لغتنا العربية، بين الفصحى والعامية

* د. رضا العطار

ان التأفف من اللغة الفصحى التي نكتب بها ليس حديثا، فالكاتب المعروف قاسم امين نعي على اللغة الفصحى ايضا وقال : ان الاوربي يقرأ لكي يفهم، اما نحن فنفهم لكي نقرأ. وقد اقترح ان يلغى الاعراب، وتسكن اواخر الكلمات. وقام على اثره منشئ الوطنية المصرية الحديثة احمد لطفي السيد، فأشار بأستعمال العامية اي لغة العامة. ولكن هؤلاء العامة الذين انتصر للغتهم كانوا من سوء القدر لانفسهم بحيث تألبوا عليه وجاوزوه جزاء لا ياتي الا من العامة الذين لا يعرفون مصالحهم.

وفي نفس الحقبة الزمنية حدثت في سوريا مثل هذه الحركة. فألف كاتب غيور رسالة دعا فيها الى اصطناع العامية السورية بدلا من اللغة الفصحى، واستند في دعوته الى ان اللغة العامية اوفى تعبيرا، وادق معنا، واحلى لفظا من اللغة الفصحى. وقد هبت الصحف السورية والعراقية والفلسطينية تقبح رايه وتنسبه الى ضعف الحمية الوطنية مع ان المنطق احرى بان ينسبه الى قوة هذه الحمية التي غلبته حتى اخرجته من شيوعية القومية العربية وحصرته في حدود الوطنية السورية.

ولست انقم على اللغة الفصحى الا لصعوبة تعلمها. وعجزها عن تأدية اغراضنا الادبية. اما من حيث الصعوبة فانه يكفي ان نقول اننا نتعلمها كما نتعلم لغة اجنبية وان احسن كتابنا يخطئ فيها، لا اقول عشرات الاغلاط وانما اقول مئات الاغلاط. واننا مهما تعنينا وتوخينا الصحة. فاننا لعدم اشرابنا روحها وبعدنا عن قياسها لا نزال نرتكب الهفوات فيها. وقد اتهمني واحد ممن يعدون اللغة والقرآن وحدة لا تنقسم، بأني لا احسن الكتابة بها. فأجبته بان هذه التهمة حجة على اللغة وليس هي بالحجة علي.

اني اكتب منذ عشر سنوات واقرأ من كتب الادب مهجورها ومنشورها، فان كنت بعد ذلك اعجز عن الاداء بها، فهي اذن احق باللوم مني، ونحن جديرون بان نبحث عن لغة اخرى نؤدي بها اغراضنا. بدلا من هذه اللغة التي تقتضي من الدرس عشرات السنين ثم لا يحس بعد ذلك دارسها كتابتها. ولكن الواقع الذي لا اناقش فيه ان اللغة العربية يشق على الطالب تعلمها. وطلبتنا مكدودون في المدارس يكدحون لفهم المئات من قواعدها ويخرجون بعد ذلك منها وهم يكرهونها، لانهم لا يرون طائلا وراءها.

ثم هي ايضا لا تؤدي اغراضنا. وقد كانوا يعلمون العلوم في مدارسنا الى عهد قريب بالفرنسية والانكليزية ولا يزال الطب يعلّم بالانكليزية، ولكن الاغراض العلمية يسهل اداؤها باي لغة، بل يمكن اداؤها بالرموز احيانا. ويكفي ان نعرب الاسم الاوربي بلا ترجمة فنبلغ غايتنا من فهمه. ولكن نكبتنا الحقيقية هي ان اللغة العربية لا تخدم الادب المصري ولا تنهض به لان الادب هو مجهود الامة وثمرة ذكائها وابن تربتها ووليد بيئتها. فهو لا يزكو الا اذا كانت اداته لغة هذه البيئة التي نبت فيها – فالدرامة – مثلا لا يمكن باية حال من الاحوال ان تنشأ، مالم تستخدم اللغة العامية. وكذلك القصص بل الادب الاوربي كله يبتدئ تاريخه من الوقت الذي عمد الادباء، كل الى لغته، فكتب بها بعد ان هجر اللاتينية التي كانت لغة اوربا جمعاء.

ويضيف الكاتب المصري ويقول: ومما يمكن ان يجعلنا ننقم على اللغة الفصحى انها بعثرت وطنيتنا المصرية حتى اصبحت شائعة في اللغة العربية. فالمتعمق في اللغة الفصحى يشرب روح العرب ويعجب بأبطال بغداد القدماء. فنظره متجه ابدا نحو الشرق، وكلها ثقافة شرقية، مع اننا في كثير من الاحيان نحتاج الى الاتجاه نحو الغرب. لأن ثقافته تقرر لنا الذوق والنزعة.

وربما كان مما ينقم ايضا على اللغة الفصحى تلك الرنة العالية التي نجدها في الفاظها والتي كثيرا ما تطوح بسببها الكتّاب حتى وقعوا في الاسجاع. وبعض كتابنا يستهويه للان رنين الالفاظ. فيكد ذهنه عند استهلال المقال في ايجاد جملة سجعات، وينثر في غضون مقاله فقرات مسجعة محفوظة من الهمذاني او الحريري او غيرهما ليظهروا للناس بهذا اللعب السخيف تفوقهم في الانشاء. ومنذ اعوام قلت ان افضل اساليب البلاغة هو الاسلوب التلغرافي، لانه يمنع المنشئ من التهتك بالالفاظ والانغماس في طربها الوحشي الذي يشبه طرب الجمال بالحداء. لكن عاب على هذا الرأي بعض الكتاب وابوا الاّ الاستمساك بالاساليب القديمة والاقتداء بالجاحظ والجرجاني والخوارزمي، يرطنون مثلهم رطانة عربية.

ان اللغة العامية التي نتكلمها في مصر ليس لها علاقة بالعربية الفصحى. ونحن لم نكسبها من العرب وانما نزلت الينا من الهكسوس قبل 500 سنة. وان طريقة النفي المزدوج حين نقول (انا ما عملتيش) هي طريقة لا يعرفها العرب. وهذه اللغة تعبر الان عن مزاجنا وتقول بالمعاني التي تختلج في اذهاننا اما اللغة الفصحى فهي( الهيروغليفية)

التي يحن اليها كتابنا وطلبتنا بخواطرهم وافكارهم.

* مقتبس من كتاب البلاغة العصرية واللغة العربية للموسوعي سلامه موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here