قصة المدينة المدورة

منذ ان بنى الخليفة العباسي ( ابو جعفر المنصور ) العاصمة المدورة و الحقد البدوي المتخلف لم يتوقف او ينقطع و كان يأتي على اشكال متعددة من الغزو الهمجي للقبائل البدوية الى الأحتلال الثقافي لتلك الجحافل القروية المحملة بالحقد و الحسد على المدينة و المدنية فكانت ( بغداد ) تئن تحت وطأة تلك الغزوات و ما كاد ليندحر غزوآ او احتلالآ الا و يحل مكانه آخر يشبهه تمامآ في كل شيئ الا في الوجوه و الأقنعة و كان كل الغزاة و الغرباء مجمعين على سحق هذه المدينة المتسامحة و تدمير معالمها و هدم صروحها و العبث بثقافتها .

كانت جموع البرابرة المغول اول من هدم اسوار بغداد المنيعة و دمر مكتباتها و انساب الحبر من تلك الكتب ذائبآ في نهرها فكان ازرق اللون غامقآ و فتك بأهلها و ساكنيها فكان الدم المراق قد احال ذلك النهر قانيآ فلم يكن يروق للبدو القادمين من خيام صحارى آسيا و من شحيح الماء و قحط الغذاء فيها ان تكون ( بغداد ) الحاضرة المتحضرة تتربع فيها الأبنية و القصور و ترتع فيها المياه العذبة في ذلك النهر العظيم الذي يسقي الحقول و البساتين و يغتسل بمياهه الرقراقة و يتوضأ المصلون فكان ذلك المجرى المائي المبارك و اهب الزرع و الخير و الحياة .

توالت غزوات النهابين من الفرس و العثمانيين الذين تبادلوا الأدوار فيما بينهم و حتى الآن تجري حروبهم و معاركهم للأستحواذ على العاصمة و التمكن منها لكنها كانت و مازالت عصية منيعة حافظت على هويتها نقية لم تنصهر او تضمحل امام المحتلين و لم تهادن او تتهاون في صيانة تراثها و ارثها و ظلت صامدة و صابرة امام تلك العواصف الهوجاء التي تهب من كل الجهات و الأتجاهات لكن ( بغداد ) كانت ايضآ ملتقى و مأوى للعلماء و الباحثين و المترجمين الذين كانت ( دار الحكمة ) تعج بأبحاثهم و ترجماتهم التي كانت محط اهتمام و احترام الخليفة العباسي ( المأمون ) المحب للعلم و العلماء .

كونها ( بغداد ) تقع على مفترق الطرق و عقد المواصلات فكانت جيوش الغزاة الذاهبة الى الشرق تمر بها و كانت الجحافل العائدة كذلك تمر بها لذلك كانت مطمع و مبتغى لأولئك الغزاة و المحتلين حتى حانت ساعة رحيل ( صدام حسين ) الذي كان هو الآخر غزوآ و احتلالآ غير معالم المدينة و بدل من ملامحها الكثير و عندما هدمت الجيوش الأمريكية اسوار ( بغداد ) و دخلتها عنوة و دون رغبة او ترحيب من ساكنيها الذين كانوا في حيرة من امرهم و تشتت حنقهم و غضبهم على المحتل القديم المتخلف و المحتل الجديد المتحضر .

جلب الأحتلال الأمريكي معه رهط من المرتزقة و العملاء المتنوعي الولاءآت للعديد من المخابرات الأجنبية فكان للمخابرات الأيرانية حصة فيهم و كذلك كان للمخابرات التركية نصيب فيهم و لم تتنازل دوائر الأستخبارات السعودية عن ( حقها ) في اخذ حظها من تلك الشرذمة و حين خرجت القوات الأمريكية من الحكم المباشر سلمته الى هذه المجموعة من القرويين الذين صبوا جام غضبهم و نار حقدهم على العاصمة التي لا تتوائم مع الأقوام الأكثر دونية و الأدنى تحضرآ ان كان الصدام بين التخلف المسلح القادم من الأرياف و بين التحضر المدجج بالعلم و المعرفة و المدنية .

منذ احتلال العراق و سقوط النظام السابق لم يحكم ( بغداد ) احد من ابناءها فكان كل الحكام من ابناء المدن الأخرى و التي هي اولى بهم من العاصمة لذلك بقيت ترزح تحت نير الأهمال و عدم الأهتمام و كانت العشوائيات من الأحياء السكنية تمتد و تتمدد و تقضم في طريقها الأراضي الزراعية و البساتين التي كانت تحيط بالعاصمة و تزودها بالهواء النقي و كانت اكوام القمامة و تلال المزابل مراتع خصبة في انتشار القوارض و الحشرات و الأمراض و كأن هناك خطط مبرمجة خفية في تدمير و هدم كل معالم ( بغداد ) تحت ذرائع و حجج كثيرآ ما اتخذت من الدين و المحرمات تبريرآ و تشريعآ في التجاوزات و الأنتهاكات حتى ان باني بغداد ( المنصور ) لم يستحق ان يخصص له و لو جزء صغير من المدينة التي وضع اللبنة الأولى لها ان كانت معاول الهدم قد نالت من النصب الذي كان رمزآ لا اكثر للمؤسس الذي شيد هذه المدينة .

ستبقى هذه المدينة ( بغداد ) مهملة و اسؤ مكان في العالم يعيش فيه البشر و لا تمتد اليها يد الأعمار و البناء مادام حكامها ( المحافظ و امين العاصمة ) من الغرباء عنها خاصة و ان أولئك الحكام ليسوا فقط غرباء عن المدينة بل هم جهلة و ليسوا من اهل الأختصاص و الدراية في أدارة المدن و التجمعات السكنية يضاف الى ان الذبن توالوا على حكم المدينة كانوا من القرى و الأرياف و المحملين بالغيرة و الحسد على المدينة و اهل المدينة الذين هم ادرى بشعاب مدينتهم و الأولى بأدارتها .

حيدر الصراف

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here