في ادب الحياة، ينبغي على المتقاعد ألا ينسحب من الحياة الاجتماعية

د. رضا العطار

ظهر في لندن كتاب جديد بعنوان – كيف تستقيل وتبدأ حياتك – لمؤلفه الياور بروكيت

واسم الكتاب يحمل دلالة جدديدة لعصرنا هي ان الناس كانوا قبل مئة عام يستقيلون من اعمالهم او وظائفهم عندما يبلغون الخامسة والستين. وذلك لانهم كانوا يحسون ضعفا في كفاءتهم للعمل او تادية للوظيفة. وكانوا يكفون عندئذ عن العمل او يتركون الوظيفة وهم على احساس بانهم قد شرعوا يتهياون للموت الذي ينتظرهم بعد سنوات.

وكان هذا الاحساس صادقا ينهض على المشاهدة اذ كان معظم الناس يموتون قبل ان يبلغوا السبعين، هذه السن التي عدتها التوراة اقصى ما يمكن ان يطمح اليه الرجل السعيد في هذه الدنيا كما قال سليمان الحكيم، وعلى هذا الاساس سنت جميع الحكومات المتمدنة قوانين تنص على ان كل من يبلغ الخامسة والستين له الحق في الحصول على معاش تقاعدي طيلة حياته المتبقية سواء أكان رجلا او امرأة — لكن يجب ان نذكر ان هذا يحدث فقط عند الامم التي اعتمدت على العلم والصناعة والاختراع والابتكار، كما هي الحال عند الامم الصناعية.

ولكن عندما شرعت انكلترا تنفذ معاشات الشيخوخة عام 1909 كان الناس يعتدلون في امتداد العمر ويموتون حوالي السبعين. اما الان فانهم يسرفون في التعمير ويصلون الى الثمانين والتسعين بلا اقل حياء من وزير المالية، فلم يكن ينفق من ميزانية الدولة على هذه المعاشات انذاك سوى 20 مليون جنيه استرليني. اما الان فان المسنين يكلفونها مئات الملايين، ثم هم في ازدياد لان متوسط الاعمار كان في اوائل القرن لا يزيد عن 50 سنة اما الان فقد ارتفع في انكلترا حتى جاوز السبعين.

ما اغرب هذه المقارنة: اوربا وامريكا تعانيان مشكلة الصحة والحياة الطويلة، وآسيا وافريقيا تعانيان مشكلة المرض والحياة القصيرة. انها لمقارنة محزنة تلك التي نراها في مخيلتنا بشأن المسنين في بلادنا العربية والمسنين في انكلترا وبقية الدول الصناعية

ان الموظف العربي يستقيل من وظيفته وكأنه قد استقال من الحياة. فهو يمضي ما بقى من السنوات القليلة من عمره وهو في تخبط. يقعد على خشبة المقهى قبل الظهر ويشرب عشرات اقداح الشاي ويدخن في اسراف ويتحدث مع اصدقائه عن ذكرياته قبل اربعين سنة كانه هو نفسه قد اصبح جزءا من الماضي. وهو لا يشترك في احاديث السياسة الحاضرة لانها تنطوي على سياسة المستقبل الذي يحس انه غريب عنه وهو ينام بعد الظهر، فاذا افاق فكر في المقهى ثانية وقد يشرب الخمر ويسرف فيها، وقد يدمن عليها لانها تنسيه حاضره التعيس.

الرجل المتقاعد نعرفه كلنا في بلادنا العربية: هو سمين مترهل مستكرش سيء العناية بملابسه مشعث الشعر وهويشكو الروماتزم والكليتين ومرض السكر والقلب كما يشكو سأمه من الحياة كأنه ليس له مكان فيها، عكر الاخلاق عموما يشكو سوء المعاملة التي يلقاها من زوجته وابنائه، يحس انه زائد في محيطه غير نافع. يشكو استهتار الشباب والفتيات وانهم لم يعودوا يبالون بالتقاليد حتى ان احدى الفتيات في اسرته قد صرحت بانها لن تتزوج الاّ من شاب تحبه. اما هو ففي ايام شبابه لم يكن يعرف كلمة الحب وقد اختارت امه له زوجته وهو حين ينهض من المقهى ويذهب الى منزله يسير مطأطئا كأنه يمشي في جنازته وقد تلفف بكفنه، فهو ميت قد تأخر دفنه.

ولكن مع هذه الكلمات والافكار القاسية نحس نحوه رحمة وشفقة ذلك ان اسلوب حياته الذي عاش به في شبابه قد لزمه بعد ذلك في شيخوخته، وكأن العمل الذي كان ينتجه او الوظيفة التي يؤديها يخفيان عنه حقيقة تفاهته، ولكنهما كانا يشغلانه فيجد الاهتمام والالتذاذ في الحياة. اما الان بعد زوال العمل والوظيفة، فانه امامنا و امام نفسه انسان تافه – وهذه هي المأساة.

* مقتبس من كتاب حياتنا بعد الخمسين للموسوعي سلامة موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here