الإسلام هو العدو .. فاحذره؟!

مصطفى إنشاصي
انتهى الحوار مع الدكتور فترة دراسة الدبلوم إلى: أننا مع المفاوضات وضد التنازلات! وقد ربطت بننا علاقة طيبة تجاوزت علاقة دكتور بطالب، وفي أحد الأيام بعد إعلان نتيجة امتحان الدبلوم التقينا، وسألني: اخترت موضوع لرسالة الماجستير؟ أجبت: لم أختر بعد. فقال: ما رأيك أعرض عليك بعض العناوين بشرط أن أكون أنا المشرف على رسالتك! ولأن هدفي من الرسالة أيا كان عنوانها كان تقديم رؤية للصراع بأبعاده التاريخية والمستقبلية، ولأني من خلال حوارتنا فترة الدبلوم واللقاءات الثنائية أصبحت على معرفة بأسلوب الدكتور وتوجهاته، ولا أريد أن أختلف معه عند الكتابة، فكان لا بد لي من طرح سؤال مباشر وواضح عليه قبل الموافقة أو الرفض:
من الذي سيكتب؛ أنا أم أنت؟!
فأجاب: أنت طبعاً!
قلت؛ بمعنى أدق: ما هي حدود تدخلك في ما سأكتب؟ هل ستنحصر في الجانب الأكاديمي أم ستتجاوزه إلى إبداء آرائك فيما سأكتب؟
كان رده: في الجانب الأكاديمي فقط، وأنت حر في ما ستكتبه!
قلت: إذن أنا موافق!
وقد عرض عدة عناوين أكثرها ليس لها علاقة مباشرة بالقضية المركزية للأمة – فلسطين – ما عدا موضوع واحد له علاقة بصميم القضية والوطن كله، ولكن مشكلتي أنه طُرح فترة وجودي في السجن وكان ممنوع دخول أي مواد إعلامية لنا، ولا أعرف عنه إلا شذرات، ولم يكن أيامها في نت وجوجل ومكتبات الكترونية وخلافه، وكان هو متشجع له أكثر من بقية العناوين الأخرى، وقالها:
أنت أقدر واحد يمكنه الكتابة في هذا الموضوع، وتقديم رؤية مستقبلية له! وفعلاً الموضوع مهم وخطير، ولم يُكتب فيه من قبل إلا مقالات إخبارية أو تحليلية فقط، ولكن كتب أو رسائل علمية أو أبحاث رزينة لم يكن كُتب.
قلت: نعم؛ الموضوع مهم ويهمني أن أكتب فيه خاصة وأنه جديد ولم يسبق الكتابة عنه، وأنا أميل إلى أن أكون من المبادرين في الكتابة عن هكذا موضوعات، ولكن ليس لدي أي مراجع مبدئية على الأقل أضع من خلالها خطة البحث. قال: لدي كم كتاب سيفيدونك في ذلك ولا أظن أنك ستعجز عن وضع خطة بحث مُحكمة! المهم وافقت، وكان عنوان الرسالة : “أثر السوق الشرق أوسطية السياسي والاقتصادي على دول المنطقة”!
وقد زودني بثلاثة مراجع رئيسة: كتاب (شيمون بيريز: الشرق الأويط الجديد)، وكتاب نسيت اسمه فيه مجموع الأوراق التي قُدمت لمؤتمر دعت له جامعة (هارد فارد) الأمريكية، وشارك فيه قيادات فلسطينية منها الدكتور نبيل شعت وآخرين، وقيادات فكرية وقد تكون رسمية من كيان العدو الصهيوني، ومفكرين من دول عربية وغربية وعالمية، وموضعه دراسة احتمالات قيام سلام بين الفلسطينيين وكيان العدو الصهيوني، وجوهره كان اتفاق أوسلو، فهو كان مؤتمراً اقتصادياً أكثر منه سياسي، وقدم الجانب الاقتصادي على السياسي في نتائجه، وأنه هو الذي سيكون ضامناً لأي اتفاق سياسي، وورقة قدمها أحد مظفي وزارة الخارجية السودانية للوزارة حول مخاطر (السوق الشرق أوسطية على مستقبل المنطقة)، وللحق كانت مع أنها وريقات معدودة مهمة جداً.
اطلعت على المواد التي زودني بها، والحمد لله وفقت في وضع خطة بحث مُحكمة تم الموافقة عليها في أول اجتماع لمجلس الكلية، وبدأت الكتابة. وأعددت الباب الأول المكون من أربعة فصول، وعندما قدمته له، وحدثته عن ما تضمنه كل فصل، توقف وبدأ يبدي اعتراضاته قبل قراءتها! في البداية اعترض على العمق التاريخي الذي يبرز جذور الصراع، فقلت: المنهج الغربي في البحث والدراسة وخاصة عندنا لا يركز على الجذور في دراسة أي قضية لها علاقة بالصراع مع الغرب والعدو الصهيوني، ولكنه سطحي يتناول الجذور القريبة الظاهرة والمعروفة للجميع، وذلك يُفقد أي دراسة عمقها التاريخي المطلوب، فتأتِ الدراسة ونتائجها سطحية، وتقدم رؤية غير عميقة وغير دقيقة للصراع، وذلك ما أوصلنا إلى الحال التي نحن عليها اليوم. فطلب استبعاد بعض الفصول أو دمجها، رفضت! بعدها قال: الباب طويل وذلك يعني أن الرسالة ستكون كتاباً وليس أطروحة ماجستير اختصر المادة المكتوبة! قلت: في الحقيقة؛ أنا أعد الرسالة لنشرها كتاب بعد إجازتها، ومع ذلك سأختصر منها بما لا يخل بالمضون! إلا أنه بعدها قال: يا حبذا لو طبعت الأوراق قبل إحضارها لتسهل قراءتها، فطبعتها! إلا أنه أيضاً رفض استلامها وقراءتها، واستمر الأخذ والرد حول الموضوع نحو أربعة شهور!
اضطررت ساعتها أن أقول له: لا تغضب؛ سأقدم طلب لعميد الكلية أطلب فيه تغيير الدكتور المشرف على الرسالة. ولكنه كان يستبعد أن أفعلها لِما كان بيننا من علاقة وتفاهم! وعندما قدمت الطلب للدكتور عميد الكلية هو الآخر اندهش من الأمر، وقال: حسب علمي أن علاقتكم متينة وبينكم تفاهم كبير! قلت: عن نفسي العلاقة لن تتأثر بطلبي هذا. قال: ممكن تعطيني فرصة أتحدث معه؟ قلت: كما ترى.
وعندما حضر إلى الكلية حدثه الدكتور العميد بطلبي. فقال له: أعطيني مهلة وأرد عليك. وكنت كثيراً ما أعود معه في السيارة وأنا عائد من الكلية فسكني في طريقه لوزارة الخارجية، وأثناء العودة حاول إقناعي بأن العلاقة مع الغرب وأمريكا ليست علاقة صراع دائماً خاصة هذا العصر كما قدمتها في الباب الأول، أنها منذ فجر التاريخ وهي علاقة صراع ومازالت. وبقيت مصراً على موقفي: أن الغرب عدو ولا يمكن أن يكون صديقاً أو حتى محايداً مهما كان إلى أن وصلنا إلى موزاة الشارع الذي يؤدي إلى سكني، وفتحت باب السيارة وأخرجت قدمي من السيارة وهممت بالنزول، وكانت كلماتي:
“دكتور؛ لقد اتفقنا من البداية أن الرسالة رسالتي، وأنا الذي سأكتب وليس أنت” قال: نعم. قلت: وهذا رأي وقناعتي ومقدم على رؤيتي الدليل موثق تاريخياً وواقعياً، اقرأ أولاً ثم اعترض إن كان هناك اعتراض منهجي أو توثيقي أو لديك شيء موثق مخالف لِما أعدل ما كتبته. فقال محاولاً أيضاً إقناعي برؤيته: حتى وإن كنت مقتنعاً بذلك، إلا أنه يتوجب علينا أن نقدم الإسلام للغرب بأسلوب ألطف ونخاطب عقلية الغرب باللين حتى لا يحدث شُك عنده”. فقلت له لحظتها بانفعال: “أنا لا أكتب للغرب ولا يهمني رأي الغرب موافقته أو رفضه لرأي، أنا أكتب لأبناء وطني وأمتي الذين تجرعوا مرارة العذاب والمعاناة بسبب مؤامرات الغرب التي لا تتوقف ضدهم، أنا أكتب ما أحسه وألمسه كل يوم من مآسي سياسة الغرب ضدنا، أنا أكتب لأبناء المعاناة التي صنعها الغرب وصنعتنا هي بدورها، أنا ابن النكبة والمعاناة ولست ابن الغرب، الغرب يعادي فيّ الإسلام ويعمل على تدميره، ولماذا الغرب لا يحاول هو أن يلطف لهجته عند الحديث عن الإسلام ولا يجاهر بأنه هو العدو الرئيس له”؟!
فقال عبارته المشهورة التي كان غالباً يرددها لي ولغيري عني: “أنت ما عندك مشكلة في عقلك، مشكلتك في إصرارك على ما تكتب”! فقلت له بهدوء هذه المرة: “يا دكتور أنت عِشت 20 سنة من عمرك في أمريكا وكان الوضع يفرض عليك أن تكون ليناً أثناء حواراتك ونقاشاتك وأنت تقدم الإسلام لهم بعيداً عن روح الصراع وذلك لتؤلف قلوبهم أو تكسبهم، وعندما حضرت هنا لم تستطيع تغيير أسلوبك هذا، أما أنا فلم أعش في الغرب ولكن عِشت هنا، ومن صغري وأنا أتـقلب في المآسي والمصائب والنكبات التي صنعها الغرب لنا، لذلك لا أرى في الغرب الرسمي تحديداً إلا أنه عدو للإسلام”! فتلى لحظتها قوله تعالى: “وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ” (الحج:40). وعلق قائلاً: إن الصراع هو سنة الله في خلقه وأخذ الأوراق وانطلق”.
وبعد قراءتها قال بصيغة الندم لقراءته لها متأخراً: “ليتني قرأتها قبل أسبوعين، كانت أفادتني كثيراً في محاضراتي لطلبة الإعلام والسياسة في جامعة النيلين، التي يُدرس فيها أيضاً، المعلومات التي قدمتها كثير منها لم أطلع عليه سابقاً ولم أعرفها من قبل، الموضوع رائع جداً”! ومع أني أشكره على تواضعه لكني أأسف على إضاعة الوقت عليّ، لأنه لو قرأها من أول تقديمي لها ولم يؤخرني أربعة شهور، كنت ناقشت الرسالة وحصلت على الماجستير قبل أن أضطر لترك السودان!
وللعلم هذا الباب هو جزء من كتاب كنت كتبته عام 1985 عن القضية الفلسطينية ليكون رؤية إسلامية للصراع، ويجيب على سؤال: لماذا فلسطين هي القضية المركزية للأمة! وكنت أثناء دراسة الدبلوم قد أعطيت فصل منه للدكتور الذي يدرسنا مادة “التاريخ الإفريقي”، وعندما اطلع عليه كان أميناً وصادقاً معي، فقد أعجب به جداً، ونصحني ألا أعطيه لأحد مرة أخرى باسم الثقة! جزاه الله خير.
خلاصة القول: أن المنهج الدارج في كتابة الرسائل العلمية في الجامعات العربية منذ عقود قريبة غالباً لا يعتمد على العمق في البحث لتعميق الرؤية واستخلاص نتائج أكثر قرباً من حقيقة الواقع والصراع الدائر، فضلاً عن أن أكثر الجامعات أصبح التعليم لديها استثماري وكل همها الرسوم، والطالب لا يهمه إلا الحصول على الدرجة العلمية للحصول على وظيفة، أو المزظفين للحصول على ترقية، والأغنياء للحصول على لقب للفشخرة ,..
لذلك حصل هذا الهبوط في مستوى التعليم لدينا وفي السطحية والتسطيح لكل شيء الكتابة، التحليلات، الثقافة، السياسة، كل شيء! فهل لنا في بقية خير في بعض الأساتذة الكبار وجهابذة العلم ليتنادوا إلى تدارك هذا السقوط والهبوط في مستوى التعليم الجامعي والدرجات العلمية؟!

التاريخ: 1/10/2018

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here