إن ركزنا  بها  ووعيناها  : –  عبارة عن أوراق  متناثرة  تذرها الرياح حيثما مالت  شمالاً  ويميناً  –   ،  وفي ساحة  المقاربة  و بعيداً عن التعميم سأخذكم  لبعض الأمثلة  من الواقع  كنموذجاً  يمكننا الإشارة إليه   :
المثل الأول  :  (  غياب القيم المؤوسسة   )  وسيادة النزعة العدوانية وتنامي  التجهيل في كل حافات وبواطن المجتمع والفرد . وهنا  تبدو قيم الدولة والنظام والسلوك الحضاري والبناء والإعمار ضرب من الخيال ، لهذا يكثر الكلام عن ذلك من غير عمل ، وتسود في ظل ذلك الأفعال السيئة التي تبتدأ من عدم النزاهة وعدم الإيمان ومن ثم تسود ظواهر الرشوة والفساد بكل عناوينه وأشكاله ، مما يصعب معه القدرة على البناء والإعمار والإصلاح ، وتنامي ظاهرة التفكيك في داخل المجتمع تفكيك أسري وتفكيك في أهمية القانون والنظام ، وإستسهال الأعمال القبيحة وممارسة كل أنواع الرذيلة من قتل وسرقة وإختطاف وإغتصاب وخيانة وسلوكيات منحرفة كثيرة  .
المثل  الثاني  :  (  تنامي الشعور بالنقص والدونية والحقارة )  يؤدي هذا لحنق نفسي على كل ظاهرة خيرة أو عمل حسن  وجميل في الحياة ، وإليكم هذا الفعل الموجه من قبل تنظيمات خاسرة لتقوم ببعض أفعال من القتل المنظم ، لظواهر جميلة في المجتمع حدث هذا مع الشهيدات رفيف ورشا وتارة وسعاد ، وللظاهرة ما وراءها ، ومن جهتي أعتبر ذلك محاولة لخلق نوعاً من التوتر وعدم الثقة بالدولة والنظام والقانون ، كما إنه حنق مقصود وموجه ضد الإنتصار في جبهات الحرب العسكرية على الإرهاب ،  فالخاسرون في الميدان وفي السياسة يذهبون حيث المناطق الرخوة ليثيروا غضبة شعبية عامة ، مفادها إن من يتحكمون بالنظام العام فاشلين وغير مؤهلين ، ولابد من إعادة عجلة الحكم إلى الوراء البعيد !!
ومن جهة أخرى هذا السيبان  من جانب القوى الأمنية  في تتبع أثر الجناة والقتلة ، وتقديمهم للعدالة وهذا يتطلب فعل نزيه وعمل منظم وجهوزية وإيمان ، ناهيك عن حزم في طرد  بعض الأصوات النشاز التي تعلو في التحريم والتحليل   ،  القادمة  من جهلة متخلفين وفاقدين للشرعية والأهلية   (  رجال دين وغيرهم )   ، مما يثير لدى الجهلة ردات فعل مدمرة وغير محسوبة ، ولأن البلد يعيش زمن التوافه فليست هناك جدية في متابعة القضايا التي تهم الأمن والنظام والمستقبل ، وكلما نستبشر أو نُمني النفس بتغيير الحال ، ننصدم بجملة وهالة من الممارسات التي تقول –  إن فاقد الشيء لا يعطيه –  .
في زمن التوافه نفتقد للحسم الوطني والإرادة الوطنية وللفكر الخلاق ، وفيه نسمع فقط ثرثرة وكلام متهالك مبعثر يدل على طبيعة قائليه ، وللمتدخلين في شؤونات العراق أثر في ذلك وهم كثير من الشرق والغرب ، في غياب من بيده  تأصيل  مبادئ  المسؤولية الوطنية والشعور بالواجب الوطني ، والإعلام في زمن التوافه لايبدو إنه مشغولاً أو مهتماً  كثيراً بإيجاد الحلول   ،  إنما يستخدم منابره للإثارة والتحشيد مما يفاقم الوضع في جو من الجهل والتجهيل  المتعمد  كثير ، وكما قلنا إن الشعور بالمسؤولية هي ليست نداء يوجه بل هي حالة ذاتية إن فُقدت فيصعب التأسيس عليها أو بنائها ، خاصة في ظل هذه السيادة الممنوحة من الشرق والغرب لكي يبقى عالمنا يعيش التفاهه ، سلوكاً وممارسة وثقافة وفكراً  ، لا أقول بالتآمر من خارج الحدود لكني لا أنفيه ولكني أعتبر كل مجتمع يفرز ويقدم ما لديه وكما قيل في الأثر –  كما تكونوا يولى عليكم  –  ، فما يحدث عندنا ليس من جهة الأغيار بل هو منا حين أستسهلنا التسطيح والجهل وجعلنا منهما شرعة ومنهاجا ، لذلك تقبلنا طيور الظلام حين أتت  وتحكت في محافظاتنا  الغربية  ، وتفاعلنا مع الناعقين من غير هدي فجعلناهم أئمة وقادة  ، وسوف لن يكون الخلاص من هذا الزمن وتوابعه  ممكناً   من غير نهضة صادقة وتغيير كبير  ،   وبظني إن هذا الخلاص  الآن غير ممكن  ولا متيسر ،   ولذلك يبقى الحال على ماهو عليه ، وإلى أن يحين  ذلك  الوقت  سيظل  يعيش المجتمع والدولة في ظل زمن التوافه..
راغب الركابي  

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here