نصارى العراق وعمق جذورهم التاريخية والحضارية (*) ح2

د. رضا العطار

لو شئنا ان نرسم ملامح انتشار المسيحية في الديار العربية الشرق اوسطية، علينا ان نبدأ بالولاية الرومانية العربية التي انشئت عام 105 م في منطقة حوران جنوب بلاد الشام، فشملت كل المناطق الواقعة بين وادي الحسا في الجنوب واللجا في الشمال وبحر الميت من الغرب حتى اطراف البادية في الشرق.

لكن الاقبال على المسيحية كان ضعيفا — بدليل انه بالرغم من مرور زهاء ثلاثة قرون من الزمن على بدأها لم يحضر المجمع المسكوني في القسطنطينية عام 451 اكثر من خمسة اساقفة.

ويتبارى المؤمنون من النصارى منذ منتصف القرن الخامس حتى الفتح الاسلامي في تحويل كثير من معابدهم الى كنائس الى ان توجت المسيحية في اكمال بناء كاتدرالية عام 512 — اننا لا نعلم في الواقع متى ظهرت بوادر المسيحية في البادية، لكن بعد فترة وجيزة من انتشارها، عمت عشائر البدو في منطقة غزة — ويقال ان راهبا من الرهبان تضرع الى الله ان يرزق شيخ احدى العشائر الضاربة في البادية ولدا، فأستجاب له ربه دعوته، فتنصر الشيخ واتباعه على اثر ذلك.

يُروى ان جماعة من البدو دخلوا ديرا في اريحا وفزعوا عندما شاهدوا ابن شيخ عشيرتهم كسيحا وقد عجز الاطباء من معالجته، فناشدوا ناسكا كان هناك عله يكون قادرا على شفائه فما كان من الناسك الا ووضع يده على راس الولد وتضرع الى الله ان يشفيه فشفي وعلى اثر ذلك تنصر الحاضرون، وانتشر الخبر في مختلف الارجاء من فلسطين، كان سببا الى اعتناق الكثيرين منهم الدين المسيحي

وجاء في الانساب ان الغساسنة رحلوا من اليمن ونزلوا في مشارف الشام وتنصر معظمهم، وعندما شعر الروم بضغط الفرس وانضمامهم الى عرب الحيرة، دعموا الغساسنة، وكان وجودهم باعثا الى تنصر البقية الباقية منهم.

ولا نعلم متى تسربت المسيحية الى اليمن، لكننا علمنا ان امبراطور الروم قد ارسل عام 356 بعثة تفاوض الى اليمن، الذي تمخضت المحادثات عن الحصول على موافقة. فانشأت اول كنيسة في عدن وغيرها في ظفر

لا يختلف اثنان في ان منطقة نجران كانت اهم مواطن المسيحية في الجنوب العربي، فقد جاء في تاريخ الرسل والملوك للطبري ان قافلة عربية اسرت راهبا سوريا في نجران، فكانت فرصته ان يهدي اهلها الى المسيحية.

ومن جهة ثانية كانت اليهودية قد تسربت الى اليمن من جراء خراب اورشليم، وكان آخر ملوك حمير – ذونواس – يهوديا فاشتدت المنافسة بين النصارى واليهود وانقلبت الى عداء مرير. اوقع بالمسيحيين عام 523 مذبحة شنيعة، فقد رميت جثث القتلى في اخدود تشتعل فيه النيران، وبعد مرور قرن واحد على هذه الاحداث جاء ذكرها في القرآن الكريم في سورة البروج: ( قتل اصحابُ الاخدود، والنار ذات الوقود،اذ هم عليها قعود)

قد يعود الفضل في بدء التبشير في العراق الى الاسرى المسيحيين الذين نُقلوا الى الحيرة بأمر شابور ملك الفرس عام 260 . وقد انتشر شعاع التبشير حتى اضاء البادية بأسرها.

فالنصرانية في بلاد ما بين النهرين عريقة قديمة كما تشهد بذلك النصوص التاريخية لأنها من الاديان السماوية التي قضت على الوثنية.

وقد اورد العلامة الأب لويس بحثا مستفيضا عن النصرانية في العراق، يوم كان تحت نفوذ امبراطورية فارسية مجوسية . وقد جاء في هذا البحث ما نصه:

( لما اشرقت شمس النصرانية، سار دعاتها الى العراق ودعوا الاهالي هناك للتنصر، فلبوا دعوتهم وانضموا اليهم بعد ما جحدوا عبادة الاصنام والكواكب ).

وفي النصف الثاني من القرن الرابع تولى احد الرهبان واسمه – عبدا – بناء الاديرة في انحاء بلاد العرب ومنها العراق ونال الرخصة من مسؤول المدائن – تموز – فبنى ديرا كبيرا في دورقان كما بنى تلامذته اديرة اخرى على شواطئ نهر الفرات في سواد العراق — فهذا العدد الوافر من الاديرة وكثرة المترهبين فيها دليل واضح على ظهور النصرانية بين عرب العراق في ختام القرن الرابع، فكان كل دير بمثابة ينبوع من المياه العذبة تسقي تلك الارجاء محدثة نمو اشجار طيبة الثمار.

ومن اخبار المتعبدين في تلك الاديرة الممتدة بين بحيرة الحمار والبصرة، انهم كانوا يجتمعون في الاعياد يحتفلون مسرورين وفي نفس الوقت كان اهل تلك الاصقاع يخرجون اليهم، يشاركونهم افراحهم ويطلبون من نساكهم شفاء مرضاهم على ايديهم.

وفي اخبار الكنيسة المشرقية عُرف الراهب ابراهيم الكشكري الذي استطاع بقداسته ان يخمد نار الاضطهاد عن النصارى، فعندما سمع كسرى الفرس عن معجزاته، استدعاه. فقد كان ابنه قد ابتلي بمرض عضال استعصى علاجه. فعندما دخل مجلسه، رآه الملك مكتئبا حزينا. فسأله، لماذا انت هكذا حزين ؟ فاعلمه الراهب بان سبب اكتئابه يرجع الى اضطهاد بني قومه. فوعده الملك خيرا ان هو شفي ابنه. فوضع ابراهيم يده على راس المريض وشفاه لساعته. فزال الاضطهاد عن اتباعه المسيحيين واجلس ابراهيم على كرسي المدائن وعلى اثر ذلك تنصر جمع غفير من المجوس.

هكذا كان وضع نصارى عرب العراق وخاصة في مناطق الحيرة عاصمة المناذرة قبل الدعوة الاسلامية بقرنين من الزمن.

الحلقة التالية، الاثنين القادم

* مقتبس من كتاب تاريخ نصارى العراق لمؤلفه سهيل قاشا

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here