قراءة في رواية ( نهر جاسم ) للكاتب قصي الشيخ عسكر

سلطة المكان تؤكد حضورها في الفضاء الروائي بشكل كبير , ومفعم بالتعابير الدالة , في عمق الاحداث ومسار دلالالتها , في عينة التقلبات والمتغيرات والتطورات السياسية والاجتماعية للبيئة الذاتية . في القرية العراقية , التي رسمت رمزية العراق بصورته الكبيرة , عبر الحقب السياسية التي تعاقبت على تداول السلطة , عبر انقلاباتها العسكرية . لذا فأن النص الروائي ينطلق من عملية نتاج الواقع , عبر مخاضه السياسي العسير , وعواصف الاحداث ومساراتها مرت على العراق , التي تناولها بشفافية اسلوبية في المتن السردي , بواقعية موضوعية , تلتزم الصدق التعبير , في منصات المعايشة والتجارب والسير الذاتية الحياتية , وفي براعة توظيف ناصية الاستذكار والاسترجاع ( فلاش باك ) في اطار الخيال الفني الواقعي . في جمالية الابداع الروائي وتتقنياته الضرورية , في الايغال في ذاتية البيئة المحلية . قرية ( نهر جاسم ) في تصوير بانورامي , يسلط الضوء الكاشف على حياة القرية , في معايشتها اليومية وتأثير الموروثات والتقاليد الاجتماعية والدينية والعشائرية السائدة في مؤثراتها على عقول الناس وطريقة حياتهم , واستجاباتهم لها . لقد قدم المتن الروائي , حالة المعايشة في سلوك وتصرفات الشخصيات المحورية في السرد الروائي , في اطار واقعي وموضوعي , دون زخرفة ديكورية متصنعة بتكلف زائد . وانما بحقائقها وواقائعها التي تدب بفعلها على الارض , في ارتباط وثيق في التعامل اليومي ارتباطاً وثيقاً في التعبير والرؤية والموقف والطرح , في اسلوبية روائية برعت في ادواتها الفنية وصياغتها التعبيرية , التي توغلت في اعماق المكان المحلي والذاتي للقرية . ضمن محسوسات العقل الواعي وغير الواعي . في مسح ابداعي, يعكس المرآة الواقع لقرية ( نهر جاسم ) منذ انبثاقها الى خوض غمار التطورات اللاحقة التي عصفت بها , بالمتغيرات المتقلبة . والتي احتلت تغاليف السرد الروائي , في عناصر التشويق الروائي الممتع . في كشف معالم قرية عراقية , مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالعراق , في تحولاته وتطوراته , في كل تفاصيل الواقع اليومي والمعاشي , بتحولاته في الحقب السياسية المتعاقبة , التي تدولات على السلطة والنفوذ , وكذلك كشفت الصراع الناشب بين اركان الحكم والسلطة انفسهم , في احتكار الحكم والتعامل معه , حسب مضمونها السياسي ومواقفها ونظرتها العامة , في العلاقة بين السلطة وعامة الناس . وتوزعت الرواية الى اربعة أقسام , حسب التطورات والاحداث والمتغيرات التي برزت في عناوين الحقب السياسية . وكذلك تناولت التحولات الاجتماعية , التي طرأت على الواقع والاوضاع العامة . وهذه الاقسام هي :

1 – الكتاب الاول : الداهية

الموت والثأر

× الصبية الحسناء ذات العقل الراجح . الذي اطلق عليها مستر ( دوسن ) باني قرية ( نهر جاسم ) ومهندس بساتينها وانهارها , اطلق عليها لقب ذات يوم ( الداهية ) وعرفت فيما بعد به . لقد جاءت مع ابيها وشقيقها ( عبد ) الى ( بيت جوك ) بعدما هربت عائلتها من قريتها , خوفاً من الموت بالثأر العشائري , واتخذت من المكان الجديد , مأوى وملجأ , بعدما اصبحت طريدة وغريبة . وتكيفت مع البيئة الجديدة بأحسن حال في علاقتها مع الاهالي , لكن الاحداث التي عصفت بها , قتل شقيقها ( عبد ) كمطلوب للثأر, وموت ابيها فيما بعد , حتى اصبح قبره , ضريح لمزار الناس . وتزوجت من ( الباشا آل النمر ) بينما كانت ترفض الزواج من الاخرين , ولكنها اقتنعت ب ( الباشا ) وهو شخصية اجتماعية وسياسية لها نفوذ ونشاط تجاري كبير , وكذلك وجد ( البشا ) زواجه الثاني من ( الداهية ) في انجاب ذرية ترث أسمه امواله واعماله التجارية الواسعة , وبالتالي الزواج من ( الداهية ) المرأة المعروفة ذات السمعة المحبوبة والطيبة بين الناس , يصب لمنفعته وتقوية نفوذه السياسي والاجتماعي , بأنه سيحصد اصوات انتخابية اضافية في انتخابات مجلس النواب , التي سوف تجري نهايات الخمسينات من القرن الماضي من تاريخ العراقي السياسي , وهو موعود بمنصب حكومي كبير في الدولة العراقية . اضافة الى اعماله ونشاطاته التجارية , وهو يملك معمل لكبس التمور في قرية ( نهر جاسم ) . وترزق منه ولد اطلقت عليه اسم شقيقها المغدور ( عبد ) . وقد عاهدت نفسها على أخذ الثأر لشقيقها القتيل ( عبد ) وكان زوجها ( الباشا ) له علاقة مباشرة في عملية القتل ( – أنا ولي عبد , سوف يأتي جوابي في الوقت المناسب ) ص19 . وكانت السبب في موت زوجها ( الباشا ) مسموماً , لكن تحول موته الى قضية وطنية , ضمن الصراع والتنافس على السلطة والنفوذ آنذاك . وقد اتهم بسبب موته ( نوري السعيد ) . لانه كان نداً ومنافساً قوياً له , حتى عامة الناس يطلقون اوصاف على ( الباشا ) بأنه فرخ الانكليز , وكلب الاستعمار , ولكن أسفوا على موته , وصبوا جام غضبهم على ( نوري السعيد ) ( نوري السعيد قتل الباشا , وضع السم في فنجان القهوة , سماً بطيئاً كي لا ينافسه في المستقبل ) ص52 .

الكتاب الثاني : الطريق

موت واحتراق الرئيس .

× ارسسلت ( الداهية ) ابنها ( عبد ) الى المدرسة , لكي يواصل تعليمه الدراسي . وعلى صعيد العراق , كان الحدث البارز هو سقوط الملكية . لكنه دشن العهد الجديد , الخلافات والصراعات السياسية على المكشوف . لكن بذات الوقت بدأ الحديث عن أهمية شق طريق عام في قرية( نهر جاسم ) يساهم في تخفيف معاناة الناس اليومية . وضمن التطورات المتلاحقة , يزف الخبر بزيارة الرئيس ( عبدالسلام عارف ) ليدشن افتتاح الطريق العام , وبدأت حمى الاستعدادات للاحتفال في استقبال الرئيس الزائر . واستعدت قرية ( نهر جاسم ) بأحسن حلة من الاستقبال الكبير , فقد تعطلت المدارس ليساهموا التلاميذ في مراسيم الاحتفال والاستقبال , واصطفوا بجانبي الطريق مع حشود الناس , وحضرت الذبائح ابتهاجاً لزيارة الرئيس , وانتظرت الحشود طويلاً لقدوم الرئيس المنتظر , لكنهم تفاجأوا بالخبر الصاعق . حيث قتل الرئيس في حادث الطائرة واحترق بالجو , يا للنشوة التي لم تحصل , وتسجل بزيارة الرئيس للقرية , ولكنها ظلت نشوة فقط لا غير ( – الآن سجل التاريخ ( أسم النشوة ) حيث قتل الرئيس وعادت قرية نهر جاسم الى النسيان )ص100 . وعادوا الاهالي الى بيوتهم خائبين , وانصرف تلاميذ المدارس الى بيوتهم , وبدأ القيل والقال والتنابز واللغز , حول مقتل الرئيس , فالبعض كان متهكماً بالسخرية , والبعض الاخر يدعو الى التروي والرحمة والسماح للقتيل المحترق ( – يا جماعة . المثل يقول اذكروا محاسن موتاكم , لقد قلت دائماً ان الله يسامح عبدالسلام عارف على أخطائه , لكونه خلصنا من الحرس القومي وافعالهم السود ) ص102 .

3 – الكتاب الثالث : الشبكة .

جواسيس واعدامات .

ويأتي البعث من جديد الى السلطة . في انقلابه الثاني عام 1968 . وبدأ الناس في حالة الحذر والتوجس والقلق , خشية من ظهور الحرس القومي السيء الصيت والسمعة من جديد , وخوفاً من فتح السجون وانتهاك الحرمات . وبدأوا يترحمون على عهد الحاج مشن وسفن آب , التسمية التي يطلقونها على عهد عارف , فقد جاء الى الحكم , عصير صعب الهضم ( البعث ) الباء بعوض . والعين عبث , والثاء اعدامات تعلق في الساحات , ولكن مقابل هذه التطورات السياسية العاصفة , بدأت قرية نهر جاسم , تتلمس بحبوحة العيش في طور جديد . فقد دخلت الكهرباء والتلفزيونات والثلاجات , بالنهوض الجديد في القرية . ولكن ايضاً بدأت جحافل الامن والجيش الشعبي , تظهر من جديد في الشوارع , مما يثير هذا الظهور مخاوف , بعودة الحرس القومي , بأسلوب ومظهر جديد , والعراق عرف بعهد الانقلابات العسكرية المتعاقبة ( حين انقلب القومييون على البعثيين وارسلوهم الى السجن , أستقبلهم الشيوعيون وهم يغنون : سبحان الذي جمعنا بغير ميعاد , وهاهم الشيوعيون بصفتهم خميرة , يستقبلون القوميون بالترحاب ذاته ) ص111 . وظهر اول الغيث في حكم البعث , في اكتشاف شبكات التجسس واعدامهم وتعليقهم في الساحات في البصرة وبغداد . بذريعة ( منذ سنوات والجواسيس يعيثون فساداً في بلادنا , نشروا اسراننا لاسرائيل , وتكاثروا تكاثر الصراصر والذباب , حتى كدنا نراهم في بيوتنا , واعتقدنا أنهم مندسون بيننا , ومع أطلالة العهد الجديد , أنتهى عهدهم . ولكي يكونوا عبرة لذوي النفوس الضعيفة ) ص120 . . ونجحت ( الداهية ) في اعفى ابنها من الخدمة العسكرية الالزامية بعد حصوله على الشهادة الجامعية , بدفع الرشوة . بأنه مريض غير مؤهل للتجنيد العسكري الالزامي , لكي يتفرغ الى نشاطه التجاري بين البصرة وبيروت . وفي نفس الوقت تحذره بشدة , بصيانة لسانه وعدم التطرق الى السياسة والحزبية , لانهما مثل البيضة الفاسدة .

4 – الكتاب الرابع : الحرب

قربان الضحايا الابرياء في الحرب .

يتصاعد احاديث الناس عن اكتشاف النفط تحت ارض قرية نهر جاسم , لهذا الزرع لم يثمر, وتناولت الاقاويل عن شروع الحكومة في شراء الاراضي من الاهالي , مقابل المظاهر الحياة الجديدة , في تبعيث المجتمع , بالدعوات الى الانضمام الى حزب البعث , والعراق يشهد انجازات تقدمية في تطور الحياة المعيشية مثل تأميم النفط . وأمتلئت الشوارع بالشعارات البعثية التي تلاحق الجميع , مما يزيد هاجس القلق والخوف عند عامة الناس . والصراعات بين اقطاب البعث , في نزالهم في كسر العظم بين القيادة البعثية نفسها , فقد اضطر الرئيس الى التنازل عن الرئاسة , وتقديمها على طبق من الذهب الى صدام حسين , الذي اصبح الرئيس الجديد على كبش القربان , في المجزرة التي فتكت بنصف القيادة البعثية , ليدشن عهده بالتسلط والاستبداد والارهاب . والحملة في التجنيد للبعث تحت شعار ( العراقي الجيد هو البعثي الجيد , وأن لم ينتمِ ) ص157 . وطفحت على السطح المناوشاة الخطيرة . وقرع طبول الحرب , ضد ايران بعد سقوط حكم الشاه . وصار الناس في دوامة القلق والخوف , في انتظار ساعة الصفر , واعلان الحرب . وسقطت قرية نهر جاسم بين حوافر الحرب ك ( حصان الطروادة ) واصبحت غير صالحة للعيش والسكن . وعلى الاهالي الانتقال الى مكان اخر في البصرة اكثر سلامة لسلامتهم , وهذا القدر المحتم عليها ( في غضون ذلك تحتم على نهر جاسم , ان تحتضن الموت , أشبه بأعدام حصان معتوه بدلاً من ان يذهب أهلها الى مكان اخر ليعزوا ذوي الموتى ) ص185 .هكذا يلوح الموت فوق الرؤوس , في نار الحرب التي تأكل الاخضر واليابس . وان يكون العراق مجنداً للحرب , وعليه ان يختار الموت تحت اية لافتة يروج لها النظام البعثي . أما شهيد . او خائن . او جبان متخلف عن الواجب الوطني . ففرق الاعدامات موجودة خلف جبهات الحرب. في حرب شعواء بأرادة عقلية مجنونة

جمعة عبدالله

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here