صلاح نيازي ورشيد الخيون: البصرة كانت جنة البستان

المنتدى العراقي ببريطانيا احتضن أمسية ثقافية عن البصرة، المدينة التي تميزت بتراثها الأدبي والفني والفكري العريق إضافة إلى تراثها العلمي الذي يمكن وصفه بالحدس.
الاثنين 2018/10/22
تمثال شاعر القصيدة العربية الحديثة بدر شاكر السياب في البصرة (تصوير: وارد بدر السالم)

تحفل البصرة المدينة العراقية العريقة بتاريخ نادر، ففيها اجتمع كبار المفكرين والأدباء والشعراء وفيها قامت أحداث وتقلبات سياسية وتاريخية شتى، وفيها أيضا عناصر الطبيعة التي يندر توافرها في غيرها في اجتماع نهري دجلة والفرات ووفرة الماء والنخيل والنفط. ما جعل من هذه المدينة لوحة منصهرة العناصر والألوان والأصوات، لكنها غير مثمنة اليوم كما يليق بها.

لندن- دعت اللجنة الثقافية في المنتدى العراقي ببريطانيا الخميس الماضي إلى أُمسية خاصة بالبصرة، تحت عنوان “مدن العراق.. البصرة نموذجا في فضائها الفكري والأدبي والفني”، تحدث فيها الأديب والشاعر صلاح نيازي عن مائيات السياب، والباحث رشيد الخيُّون عن التراث الفكري البصري، وعُرضت لوحات الفنان فيصل لعيبي الخاصة بأجواء وشخصيات البصرة. قدم الأمسية الشاعر والفنان فلاح هاشم، الذي قرأ قصيدة “أنشودة المطر” للسياب، واستهلت الأُمسية بأغنية للفنانة العراقية أمل خضير “مركب هوانا للبصرة جانا”، وختمت الأمسية بأغان لفرقة الخشابة البصرية المشهورة، مع عرض شريط عن تراث البصرة الاجتماعي والفني والأدبي.

التفاؤل بالماضي

في البداية تحدث الباحث رشيد الخيون عن البصرة، مشيرا إلى أنه لا يملك غير التاريخ، فحاضر البصرة لا يُعتد به، وحسب ما قال، إنه متفائل بالماضي. وحدد الخيون أربعة عناصر تاريخية بالبصرة، شهدت لها بها الدُّنيا. وقال إن الماء هو أولها، حيث قال بشار بن بُرد في مصب دجلة والفرات، حيث شط العرب بالبصرة “الرافدان توافا ماء بحرهما/ إلى الأُبلة شربا غير محضورِ”.

كما أطنب عند أقوال الجاحظ البصري عن الماء، والذي تحدث عن ظاهرة المد والجزر، وأن الماء كان يصل إلى أبواب منازل البصريين، حسب حركة القمر، وكيف كان البصريون يتحكمون في هذه الحركة. كذلك قرأ على جمهور الحاضرين ما ثبته الجاحظ في شأن خراج البصرة، البالغ ثلث خراج العراق ككل آنذاك، رابطاً بين خراج الزمن الماضي وخراج الوقت الحاضر المتمثل بالنفط. ومعلوم،

حسب المحاضر، أن الجاحظ المعتزلي كان معتزا جدا بمدينته التي ولد ونشأ ومات فيها، مستدركا “لكن للأسف أن هذه المدينة لم تذكره بنصب تذكاري، مثلما تعلوها الآن قُبب لعدد من الأضرحة، وما أكثر الوهميين منها”. إلا أن ما تركه الجاحظ من ثروة أدبية، كما قال الخيون، لم تخل منها مكتبات الملوك ولا الرعية، شاهد على عطاء البصرة الغامض.

كذلك تحدث رشيد الخيون عن النخيل، مستشهدا بأبي حاتم السجستاني، المتوفى 250 من الهجرة، والذي روى كلمة لهارون الرشيد عن نخل البصرة “كل ذهب وفضة الأرض لا يبلغ ثمن نخل البصرة”. والسجستاني يقول “نخل البصرة أكثر من نخل الدنيا مرارا”. ومعلوم أن البصرة اشتهرت بالنخل، حتى أحد أسمائها تدمر، أي أرض النخيل.

وأضاف الخيون أن البصرة عُرفت كذلك بمدرسة لغوية، وأول معجم للعربية ظهر في أرضها، وهو معجم “العين” لأبي خليل الفراهيدي البصري، الذي ولد ونشأ ومات بالبصرة.  أما في الوقت الحاضر فتشتهر البصرة بالنّفط، الذي لم تنتفع منه شيئا، بعد 2003.

وقديما كان النفط مادة منحوسة، لكنه بعد وجود الماكنة صار أول وأهم مصدر للطاقة. قديما عُرف النفط، وسمي بالقير البابلي، لم يُستخرج لكنه كان يُجمع من على سطح الأرض، ويستخدم في الحروب كمادة حارقة، وهناك فرقة في الجيش العباسي تُسمى بالنفاطين. ولأنه كان مادة منحوسة قال صمد بن المعذل، من شعراء العصر العباسي الأول، هاجيا والي النفاطات، أو النفاطين “لعَمري لقد أظهرت تيها كأنما/ توليت للفضل بن مروان منبرا/ دع الكبر واستبقِ التَّواضع أنه/ قبيحٌ بوالي النِّفط أن يتكبرا/ لحفظِ عيون النِّفط أظهرتَ نخوةً/ فكيف به لو كان مسكاً وعنبرا”.

بعدها تحدث الباحث الخيون في ندوة البصرة عن الفضاء الفكري المتمثل بالمعتزلة وإخوان الصفا، منوها إلى عدم الحديث عن تاريخ المعتزلة لأن الوقت لا يسمح بذلك، ولا الحديث عن أصولهم، والمتمثلة بالتوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعد والوعيد، والأخير يخص الجنة والنار أي الثواب والعقاب، لكنه استفاض بالحديث عن التراث العلمي، الذي وصفه بالحدس لأن الأوائل لم يدخلوا المختبرات كي يعطونا نتائج علمية، مثلما هو الحال اليوم. وتحدث أيضا عن الحوار أو الجدل بين البصريين المعتزلة والبغداديين حول الأرض، شكلها وحجمها وقطرها وحركتها، فالمعتزلة أكدوا “كُروية” الأرض، أي أنها على شكل كرة، وتحدثوا عن سكونها وحركتها، ومنهم من وصف شكلها بمح البيضة.

كما تطرق الخيون إلى الجدل بين المعتزلة في ظاهرة سقوط الأجسام، واستخدام المعتزلة لمفردة التفاحة كنموذج لتمثيل سقوط الجسم، فهل يسقط بـ”الهوي” أم بدافع، وما هو الأسرع في السقوط التفاحة الثقيلة أم الريشة الخفيفة.

رشيد الخيون:  المعتزلة أول من قالوا بكروية الأرض والجاذبية ودحضوا الأباطيل
رشيد الخيون:  المعتزلة أول من قالوا بكروية الأرض والجاذبية ودحضوا الأباطيل

لكن أهم ما طرحه المحاضر عن أفكار المعتزلة وإخوان الصفا هو قولهم بعدم تدخل الله في الطبيعة، فهم في الوقت الذي يؤكدون فيه خلق الله للكون والطبيعة، لكنهم يرون أن القول بتدخل الله في شأن الطبيعة رأي فاسد، وحجتهم في ذلك أن الله حكيم، وخلق الكون بحكمة، وترك فيه عناصر التحكم بنفسه، وهو ما يمكن التعبير عنه بقوانين الطبيعة، وقد مثلوا ذلك بأن زراعة بذرة الشعير لا تعطي نبتة قمح، فالكون خلق بضوابط، وهذا الإنسان قادر على التوقع بما حوله.

أشار الخيون إلى أن ذلك يفيد في محاربة الشعوذة. فباسم الله يعمل المشعوذون في تطبيب الناس البسطاء، أو قراءة الحظ وخلافه، ومثلما لا يتدخل الله في الطبيعة فهو لا يتدخل في شأن المجتمع، وهذا اعتراض على مَن اعتقد أو قدم نفسه على أنه يحكم باسم الله، أو أنه ظل الله على الأرض، فالحكم يكون من المجتمع، وإن الحاكم مسؤول عن المظالم، فهي ليست من الله في شكل من الأشكال، ويُحاسب عليها. هذا مختصر ما جاء في حديث الخيون ضمن ندوة البصرة، التي كانت حسب ما نقل عن عبدالله بن المعتز ضمن ترجمته لأبي نواس “وقد تأدب بالبصرة، وهي يوم ذاك أكثر بلاد الله علما وفقها”.

أنشودة المطر

بعد أن قرأ مُقدم الندوة فلاح هاشم قصيدة السياب “أنشدوة المطر” كمستهل لحديث الشاعر والأديب صلاح نيازي، الذي عاصر السياب، والتقى به، وكان أحد الذين تأثروا به كشاعر. افتتح نيازي حديثه بوصف القصيدة المذكورة بصومعة الشعر العراقي الحديث منذ الخمسينات وحتى الآن، معلقا على إلقاء القصيدة “ليت السياب كان حاضرا ويرى جودة الإلقاء، لأنه بقدر ما كان شاعرا كبيرا كان ضعيف الإلقاء لقصائده”.

ثم تناول نيازي مقدمات الشعر الحديث، فقبل الخمسينات أصدر السياب ديوانه “أساطير”، ونازك الملائكة كتبت قصيدتها “الكوليرا”، ولما جاءت إلى أبيها الشاعر أيضا لترى رأيه في القصيدة قال لها “لكل جديد لذة، ولكنني وجدت جديد (حديث) الشعر بلا لذة”. تلك إشارة إلى أنها بدأت بقصيدة الشعر الحديث، والسياب لم يكتب شعره إلا بعد ذهابه إلى النجف وقد تأخر هناك وتأثر، لكنه تطور بعد “أساطير”.

وأضاف نيازي “غير أن الشعر الحديث العراقي جاء متأثرا بعدد من التيارات منها وصول الشعر الأوروبي مترجما، وكانت القصائد التي وصلت مؤثرة بالمواقف الفلسفية. كما تأثر بناظم حكمت التركي، وقد تبنى شعره، في الخمسينات، الشيوعيون، وقد امتاز بلغته البسيطة، لذلك تأثر به بعض الشعراء، وما عُرف بالقصيدة الصحافية، وإن كانت هذه القصيدة معروفة في العصر العباسي، ورائدها يُعرف بابن المعلم، والذي كان ينظم الحوادث الاجتماعية اليومية. ومن المؤثرات كذلك قصائد طاغور الهندي، الذي تأثر به الشعر المصري أكثر من غيره، والعراق كان بعيدا عن ‘الطيور الهامسة’ و’العطور’ والأشياء الروحانية الأُخرى”.

وقال نيازي إن هناك شيئا مهما، سبق قصائد الشعر الحديث، للشعراء المعروفين، وكان أساسا له، أن الشعراء العراقيين لم يطلعوا على النثر كالرواية والمسرحية مثلا، “وأنا أعرف السياب عندما كنا نلتقي به في المقهى، أنه لم يقرأ النثر”، وكذلك الشعراء الكلاسيكيين المحدثين لم يهتموا بالنثر، وهذا ما أشار إليه كامل الجادرجي في كتاباته، قال “لم نستفد من الشعراء العراقيين في كشف الحياة الاجتماعية المعاصرة لأنهم لا يقرأون النثر. غير أن قراءة النثر من قبل الشعراء بدأت في الخمسينات مع صدور مجلة ‘الأديب‘ و‘الآداب‘ ووصولهما إلى العراق، فهما قد نشرتا الأعمال المترجمة في الفلسفة الوجودية، وبعد ذلك وصلت ترجمات الروايات عن دار اليقظة السورية، كترجمات روايات الأدب الروسي، مكسيم غوركي ودستوفسكي على سبيل المثال لا الحصر. فاطلعنا كشباب، آنذاك، على هذا الأدب، وحينها لأول مرة يتأثر الشعراء بعد جيل السياب بالنثر”.

بعدها تناول المحاضر صلاح نيازي قصيدة “أنشودة المطر” أو “مائيات السياب”، وهي من أبرز مائياته، إن صحت العبارة. وقال “أين نضع أنشودة المطر، التي لا أعرف قصيدة عربية خُصصت للمطر فقط، والسياب كما تعرفون كانت ثقافته الفطرية ليست بمستوى شعره، وكذلك الحال بالنسبة إلى شكسبير، كانت ثقافته أقل من عظمة شعره، وهو لم يقرأ إلا نحو عشرة كتب، لكنه كان يهضم ما يقرأ، وكذلك الحال مع السياب”.

وتابع نيازي “درس السياب الأدب العربي في دار المعلمين العاليا (كلية الآداب) لسنتين، ثم انتقل لدراسة الإنكليزية، ومع الإنكليزية شهدت موهبته الشعرية تطورا كبيرا جدا، لأنه أخذ يتأثر بالأجواء والثقافة الإنكليزية. مما لا شك فيه أن السياب كان من بُناة الشعر الحديث، أو شعر التفعيلة، لكن قبل السياب هناك إرهاصات تأسس عليها هذا الضرب من الشعر”.

يذكر من هذه الإرهاصات أنه قرأ قصيدة للشاعر محمود حسن إسماعيل نشرها العام 1935 في مجلة “أبولو”، وكان مكتوبا عليها “من الشعر الحديث”، شعر التفعيلة. كما ترجم الأديب الحضرمي أحمد علي باكثير مسرحية “روميو وجوليت”، من الشعر التفعيلي، والسياب نفسه اعتبر باكثير أول من كتب الشعر الحديث، وقد ذكر لي أنه كتب رسالة إلى باكثير يشهد له فيها أنه أول من ابتدع الشعر الحديث عربيا. كذلك في العام 1920 صدر ديوان شعري في الشعر المنثور في العراق لمراد ميخائيل.

وفي العام 1930 نشر روفائيل بطي، وزير الإعلام العراقي في العهد الملكي، أول ديوان من شعر النثر. يخلص نيازي إذن إلى أن هناك إرهاصات عديدة ومهمة تجمعت بعد ذلك لتكون قصيدة “أنشودة المطر”، التي عندما صدرت ارتج العراق لها والأُمة العربية، كأنما أُكتشف شيء جديد لم يكن قبل ذلك، والكل حينها كان يردد القصيدة.

رشيد الخيون

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here