من ترضي الحكومة الجديدة ؟

نحن لسنا فرحون بتشكيل الحكومة الجديدة ، فهذه الحكومات راحت تزاد أنحطاط مع السنين ومع كل دورة أنتخابية ، لأن تشكيل الحكومة في العراق ما عادت قرار وطني خالص . فبعد أن أرعد وبرق سائرون في تشكيل حكومة مستقل ، تمخض عن تلك الحكومة الهزيلة ، والتي تبدو مرحلية ، وحافلة بالأزمات ، فصب الخمرة القديمة في أناء جديد لا يغير من طعمها . وبما أننا ، نعتقد ، مدركون لمأزق العراقي ، بكونه ، لا يستطيع أن يعطي أكثر مما في رحمه ، مثل الشجرة لا تقدر أن تمنح غير الثمار التي جبلت عليها وتناسب طبيعتها ، فعلينا ، أن نكف عن النواح ، عما ما لا يمكن حدوثه . ومن هنا قرارنا أن نظر في تلك الظواهر التي ضاعفت من مأزقنا ، ودعت الغراب أن يتشبه بالطواوس ، ونريد أن نكون مثل سويسرا في الشفافية . ونتعلم أن نرضا بما تفرزه الوقائع ، لا سير وراء الأحلام ، ورغبات وما يجب أن يكون . وهذا الظواهر المعيقة ، والتي قد تعقد مشاركة بعض أصحاب الخبرات في العمل الممكن الحصول عليه في دفع عجلات العربة الطامسه في الوحل . هذا الظواهر السلبية هي ما نلاحظها تسود فقط عند الذين يكتبون من خارج العراق ، بحيث باتت تشوش فعلاً ما يجري في الداخل وتحجب الرؤية . فنحن لا نسمع من هؤلاء سوى العويل والبكاء وفِي مبالغات لا ترحم ، فنحن نريد هنا العودة إلى الأشياء والوقائع ، وليس عما يقال عنها من خلال البكائين .

(١) شيء واحد مؤكد ، بأن الحكومة الحالية سوف لن ترض ، اكثرية من يكتبون في الشأن العراقي الذين أكثرهم يعيشون في الخارج ، فما يهم هؤلاء ، ليس الحكومة بحد ذاتها ، ودرجة المعقولية بها وفِي أداها ، ومقدار الخلاص فيها ، ونسبة الوطنية التي تمتع بها ، وإنما ، وكما تعلمنا عنهم ، طيلة تلك الفترة من الحكومات المتعاقبة ، هو الحكومة التي في بالهم ودمغتهم ، والتي ، صورها لهم خيالهم الجامع ، والذي لا صله لها بالواقع . فنحن طيلة عمر الديمقراطية التي عاصرناها ، ما رأيناهم ، أشادوا بمنجز واحد لكل لتلك الحكومات التي مرت بالعراق ، وأنما فقط وجدناهم يتصيدون أخطائهم بعد تضخيمها ، ومسخها . لهذا ، رغم أن هذا الحكومة ، لا نعطيها من جانبنا ، أي متياز على من سبقها ، فأننا سوف نصفق لها ، ونشيد بما تنجزه ، ونأسف لخطاءها ، ولا نعول ونبكي كذباً مع كل حدث . فنحن لا نحلم ، بأي حكومة تحقق المستحيل ، في ظروف العراق الحالية . فكل تلك الحكومات التي مرت وذهبت ، وهذه الحكومة أيضاً ، هي تعبير طبيعة الشعب والنَّاس ، الذين في العراق ، وتناسب قدراتهم وطبيعتهم وظروفهم ، وليس حكومات مثالية واكبر من قدراتهم . بها الكثير ما يؤسف له ، والقليل الذي يفرح به ، فالشوك لا يعط عنب . هذي حكمة التاريخ ، فسويسرا شيء والعراق شيء آخر ، ولا يمكن تقليدها بعقد من الزمن ، ولكن النقاد ، الذين ادمنوا النقد وحده ، ورؤية العيوبها وحدها ، لا يمكن لهم أن يقبلو بأي حكومة ، ما لم تكن على قياسهم وعلى مرادهم . فالتهم لديهم جاهز ، ولا يحتاجو لزمن لمعرفة ما يسفر عنها وما سوف تفعله . فهم قبل تشكلها ، حين عرفوا ، بأنها ليس ما حلمو به ، شرعوا يعزفون نفس السمفونية ، ورحنا نسمع العويل ذاته على على عدم مجئ جودو ( بطل مسرحية صموئيل بيكيت في انتظار جودو ) .

(٢) لعل ابرز ظاهر لدى العراقين هي نقد الآخر ، ونقد الحكومة ، ونقد اصحاب المكانة ( ليس من منظور طبقي ، بالطبع ) . ولقد احتار بعض المفكرين من العراقين في تعليل هذه الظاهرة ، فقديماً ، وفي بداية تشكيل الدولةالاسلامية ، وقت انقسام هذه الدولة لقسمين مؤيدون لخط علي ومعاوية ، قيل ، أن صعوبة مزاج العراقين متأتي من كونهم النواة المثقفة بتلك الدولة ، أي من الحفظة للقرآن ورجال دين ، الذين كانوا مثقفي عصرهم ، لذلك يكثر الجدل والخلاف بينهم حسب ما يعلل الجاحظ . أو ما يقول الأمام علي عنهم بأن أهل شقاق ونفاق، وأنه مستعد على صرفهم صرف الدينار بدرهم ، أي كل عشرين مقابل واحد من أهل الشام الذين تميزوا في اتباع خليفتهم بدون مماحكة . أما في وقتنا الحديث ، فيرجع البعض هذه النزعة ، إلى الازدواجية ، وتذبذب القيم . ولكن ، لو اردنا ، أن نضيف تعليل آخرى ، لقلنا أن العراق كان ساحة معركة بين أبناءه والاطراف الخارجية ، وخضع لاضطهاد مستمر ، فكثر فيه النواح والبكاء ، وأصبح ذلك سمه من سلوكه الواعي ولا واعي ، وباتت يتصرف وفقاً لمنطق هذا السلوك ، ويوظفها في كل مناحي حياته ، فهو يجد في الشكوى والتذمر التعبير عن طبيعته ، ويعد الفرح وأطراء الآخر نوع من النفاق ، فهو إذا ضحك يستغفر ربه من شر هذا الضحك ، لأن الضحك بنظره ينطوي على شر مضمر . وحين يشتم ويسب ، يكون على وفاق مع نفسه وعلى وفاق في لاوعيه . ويعد كل من يمدح آخر على ما يستحق ، تملق وتزلف ، وتلك الظاهر ، التي يحتقرها العراقيون أي اطراء الآخر عن حق ، أبرز الخصال لدى الشعوب المتحضر ، فهي تبحث بين أبناءها عن المتميز لكي ترفع من شأنه وتعلي من قدره ، ولكن تجد العراقيين يبحثون عن الصفات المرذوله لكي يحطوا من أبناء وطنهم . ويمجدون الأبطال لدى الشعب ، لكي يهبطوا بأنفسهم أسفل القاع ، ويجدوا فرصه لنواح ، وندب الدهر ، وهذه الشيوع لتلك الظاهرة واضحه في مفاصل السلوك العراقي . ولذلك ، تجدهم كلهم نقاد ، وماهرون في كشف المستور ، ويصابون بالعمى من كل ما هو مشرق ومضيء ، فأرواحهم مترعه بالذنوب والخطايا ومبرزون فيهم ، فهم بعويل دائم وبكاء لا يكفكف ، الذي هو الحد ألذي يتعطل فيه الخطاب ويتحول للعويل وشتم .

(٣) ونحن لو تسألنا أين الخطئ في العراق ، وهل هو خطأ ما بعد التحرير ، أما أنه خطأ مترسخ منذ حقب طويلة ؟ حقيقة ، أن أهمل البعد التاريخ في سلوك العراقين ، يفاقم من المشكلة ، ويغيب الحل . فمنذ تأسيس الدولة العراقية ، إذا ، ما أهملنا ما قبل هذا التاريخ وأثره فيهم ، نجد العراق ، يعيش أزمة ، تقوم ، على إقصاء اكثرية وعدم الاعتراف بهم كمواطنين من الدرجة الأولى ، ثم ، بعد كل تلك المعاناة جاء النظام البعثي ليرسخ ذلك الانفصال ، وعدم الشعور في الأنتماء ، ولهذا ، كان سقوط هذا النظام فرصة ، ليعبر كل هذا الكبت عن نفسه ، فالعراقيون ، بكل طوائف لا يحسون أنهم ينتمون إلى وطن لا السيد ( المتسلط ) ولا العبد ( الخاضع لسلطة ) ، فالسيد يشعر أنه عليه أن ينهب أقصى ما يستطيعه ما دام السلطة بيده ، والعبد ، يتحين غياب سلطة السيد ، لكي يسترد كل ما نهبه منه السيد وقت سلطته . ولهذا كان سقوط النظام عيد باخوسي بمتياز للكل وما زال يمارس بأقصى طاقة تدميرية لكل ما يوجد . والبعيدين عن ساحة تلك المعركة هم وحدهم الذين يصرخون بوقف تلك الدراما خوفاً من أن لا يبق لهم شيء يسرقوه إذا عادو ! لأننا نجد كل المغتربين العراقين ، حينما عادوا كانوا العتاوي السمان في التخريب والسرقة ، وكان الشعلان أول من دشن الطريق لها . لهذا ، لا يمكن تمنع نفسك من الشك ، بعد هذا ، بأن هؤلاء الذين يصرخون وبشكل دائم ومستمر ، وبهوس مجنون ، أن لا تنظر لهم على أنهم يبكون على ليلهم وعدم وجود الفرصة وضياعها . فأنا ، قلما ، أَجِد أحد من الكتاب العراقين الجدين ، ممن يكتبون ، من جعل من الفساد ، والسرقه موضوعه الدائم ، وإنما يشير اليه على أنه ، بات جزء من عملية سقوط النظام ، ويحث الخيرين على وضع حد له . بخلاف من يصرخون ليل نهار ، وينسون كل شيء آخر من ارهاب وظلم ، وعدم أهتمام بالشأن العام وغيرها محور أهتمامهم .

(٣) يجب أن لا يفهم مما قلناه ، أنا ضد النقد ، وضد تشخيص السراق والمفسدين ، فهذا جزء من واجب المثقفين والنقد ، ولكن ، أن ينصب الجهد على الفساد والسراق فقط ، الموجود ، والمُتَخيّل ، ويغدو هوس ، سوف ، يؤدي ، بل أدى بالفعل ، في النهاية بخلط الأوراق كلها ، وغدا من صعب التميز بين من ومن لا يسرق ويفسد . ولو اردنا نضرب مثال على النقد المفيد والمقبول ، فنحن لدينا ، لحسن الحظ ، عدد من ينتقد بطريقة موضوعية وهادئة ، ( ونحن لا نذكر هنا النقد الهادئ والموضوعي إلى الأستاذ عبد الخالق حسين ، فهو ظاهر فريدة لا يمكن شيوعها ) ونقدهم مقبول مهما اختلفت معه ، لأنه يكتب ، حقيقة بدافع وطني ، وهم مثقف حقيقي ، ولعل أوضح مثال على النقد الحاد والمرير ، هو ما يمثل الكاتب العراقي الجيد صائب خليل ، لأنه يكتب عن قناعه شخصية ، وموقف ملتزم بقول الحقيقة . ولذلك ، في كل ما يقوله ، يبقى ، رغم كل ما يمكن أن تختلف معه ، موضوعي ، ومفيد . ونقصد هنا في الموضوعي ، أنه يقدم بطريقة موثقة ، الوقائع ، والحقائق ، والأدلة ، التي تسمح بجدل معه لمن يريد أن يخوض نقاش عما يقول ، ولا يكيل التهم أعتباطاً ، ولا يسد الطريق عليك ، بتعصبه ، وعدم موضوعيته ، أي أن يظن أنه يقول حقائق مطلقة ومنزلة لا تقبل المداورة . فمثل هذه الطريقة من النقاش ، تشجع الواحد على أعادة التفكير في مسلماته وقناعاته ، رغم أنه ، الواحد ، في بعض الأحيان قد يصفها في المبالغة والتهويل والتطير ، بيد أنها تبقى طريقة مثالية بطرح القضية . فالنقد وكشف عيوب الممارسة في السياسية ، من صلب النقد ، ولكن ، شرط هذا ، أن لا ينسينا ، أن نلمح ، ولو من بعيد ، إلى ما هو جيد ومقبول في الممارسة ، إذا كان هناك ما يستحق ، أن ينوه به ، لأن هذا هو وجه العملة الآخر . فليس العيب بالنقد، وإنما التركيز على بعد واحد من أبعاده المتعددة .

(٤) لم يطرح أحد منا على نفسه هذا السؤال البسيط، برغم من مرور حقبه طويلة ، فكيف يمكن أن تمر علينا أربع حكومات منتخبه عديدة ، وما زلنا ننوح ونشتكي بنفس الطريقة ، فأين العيب ، فينا نحن النقاد ، أم في الحكومات التي حكمت ؟ فإذا كان ، الخلل في الحكومات ، فمن المنطقي علينا أن لا نجئر بالشكوى ، إذا اردنا ، أن نقف لجانب المنطق ، ونأخذ بحجته ، لكون هذه الحكومات ، هي نتاج الشعب الذي انتخبها ، وحينما يصل الأمر للشعب وأرادته ، تصبح الشكاية منه أمر لاغي ، فالشعب حر في اختيار ما يريد إذا لم يكن في ما يريد تهديد ألى الآخرين من الجيران . هكذا تقول كل الدساتير ، بأن كلمة الفصل ، تبقى في نهاية المطاف للشعب ، في أختيار من يمثل أرادته ، ويجب ، أن لا يكون هناك من يملي عليه أرادته ، لأن بهذا ينزع حريته ويصادرها . ومن ثم أذا كان الخطئ في النقد المنفلت ، فأن أصحابه ، مثل الذي يسعي ، لتقويم ظل الشجرة ، بدل الشجرة ، فإذا هي معوجة ، فشيء طبيعي أن تعكس ظل معوج ، فعلاما النواح والعويل بعد هذا ! لذا ما يستنجً من كل ذلك النقد المفبرك ، أنه ليس صناعه محلية ، وأن كان مسوقيه ومروّجيه عراقين ، ولكنه ، نسيجه ومادته اجنبية ، ومخدرات لتعطيل القوى المنتج في العراق . فقد آن الآوان ، أن نغير من نهجنا وسلوكنا ، ونرى المحاسن مثلما نرى العيوب ، فكل مراقب نزيه يستطيح أن يرى تلك الحسنات ، فهي ليس معدومة ، كما يصور النقاد المتزمتون ، والعيوب كثيرة ، وبلى النقاد في كشفها والحديث فيها ، ولكنها ما غيرت شعره في نهج السراق والمفسدين ، فما يقوموا به ما يرتكب عن خطئ وبدون قصد وإنما عن نهج وأصرار . ومادام وضع المجتمع العراقي بهذه الحال ، الذي يحتاج إلى اجيال لتغير ما في نفوس هؤلاء القوم ، فما لم يتم التغير من الداخل بمعجزته ، أو بعموامل كثير غير منظورة ، يبقى الصراخ فيهم صرخة بواد .

هاني الحطاب

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here