سوار الذَّهب.. والعَلم العراقي

رحل في الخميس الماضي (18/10/2018) الرئيس السوداني السابق المشير عبد الرحمن سوار الذهب، بعد أن صار مثلاً لعدم تمسكه بالسلطة والزهد بها. سلمها بسلاسة، عام 1986، للرئيس ورئيس الوزراء المنتخبين آنذاك أحمد الميرغني والصادق المهدي. بعد أن كلفته الأحزاب المُقبلة على الانتخابات بتولي الأمر مؤقتاً، بصفته قائد القوات المسلحة، عِقب سقوط نظام جعفر نميري (1985)، إثر ثورة شعبية، وقيل أسفرت عن انقلاب عسكري، بعد مرور ثلاثة أشهر على إعدام الشيخ محمود محمد طه (18/1/1985)، لمحاكمته بتهمة الرِّدة وفق قوانين الشريعة المطبقة آنذاك.
لا يعلم العراقيون أن لسوار الذهب صلة بعَلمهم الذي ظل يخفق فوق رؤوسهم لاثني عشر عاماً، واستمر حتى الآن مع تغيير بسيط. بدّل العراق علمه مراراً، وذلك لكثرة التحولات والانقلابات، فالبداية كانت بالعلم الملكي، وألوانه جاءت مطابقة لألوان عَلم «الثورة العربية الكبرى»، بقيادة الشريف الحسين (ت 1931) والد ملوك العراق والأُردن. قيل جاء مقتبساً من بيت صفي الدِّين الحلي (ت 750هـ): «بيضٌ صنائعنا سودٌ وقائعنا/ خضرٌ مرابعنا حمرٌ مواضينا» (الديوان، قصيدة سلي الرماح)، ضمن ما قاله طلباً لثأر خاله. ولا يستبعد صحة ما يرد بانتحاله مِن بيت القاضي ناصح الدِّين الأرجاني (ت 544هـ)، وهو يصف «الشَّمعة»: «صُفْرٌ غلائِلُها حُمْرٌ عمائِمُها/ سودٌ ذَوائِبُها بيضٌ لَياليها» (العباسي، معاهد التنصيص).
صُمم العَلم حسب الألوان الواردة في بيت الشعر، مع نجمتين سباعيتين في المثلث الأحمر، تشيران إلى ألوية أو محافظات العراق الأربعة عشر آنذاك (1921)، وبعد الاتحاد مع الأردن (1958) حُذفت النجمتان. ثم جاء علم الجمهورية، وفيه إشارة إلى الكُرد كقومية عراقية رئيسية، تتوسطه نجمة عشتار ذات الرؤوس الثمان. أتُخذ بعد انقلاب 1963 علم الوحدة الثُّلاثية مع مصر وسوريا، بوضع ثلاث نجمات في وسطه، وبعد تعثر الوحدة قيل أمست النجمات تُشير إلى أهداف «البعث»: وحدة وحرية واشتراكية (1963-1991).
أما عن الصلة بين سوار الذهب والعلم العراقي، يقول عدنان الدّليمي (ت 2015)، أحد كوادر «الإخوان المسلمين» العراقيين السَّابقين: «في مؤتمر الحركات الإسلامية في بغداد أعلن (صدام حسين) أنه سيرفض أي تعارض بين أفكار حزب البعث والإسلام، فلقي تأييداً واسعاً من المؤتمرين، وكان ضمن المؤتمر الزعيم السوداني سوار الذهب، فاقترح عليه أن يضمِّن عبارة الله أكبر على العلم العراقي، فاستجاب لطلبه» (آخر المطاف سيرة وذكريات). حصل ذلك في يناير (1991).
تلبية لاقتراح سوار الذهب نُقشت في العَلم عبارة «الله أكبر» بخط يد الرَّئيس، ورُفع وفق القانون رقم (6) لسنة 1991. بعدها فُرضت «الحملة الإيمانية» التي انتعش في ظلها الإسلاميون، حتى أخذوا يوزعون الأحجبة على طالبات الجامعة علانية (نفسه)، وتغيرت المناهج المدرسية بهذا الاتجاه.
حسب سالم الجميلين مسؤول ملف أميركا في المخابرات، بعد الاستفسار منه عن الحملة الإيمانية: «على صعيد جهاز المخابرات مثلا أُنشئ مسجد للصلاة داخل جهاز المخابرات، والعديد من المسؤولين بالحزب صار عندهم توجه للتدين المعتدل. أراد الرئيس إدخال العامل الديني في حرب الخليج الثانية، فأطلق على نفسه لقب عبدالله صدام حسين.. وكان يترك اجتماعاته ويذهب للصلاة. أذكر أنه ترك منصة استعراض الجيش ليؤدي الصلاة. أتبع ذلك الحملة الإيمانية في صفوف الحزب وأصبح درس الدين أحد أهم دروس معهد التطوير الحزبي، وأصدر مرسوماً يقضي بإعفاء السجين من محكوميته إذا حفظ سورة البقرة.. ولا نعرف هل هذا الاتجاه كان إيمانياً أم سياسياً» (رسالة خاصة). مما يبدو أن استهلال تلك الحملة له صلة باقتراح سوار الذهب.
لم يكن سوار الذهب بعيداً عن الحركة الإسلامية، فقد حضر المؤتمر الإسلامي، الذي دعا إليه النظام العراقي، بصفته أمين عام «منظمة الدعوة الإسلامية»، التي تفرغ لها بعد تسليمه السلطة. قبلها لعب دوراً، في إفشال الانقلاب العسكري الذي حصل (1971) ضد جعفر نميري، وكان حينها قائداً لقاعدة «أبيض» العسكرية التي رفض تسليمها، حتى فشل الانقلاب اليساري بقياده الضابطين هاشم عطا وأبو بكر النور (أُعدما 1971).
صار العلم العراقي معضلةً من معضلات ما بعد النظام السابق، القادة الكُرد امتنعوا عن رفعه بحجة أن الحروب جرت ضدهم تحت ظله، فتطلعوا إلى رفع العلم الجمهوري الأول. أما الأحزاب الإسلامية فلا تريد التخلي عن عبارة «الله أكبر»، كإشارة إلى إسلامية نظامهم، فاتُفق على حذف النُّجوم الثلاث، ونقش العبارة بالخط الكوفي.
حينها استجاب المعماري «رفعت الجادرجي» لمسابقة تصميم علم عراقي جديد، وأراده أن يكون مختلفاً تماماً عن كلِّ أعلام عهود الدولة العراقية، آملاً بعهد جديد يُنهي أوضاع عدم الاستقرار المزمنة، المتمثلة بكثرة الانقلابات العسكرية والحروب، لكنه تعرض لهجوم غير مبرر، بسبب أن لونه الأزرق والأبيض يتماثل مع علم إسرائيل بلا النجمة السداسية، وتلك حجة غير واقعية. فهل احتكرت إسرائيل الألوان؟ بهذا رد الجادرجي على الزوبعة التي طالت تصميمه.
على العموم، حُذفت نجمات الوحدة و«البعث»، وأُزيل خط صدام، لكن ثبت اقتراح سوار الذهب إلى حين، ولا أظنه آخر الأعلام.

الكاتب

رشيد الخيّون
الاتحاد الإماراتية

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here