لنترحم على ارواحنا

جواد وادي

هكذا بلغ بنا الحال الكارثي حين يصبح العراقي يترحم على روحه وهو حي يرزق، بعد أن أخذت مخالب الموت الآدمي وليس الرباني، تمتد حتى لأسرّة نومنا ولم يعد بالإمكان رد هذا القدر المحتوم، ليستعد الجميع بالرضوخ للأمر الواقع والتهيؤ للرحيل عن هذه الدنيا بأية رصاصة طائشة من سلاح كاتم للصوت في أي وقت وأي مكان يتواجد فيه، ولا من يدافع أو يتحرّى أو ينقّب أو يعرف من هم القتلة…! خلاف ما كان العراقيون يتعرضون له من موت مفاجئ بتدبير ممنهج وبأدوات معروفة على أيدي ازلام البعث، إن لم يكن في أقبية الموت وزنازينه، فبوسائل متعددة، منها الدهس بالسيارات المارة، او بالسلاح الأبيض، او بإطلاق الرصاصات المنفلتة، أو بتقديمهم لعصائر مخلوطة بسم الفئران، وغيرها من الأساليب الإجرامية المعروفة لدى العراقيين، حيث ذهب ضحية هذه الطرق الخبيثة والمجرمة العديد من العراقيين وخصوصا مناضلي الحزب الشيوعي العراقي في سبعينات القرن الماضي، مرورا بتصفيات داعش بأساليبه الهمجية المعروفة، وعمليات القتل الطائفي على الهوية بين العراقيين، واعداد الأبرياء الذين ذهبت حيواتهم هدرا وسدى، لأسباب تافهة وغبية، لنأتي اليوم لمحنتنا الكارثية بالقتل المفاجئ من طرف عصابات منفلتة ومسيرة من قبل مافيات لها قوانينها في التصفيات وباتت هي من تقرر إبقاء الناس على حياتهم أو من تنوي قتله بجرة قلم لأتفه الأسباب، فقط لبث الرعب بين الناس واختيار الضعفاء والمساكين والمسالمين الذين برأي القتلة يشكلون ازعاجا يقلق راحتهم ويقضُّ هدأة اسيادهم من الفاشيين الجدد، وارتكاب هذا الفعل البهيمي، بنظرهم ونظر من يقودهم ويبارك افعالهم الجبانة، هو الوسيلة الوحيدة لأن يفكر من يتطاول على السدة العالية بالله، كلاما أو انتقادا او تصريحا أو كتابة أو تشهيرا، بأية وسيلة كانت، الف مرة قبل أن يقترب من الهيبة العالية والأسماء المحصّنة بالقوانين التي سنوها لخدمة وجودهم وسلطتهم ومباركة افعالهم وبطشهم وسفالاتهم.
لندع جرائم البعث جانبا، لأنها معروفة لدى الجميع وما من عراقي لم يكتو بلهيبها وبلفحات سياطها، لأن العراقي حينذاك قد ارتهنت حياته، لا بيد خالقه، بل بيد جلادي السلطة وتحت رحمة سيّافيها، انطلاقا من مبدأ: إن لم يمت بالسيف مات بغيره، والمصيبة تكمن بكلمة “غيره” هذه ليتفنن قتلة العراقيين الجدد بوسائل من السهولة واليسر والبساطة، تركت العراقيين في حيص بيص ما يجري، وتظل الأسئلة المحيرة تغلي بدواخلهم، دون أن يجدوا لها فرجا ولا مخرجا، ليسلموا أمرهم لبارئهم، وتحت سطوة ميليشيا الأحزاب المفترسة والهمجية.
فرغم أن مصادرة أرواح الناس تتوحد في ذات الهدف الأرعن، الا أن وسائل التنفيذ وأسباب المحو الآدمي تختلف، اعتقادا من (ضحايا) النظام البعثي المنهار، ممن كانوا يتلقون الاعدامات جهارا نهارا، كما يدّعون، بأن الوسيلة الأمثل للبقاء على سدة القرار وامساك مفاصل السلطة بأنياب تفترس كل شيء، هي بالكشف عن “العين الحمرة” لكل من تسول له نفسه بتجاوز الحدود المرسومة له، وإلا فأن المصير المحتوم يعرفه الجميع، وبات من يتعدى تلك الخطوط الحمراء يعرف مصيره، وفي أي وقت يتخذ القتلة القرار الحاسم بمصادرة عمره، وهذا ما تعرّفنا عليه من خلال الفيديو الذي شاهدناه والتقارير التي ادلت بها الفضائيات، بأن الراحلة الشابة تارا فارس، قد توصلت بالتهديدات، وأنها كانت تعرف أن مخالب المجرمين تترصدها وستنالها ما أن تظل تتمادى بمواقفها، فوقع ما وقع، وقبلها بأيام قامت ذات الفصائل المجرمة بتصفية الناشطة المدنية السيدة سعاد العلي ومرافقها، لذات الأسباب بعد أن تخطّت حدودها وقادت الاحتجاجات الشعبية في البصرة المنكوبة، وقبلها بأسابيع امتدت يد الإرهاب المنفلت الجديد، لشابتين لم تقترفا ذنبا سوى انهما كانتا خبيرتي تجميل، علما أن القتلة من هذا النمط السريالي، لا يعترفون بالحريات العامة وحرية المرء باختيار طريقة العيش والعمل والمنحى الحياتي الذي يختار أو تختار.
وهنا لا بد من التركيز على جرائم اذرع هؤلاء البلطجية المجرمين، حين قاموا بجريمتهم الشنعاء والقذرة بتصفية المفكر والكاتب الشيوعي العراقي الشهيد كامل شياع، المعروف بوداعته ودماثة خلقه ونزاهته، لكن القتلة لا يعرفون من أمر القيم النبيلة شيئا، ولغتهم الوحيدة هي لعلعة الرصاص وتوجيهها صوب الأجساد الطاهرة، دون ان نترك محطة اجرام أخرى بقتلهم الإعلامي والكاتب هادي المهدي، وغيره الكثير، ناهيكم عن تغييب ناشطين مدنيين، لا نعرف مصيرهم ليومنا هذا، هل ما زالوا في غياهب سجون الأحزاب المجرمة أم تمت تصفيتهم، منهم الناشط المدني المعروف، الشحماني.
وبناء على ما سبق ذكره، فان أي شخص بات يرهن عمره على كف عفريت، ليعرف أنه موضوع في لائحة التصفيات في كل لحظة وحين، حتى أننا أحيانا نفاجأ بمقدمي البرامج السياسية وبعض الإعلاميين يتحاشون ذكر أسماء وافعال قادة هذه الأحزاب الطائفية بالسوء أو توجيه أصابع ليس الاتهام، بل فقط الشكوك، بما يفعلون، وما هم عليه من تجاوزات ساهمت بتخريب البلد وافقار الناس وصعود البهيميين من اتباعهم، ليقرروا مصائر الخلق، مخافة أن تصادر أعمارهم.
فأنا شخصيا قد حكمت على نفسي بالموت، شأن العديد من الكتاب المتصديين لشطط وتجاوزات ورعونات هذه الأحزاب وميليشياتها المنفلتة المجرمة.
هذا عرض سريع ومقتضب لبعض الجرائم، فماذا فعلت السلطة لكشف القتلة والمأجورين وفضحهم، هم واحزابهم ومن يتخفّى وراء مجازرهم التي فاقت كل تصور؟ حتى أنها باتت مجموعة سلط داخل سلطة الدولة، بحيث بات من العسير التمييز بين من هي الميليشيات ومن هي أذرع السلطة، ومن التجني أن نذكر اسم “دولة”، لأنها غائبة، بل ومنعدمة بالمطلق.
ها هي الجرائم تترى وبشكل متسارع “وعلى عينك يا تاجر” ويا مكتوي بلهيب سياط مجاميع الفتك، من يحميك من ذات المصير لمن سبقك، بحيث لم يعد هناك من تفريق بين فلان وعلان، الجميع مدرج في لائحة المحو، وعليّ وعلى أعدائي…
هل تعرفتم او اطلعتم أو تبينتم أو اقتربتم من الفاعلين الحقيقيين، في الوقت الذي ما انفكت وزارة الداخلية تصرح وتدلي وتعلن، بأنها توصلت لخيوط الجرائم، وان الفاعلين سينالون جزاءهم العادل.
من هم؟ وما هي هوياتهم؟ وما هي أسماؤهم؟ ومن يقف وراءهم؟ وما أسباب ما ارتكبوه من جرائم؟ وأين هم الآن؟
بإمكاننا أن نعدد الأسئلة ونكررها مرارا ولكن من يسمع ومن يجيب؟ هل استسلمت للأمر الواقع وأن نصيبك لا من الخير، بل من النحر القادم اليك أيها العراقي، لأنك بت على قناعة تامة، بأن الموت المجاني أصبح ممارسة يومية، وطقس إبادة لا مفر منه، ولم يعد أمام العراقيين إلا تهيئة اكفانهم وحملها على اكتافهم بانتظار رصاصة “الرحمة” أو بتلقي ضربات سيوف قاطعي الأعناق الجدد، ليكونوا مهيئين لضربات الغدر التي تنتظرهم.
لا يسعني أخيرا إلا أن اشرع بالترحم على روحي وأرواح مشاريع الفتك المليشياوي ممن على شاكلتي وهم ينتظرون رصاصات النهاية الفاجعة، وأنا معهم، والبقاء في حياة وأذرع واسلحة ومشاريع القتل الأهوج لمواصلة سطوة الأحزاب المجرمة وحكم البلد بالحديد والنار.
ولك الله ومن لا زالت في جوارحهم محبة ونخوة
يا عراقنا الذبيح

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here