مع أبي مُحَسَّد .. المتنبي في أوربا

عدنان الظاهر

– 8 –

فتح لي باب شقته الصغيرة وكان كعادته حليقا وقبعته على رأسه والسيجارة في يده. قال تفضل لنشرب فنجان قهوة. قلت لا قهوة ولا شاي. هيا فليس لدينا الكثير من الوقت لإنجاز كافة معاملاتك. أحكم غلق الباب ومشى أمامي بثقة. في الشارع سألني الى أين نحن ذاهبون ؟ قلت نذهب أولا الى دائرة يسمى مختصرهاKVR . قال وما معنى ذلك ؟ قلت إنها ثلاث كلمات يكتبونها كعادتهم ممتزجة معا فتبدو وكأنها كلمة واحدة. في هذه الدائرة يتم إنجاز معاملات الإقامة وتنظيم جوازات السفر والتقاعد وكافة الأمور والأحوال الشخصية كالزواج والطلاق وتسجيل الولادات الجديدة. هنا سألته مداعبا ومشاكسا : هل لك نية الزواج بسيدة ألمانية جميلة طويلة تقود سيارتها المارسيدس ولديها شقة على البحر في إيطاليا ؟ جذب نفسا عميقا طويلا مثبتا في وجهي ملامح جافة قاسية مفعمة بالعتب، كأن جبينه وعينيه قُدّت من صخر جلمود . قال

ألا ليت الشبابَ يعودُ يوماً
لأخبرَهُ بما فعلَ المشيبُ

ثبّت ناظريه على أسفلت الشارع قائلا إنني لم أخنْ زوجتي لا في شبابي ولا في كهولتي. وبعد وفاة أم محسد لم أجد في نفسي بعدها أدنى رغبة في الزواج . ثم – أضاف – ما نفعي بسيارة وشقة على البحرلا أملك منها أو فيها شيئا ؟ وبأية لغة سأتكلم مع بنت الحلال، أنا الذي بدأ ينسى حتى لغته الأصلية، لغة أمّه وعشيره
وأبيه. لقد وجدت لغتي تضيع مني بل وتخونني بعد أن فارقت قول الشعر. قلت له ستتعلم يا أبا الطيب لغة مقامك الجديد وستقرأ بها شعر الشعراء العظام من أمثال غوته وهاينه وشيللر وغيرهم. قال وماذا سأفيد من شعر هؤلاء بعد أن توقفت عن قول الشعر؟ يقرأ المرء شعر غيره لكي يطور ويحسن شعره .
وصلنا الدائرة المطلوبة وأنجزنا معاملات أبي الطيب وعلى رأسها طلب المسؤولين في أن يعجل الشاعر في الإلتحاق بمعهد غوته Goethe لتعلم اللغة الألمانية. تركنا هذه الدائرة الضخمة المتشعبة الأقسام والأغراض فأشعل أبو الطيب سيجارة وشرع ينفث منها دخاناً كثيفاً لاعناً الساعة التي ألجأته إلى طلب اللجوء. قال بعصبية وصوت عالٍ هل يتعلم رجل جاوز الخمسين لغة أجنبية لا علاقة تربطها بأصل لغته لا شكلا ولا نحواً ولا صرفا ولا إشتقاقا ؟ قلت له إنّ ذلك جد ضروري. قال وما وجه الضرورة ؟ قلت إن اللغة تيسّر لك إيجاد عمل مناسب في مكان مناسب. قال وما عسى أن يعمل شاعر قضى عمره في قول القريض ولا من شيء سواه؟ قلت أعرف رجالا أسنَّ منك قبلوا أعمالا مثل حراسة بعض الأبنية والشركات. وأعرف آخرين عملوا سائقي سيارات تاكسي. وأعرف آخرين عملوا في المخازن العملاقة ناقلين أو مصففين للبضائع. قال لعلمك إنني لم أقُدْ سيارة في حياتي ولا أعرف كيف يسوق المرء سيارته. أنت تعرف عالمي جيدا، عالم الخيل والليل والبيداء. قلت أحسنت يا عزيزي، قد والله أحسنتَ إذ قلت بلسانك في تتمة هذا البيت ” والسيف والرمح والقرطاس والقلم “. أليس كذلك؟ قال نعم قد قلت، ماذا تقصد؟ أقصد إنك تستطيع أن تنخرط جنديا مقاتلا في الجيش بإعتبارك صاحب سيف ورمح. ثم إنك تستطيع إذا ما ضبطت اللغة الجديدة أن تعمل مدرسا للأدب والشعر في بعض المدارس والمعاهد المتخصصة بإعتبارك صاحب قرطاس وقلم. إنتفض الشاعر محتجا بشدة قائلا كان ذلك يا عزيزي في سالف الزمان، أيام القوة والفتوة والعنجهيات الفارغة وعنفوان الشباب. يتقاتل البشرُ اليوم بالأسلحة الفتّاكة من جرثومية وكيميائية ونووية. ولدى الجيوش دبابات وطائرات حديثة وصواريخ عابرة للقارات وسواها الكثير من أدوات الحرب والإبادة والدمار. كنا نقاتل بالسيف والرمح وكانت الخيول وسائل كرّنا
وفرنا. فلأي سلاح سأنظمُّ وبأي سلاح سأقاتل وأنا كما تراني لا أقدر أن أحمل جسدي إلاّ بمشقة ؟.
كان المتنبي مرهقا حقا وبدا لي شاحب الوجه منهوك القوى. إقترحت أن نقضي بعض الوقت في أحد المقاهي لبعض الراحة وأن نشرب فنجان قهوة. وافق الرجل بدون تردد.
في المقهى خلع سترته وعلق قبعته في المشجب الخاص بتعليق القبعات. واصل التدخين بشكل يلفت النظر. وكان جليا أن الرجل غير منبسط مما يجرى له من
أمور . غير مرتاح مما آلت إليه أوضاعه بعد اللجوء. كان قلقا عصبي المزاج وعدوانيا بعض الشيء. جاءت القهوة لكن شاعرنا المتقاعد لم ينبس ببنة شفة. لم يشأ الكلام في أي موضوع. واصل التدخين بشراهة متناسيا فنجان قهوته وغير مبال بحضوري معه لكأنه في عالم آخر. كان سارحا شديد الرجوع الى ماضيه الذي كان يوما بالغ التألق رجلا وشاعرا يتنقل بحرية في أشهر الأصقاع يومذاك بين العراق وبلاد الشام ومصر وفارس. يتنقل دونما حاجة لجواز سفر أو تأشيرة دخول. أردت إخراجه من النفق المظلم الذي دفن فيه نفسه فأنشدت بصوت خفيض نشيدا كنت ما زلت أحفظه من أيام المدارس الأبتدائية :

بلادُ العُربِ أوطاني
من الشامِ لبُغدانِ

ففوجئت أن صاحبي قد شرع هو الآخر يهزج بفرح طفولي معي :

ومن نجدٍ إلى يَمنٍ
ومن مصرَ لتطوانِ
ضحكت كما لم أضحك من قبل. ضحكت إذ نجحت حيلتي فأنتزعت المتنبي من سوداويته وقنوطه وبؤس حاله الذي مر الجميع به بهذه الدرجة أو بأخرى. قلت له، وقد تبدل بشكل جذري مزاجه، أتدري أبا الطيب أن ” تطوان ” التي نعرف في هذا النشيد هو إسم مدينة تونسية إسمها تطاوين ؟ قال عرفتُ ذلك يوم أن كنت في ليبيا. شرب قهوته الباردة رشفة طويلة واحدة وطلب فنجانا آخر.
قلت له ما دام قد تبدل مزاجك أبا الطيب، فإنه ليطيبُ لي ونحن في هذا المقهى أن أسألك عن بعض تفاصيل محكمة اللجوء في مدينة ” نورنبرغ “. مَن قام لك بدور المترجم وما نوع اللجوء الذي منحتك المحكمة ؟ قال طلب مني الشاب الذي أدار عملية الإستجواب وحيدا أن أسترسل بالكلام وأن أتكلم كما أشاء مركزا على الأسباب التي جعلتني أفضل طلب اللجوء إلى هذا البلد. لم أقل له إني قدمت من ليبيا.
قلت إني ساهمت في إنتفاضة آذار عام 1991 في مدينتي السماوة ( محافظة المثنى).
وبعد إجهاض الإنتفاضة وتدمير البشر والأرض والممتلكات هربت مع من هرب بطريق الصحراء إلى العربية السعودية. وُضِعنا هناك في المخيم الصحراوي(رفحا) سنينَ طويلة. نظّمنا نحن الشعراء يوماً مهرجانا للشعر حضره بعض أمراء آل سعود، وكان من بينهم شاعر أديب دلّته حاسته الشعرية على أصالة فني الشعري. طلب مقابلتي بعد المهرجان ورحب بي ترحاباً حاراً يفوق الوصف. قال إنه كان يعرف إسمي شاعرا لكنه صدم إذ وجدني مع من وجد في هذا المخيم المعزول النائي ثم عرض علي أن أعمل في حقل التدريس في بعض المعاهد. شكرته كثيرا وقلت له ما دام الله قد فتح وشرح لي صدرك فأرجو أن تسعى الى تيسير أمر مغادرتي هذا المخيم. قال سأنفذ إن شاء الله طلبك وعلى الفور. بعد بضعة أيام أتاني أحد حراس المخيم باسما مستبشراً – وما رأيناهم يوما باسمين، كانوا عادة متجهمي الوجوه غلاظ القلوب شرسي الطباع – حاملا معه جواز سفر مؤقت بإسمي وتذكرة سفر إلى العاصمة النمساوية فيينا مع كمية من الدولارات الأمريكية. كان الحاكم الذي كان يستجوبني يصغي لي مأخوذا بما كنت أقص عليه من أكاذيب وأحداث سينمائية بهلوانية لقنني إياها مستشار السفارة العراقية في طرابلس الغرب السيد ” حسين لامي بديوي ” أو ” حسين بديوي اللامي “. صدقني الرجل ذو الوجه الطفولي البريء الباسم وثبت كل أقوالي على إسطوانة كانت تدور على جهاز تسجيل موضوع الى جانبه الأيمن. قلت للمتنبي وما كان دور المترجم وهل طلب منك المزيد من التفاصيل؟ قال كلا. كان يترجم حرفيا ما كنت أقول. إلا إذا طلب الحاكم المزيد من المعلومات. قلت وهل تعرف إسم هذا المترجم؟ قال بعد مرافعة المحكمة التي إستغرقت قرابة الثلاث ساعات والتي أنهكت قواي الضعيفة أصلا، سألت المترجم عن حكم المحكمة بحق قضيتي وعن نوع اللجوء فقال إنه يظن أنني سأُمنحُ حق اللجوء السياسي وليس اللجوء الإنساني. ثم تجاسرت فسألته عن إسمه فقال – ولعله كان كاذبا – إنه الدكتور ” ناصر الحسن “. كيف يكون الدكتور مترجِما؟ قلت لا غرابة في الأمر يا أبا الطيب. في أوربا يعمل المرء ما يعجبه أو ما يستطيع أن يعمله إذا ما توفرت فيه شروط ومستلزمات هذا العمل أو تلك المهنة. فالمترجم على سبيل المثال ليس طبيبا كما تظن. إنه دكتوراه في الفن أوالإقتصاد. وإن الرجل لم يكذب عليك وأنا أعرفه منذ فترة طويلة. ذكرالرجل لك إسمه الحقيقي الكامل. قال ولِمَ لمْ يذكر إسم أبيه إذا كان صادقا ؟ قلت هنا يكفي ذكرالإسم الأول ثم لقب العائلة.
قال وهل تعرف أنت إسم أبيه ؟ قلت لا أحد في عموم ألمانيا يعرف إسم أبيه. ليس لأن في الأمر سراً، ولكن لا أحد هنا يهتم بالسؤال عن إسم الأب. قال وهل هذا يعني أن الرجل بلا أب، ونغلٌ من ليس له أب ؟ قلت كلا، له أب وقور محترم وكان له نِعمَ الأب. قال وهل تعرفه جيدا ؟ قلت يعرفه غيري جيداً. عدت أسأله وكيف وجدت الرجل ؟ قال وجدته ظريفا شهماً يساعد الناس. وجدته متواضعا بسيطا خاليا من تعقيدات البعض ممن يحملون الجنسيات الأجنبية. قلت كلامك هذا صحيح، وأزيد عليه أن الرجل يحب الغناء والطرب ويهوى أشعارك ويحفظ الكثير منها عن ظهر قلب. ويقيم في داره بين الحين والحين حفلات ومناسبات فنية يحضرها جمع كبير من أصدقائه. يسمرون لديه ويأكلون ويشربون ويستمتعون بغناء المغنين ويطربون مع المطربين. ولديه مجموعة كبيرة من الطبول ورقع الشطرنج ويلعب الطاولي بمهارة يُحسد عليها ويتحدى جميع لاعبيه. كما أن لديه أقراصا تحمل تسجيل قصيدتك التي أحبُّ ” ما لنا كلُنا جوٍ يا رسولُ ” مغناة بصوت قاريء المقام العراقي المبدع المرحوم ” يوسف عمر “. قال يبدو الرجل لي خليطا عجيبا نادرا في هذه الأيام. قلت وهو كذلك. إنه ” زوربا ” هذا الزمان. قال أَوَ ما زال مثلي عازبا ؟ قلت إن الرجل متأهل ولكنه مثل ” شهريار” عقيم لا ينجب. قال إنه يبدو قويا معافى. قلت ليس الأمر كذلك يا أبا الطيب. إنه يعاني من نقص إفراز مادة الإنسولين في دمه. قال لم أفهم. قلت إنه ضحية ما يسمى بمرض السكري. لذا فإن حُقن الإنسولين لا تفارق جيبه أبدا، يحملها معه أنّى ذهب واتجه. أسفي عليه، أسفي عليه، قال ثم أضاف ألا تعرّفني عليه ؟ قلت وهو كذلك. وسيكون مسرورا أن يتعرف على شاعره المفضل أبي الطيب المتنبي. سينظم لك في داره حفلا غنائيا خاصا يدعو لإحيائه خيرة مطربي أوربا من العراقيين. وسيستمر الحفل حتى ساعات الصباح الأولى. هذه سجيته. يحب السهر وينتشي إذا ما فرح وطرب أصدقاؤه. قال إنما هذه من شيم خيرة الرجال. أسفي عليه وعلى خيار الناس .
اقتربت الساعة من الثانية بعد الظهر فقلت له هيا إلى داري لنتناول طعام الغداء
معا. قال وما لديك من طعام ؟ قلت لديَّ في الثلاجة الكثير. أطرق هنيهة مفكرا ثم قال أفضل الذهاب إلى (مهجومي) لأنام قليلا وأتمتع بقسط من الراحة بعد عناء هذا اليوم الشاق. قلت ألا نلتقي ثانية عصرَأو مساءَ هذا اليوم ؟ قال بل أفضل أن أقضيه وحيدا. سأمكث في شقتي، أكنسها وأرتّبها وأغسل صحون الأمس وملابسي الداخلية. وإذا شئتَ نلتقي صباح غد. إقتراح معقول يا أبا الطيب. وإذا ما احتجت أي شيء أو استجدَّ أمرٌ عاجل أو هام إتصلْ بي عن طريق أحد تلفونات الشارع.لا تتردد رجاء. قام ليرتدي سترته ويضع القبعة على رأسه ثم قال هازئا ساخرا : ومتى سيجد التلفون طريقه الى شقتي ؟ سوف لن يطول إنتظارك يا أبا الطيب. تلك مسألة غاية في السهولة. إنتظرْ قليلا فقط. قال الصبر مفتاح الفَرَج.
صحبته حتى مدخل عمارته على أن نلتقي صباح اليوم التالي. لم نتفق على برنامج محدد. غدا سنعرف ماذا نفعل. وإنَّ غداً لناظره قريبُ.
– 9 –
وجدته يتمشى أمام عمارته منتظرا قدومي. كان هادئا جيد المزاج يدندن كعادته حين يكون ذا مزاج منبسط. رمى عقب سيجارته من يده قائلا أين ستمضي بي هذا اليوم ؟
قلت إلى الطبيب. سيفحص الطبيب قلبك وضغط الدم ويسألك إنْ كنتَ تشكو من شيء قديم أو عارض. قال لا أحب الأطباء لا أحب الأطباء. قلتُ ومنذا الذي يحبهم ؟ نزورهم مضطرين. ثم إنَّ مُساعِدات الطبيب وليس الطبيب من يقوم بتسجيل ضغط دمك وعدد نبضات القلب. وقد يقترح فحص السكر في بولك ودمك. قال ومن سيقوم بفحص دمي وبولي ؟ الممرضة المساعدة يا أبا الطيب. إنتفض الرجل بحدة معترضا قائلاً كيف تفحص إمرأة بولي وسكّر دمي، كيف ؟ قلت هوِّن عليك. هذه أمور مقبولة هنا وعادية لا تجرح حياء الرجل ولا تسبب له أي إحراج. هذا هو واجب الممرضات المساعدات وهذا هو عملهن الذي تدربن عليه. قال وهل الممرضات ألمانيات ؟ قلت بل هن من كافة الجنسيات. ففيهن الألمانية والبولندية والتركية والتايلندية واليونانية ومن جنسيات وأقوام أخرى لا حصر لها. قال على ذكر فحص سكر الدم، هل هناك إحتمال أن أكون مصابا كالمترجم بمرض السكري فأضطر إلى حمل حقن الإنسولين معي حيثما ذهبت ؟ قلت لا يبدو عليك أنك تعاني من هذا الداء. قال وكيف عرفت ؟ قلت لأنك لا تقاسي من عطش شديد ولا من يبوسة في الفم ولا تتبول كثيرا. ثم إن ظاهرة السكر في الدم درجات لا يستلزم أولها إلا تخفيض الوزن ويستلزم بعضها الإعتدال في المأكل والمشرب وتجنب أو الإقلال من السكريات والنشويات مع الإكثار من الخضروات الطازجة. وهناك مرحلة قبل الحقن بالإنسولين تتطلب تناول بعض الحبوب. وحتى مرحلة الحبوب هذه تنقسم بدورها الى مراحل تعتمد على عدد الحبوب التي يتناولها المريض في اليوم وعلى قوة هذه الحبوب بوحدة الملليغرام. وأخيرا وعند تفاقم حالة المريض يوصي الطبيب المختص بتناول حُقن الإنسولين. أمامك أبا الطيب مراحل ومراحل قبل بلوغ الدرجة الأخيرة التي أزعجتك وقضّتْ مضجعك. تنفّس الصعداء قائلا الحمد لله، ألف الحمد لله، إني إذن معافى فلا تأخذني يا اْبن أمي الى الطبيب. معافى معافى ولا بول في سكري … عفوا … لا سُكّرَ في دمي ! ثم أخذ يقرأ بصوت عال :

يقول لي الطبيبُ أكلتَ شيئاً
وداؤك في شرابكَ والطعامِ

وما في طبّهِ أني جوادٌ
أضرَّ بجسمهِ طولُ الجَمامِ

قلت له هذه فحوص تسمى روتينية تُجرى للناس بشكل دوري منتظم مرة كل أسبوع أو كل شهر وبعضها مرة في العام، لا ضرر منها. ثم هي في نهاية الأمر لمصلحتك وتعلمك أن تراقب نفسك ووضعك الجسماني. أما إذا إحتجت إلى طبيب نفساني فسيحيلك طبيب الأمراض الداخلية الى آخر مختص بالأمراض النفسية لا سمح الله. قال وهل تشك في قواي العقلية ؟ كلاّ كلاّ يا أبا الطيب. كلنا عرضة للإنحرافات النفسية ولا عيب في ذلك. الإنحراف النفساني لا يعني بالضرورة إنحرافا أو إختلالا عقليا. فبين الإثنين حدود يعرفها الطب والأطباء. أنت الآن في أوربا ولست في الكوفة أو السماوة. إنبسطت أسارير الشاعر المتعب المرهف وأظهر لي الكثير من أمارات الثقة بي وبنفسه. قال سنمضي إلى الطبيب … حتماً…، ولكن في يوم آخر. أنا اليوم سعيد ومتفائل وأود أن أتمتع بجمال هذا اليوم الصائف ودفء نهاره وروعة حدائق المدينة. لا تفسد ذلك عليّ رجاء. ثم إني معافى معافى معافى. سأنذر نذرا لأبي الفضل العباس وأوزع الحلوى من مصقول وملبّس للفقراء والأطفال. سأزور مساجد المدينة إنْ كان فيها مساجدُ للمسلمين. سأصلّي وأصلي الفروض والنوافل. هل في المدينة مساجد ؟ قلت نعم. هناك مساجد للأتراك وأخرى للأفغان والإيرانيين وآخر مشترك لجميع المسلمين يديره أستاذ مصري.
إقترحَ وهو في ذروة الإنشراح والعافية النفسية أن نقضي قبل الغداء بعض الوقت في حديقة نافورة إله المياه ” نبتون ” الواقعة خلف وزارة العدل. قلت له كنت بالأمس شديد التشاؤم حين كنا في هذا المكان. قال نعم. قد تشاءمت حين شرع الإله ينزف من جميع أركانه بدل الماء دماً عبيطا ومن ثم إنطفأت الأنوار بشكل فجائي وتوقف الماء والدم جميعا. سألني ما علاقة الضوء بالدم. قلت توقف الضياء والنور لأنهما ضد الجريمة والقتول والدماء البريئة المسفوكة. توقفا لكي يوقفا سيلان الدم المتدفق في جنين ونابلس من أرض فلسطين. إحتجاج رمزي صارخ وتذكرة للعالمين أن يفتحوا الأعين على ما يجري هناك من خروقات للقوانين والأعراف والإتفاقيات والمواثيق الدولية وما يسمى بحقوق الإنسان. إشارة عميقة الدلالة أن العالم اليوم في ظلام دامس فاق كل ما كنا قد سمعناه عن العصور المظلمة. إفتحوا يا ناس عيونكم، إفتحوا يا عرب عيونكم وأصحوا من غفلتكم وغفوتكم وإلاّ فالكارثة لا محالة مقبلة. كارثة الكوارث يا ناس مقبلة. أراها أقرب من حبل الوريد. هذا ما كانت قد تنبأت به
” زرقاء اليمامة ” قبل قرن من عهد الطوفان. ليس لدى العرب السلاح النووي الذي يُحيّد أعداءهم أو يقيم معهم التوازن العسكري بالردع النووي المتقابل. لم يوفر حكامنا لنا ما يحمينا ويحمي أرواحنا وأعراضنا وأرضنا من التهديد الشامل بإفنائنا من الوجود. ما علمونا كيف نمارس الديمقراطية وحرية الإقتراع ومداولة السلطة. وهذه هي النتيجة المحتومة. هم في واد ونحن الشعوب في واد آخر. يحمل الكثير منهم وأغلب أبنائهم الجنسية الأمريكية وبلايينهم المهربة مودعة في البنوك التي يسيطر عليها اليهود سواء في أمريكا أو أوربا. أما نحن، أنا وأنت وباقي الناس فنصيبنا التشرد وطلب اللجوء لنحيا على الكفاف وعلى حواشي الحياة الدنيا. قلت هل تعلم أبا الطيب أن نافورة الإله نبتون قريبة جدا من الساحة التي يتجمع فيها الناس عربا ومن غير العرب تضامنا مع الأهل في فلسطين وإحتجاجا على ما يجري في فلسطين من قتل وتدمير وإغتيال وحصار وتجويع. قال وما إسم هذه الساحة ؟ قلت إسمها ” شتاخو س Stachus “. قال ومتى يجتمع هؤلاء الناس المرة القادمة؟ قلت نهار السبت القادم على تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً. قال أريد أن أشارك في هذه التظاهرة.لا بد أن أشارك فيها وهذا أضعف الأيمان. أحسنت أبا الطيب الشهم والغيور، أحسنت. عهدي بك شريفا شجاعا ثائرا. قال ليتني أستطيع أن أقاتل على أرض فلسطين. قلت لا يسمح لك جيران فلسطين بدخولها مقاتلا. قال لماذا ؟ إنَّ دخول فلسطين يتطلب موافقة الإدارة الأمريكية وإسرائيل. قال وما دخل أمريكا وإسرائيل بدخول فلسطين عبر حدود دول عربية ؟ لم أجبه. صرت أهذي مع نفسي مرددا ( إذا كنتَ لا تدري فتلك مصيبةٌ / وإنْ كنتَ تدري فالمصيبة أعظمُ ! ). سمع المتنبي هذياني على ما يبدو، فلقد شرع الرجل يبكي بكاء مرّا. شرعت أجفف سيل دموعي في لحظة وصولنا إلى نافورة إله الماء نبتون . كانت النافورة جافة والإله فاغراً فاهُ مبتسماً ساخراً شامخَ الرأس مفتوح الذراعين غير آبهٍ بما فيه وما حوله من جفاف. الماء يأتي مع المساء. والماء نفسه لا يأتي النافورة مرتين. كانت حديقته غاصة بالناس يدخنون ويثرثرون ويقرأون الصحف. جلسنا صامتين كأن على رؤوسنا الطير. هو يدخن وعيونه ما زالت مبتلة بالدموع. يحاول أن يقول شيئا لكنه يقاوم الرغبة في الكلام. كان يعاني من صراع خفي مكبوت يريد ولا يريد أن يفصح عنه. إستسلم أخيراً فأحجم عن الكلام. أغمض عينيه المبتلتين بالدموع وأغفى فتعالى شخيره. إنتبه الناس إلى قوة هذا الشخيرالذي يُذكّر بقاطرات البخار القديمة فضحك بعضهم بصوت عال. أما إله المياه الروماني نبتون فرأيته مبتسما إبتسامة غامضة فيها ظلال سخرية وشماتة كأنه يريد أن يقول : من الذي أتى بكم إلى بلداننا ؟ لِمَ لا ترجعون الى بلدناكم ؟ لماذا لا تقاتلون في سبيل قضاياكم التي تسمونها مصيرية ؟ فزعتُ إذ دنا الإله مني وهمس في أذني قائلا إن وزارة العدل التي ترى أمامك قد أخطأت خطأ جسيما في دفاعها عنكم وإحتضانكم وتوفير فرص عمل وعيش لكم ثم ستمنحكم الوزارة بعد ثماني سنوات الجواز الألماني الذي لا أملك رغم بقائي هنا واقفا منذ ألفي عام. أعمل ليلا ونهاراً صيفاً وشتاءً لأرفّهَ عنكم وعن أمثالكم. أبيت تحت السماء لا سقف يحميني من مطر أو برد أو ثلوج. لا من يقدم لي باقات الزهور التي أرى العشاق يتبادلونها أمامي. ستصبحون قريبا مواطنين أوربيين. أما أنا فسأظل تمثال حجر بلا وطن. تنكّرَ لي نيرون وقيصر وأنطونيو( صاحب كليوباترا فرعونة مصر ). جحدوا أفضالي على روما ثم جمّدوني حجراً في إله وإلها في حجر كأنهم سمعوا صرخة الفيلسوف الألماني نيتشة حين قال ( مات الإله ). نعم كان يقصدني أنا بالذات.ثم أصدروا حكما بإبعادي عن إيطاليا بعد أن جردوني من بيتي ومزرعتي وباقي أملاكي وأخيرا جواز سفري. سألته كيف إذن وصلتَ إلى ميونيخ وأنت لا تحملُ جوازَ سفرٍ ؟ قال وصلتُ كصاحبك المتنبي تهريباً.لا تنس إنَّ لإيطاليا حدودا مشتركة مع ألمانيا. قلت يبدو أنك غير مسرور بعملك هذا حارسا لحديقة كبيرة وموزّعَ نوافيرِ ماءٍ فراتٍ ومُسليّا لبني البشر من أمثالنا ؟ قال بلى، جِدَّ مسرور. فسوق العمل متأزمة ومعدلات البطالة عالية. ثم إني أكون في غاية السرور حين أرى الناس حولي مسرورين مبتهجين فأنسى وحدتي ومحنتي وأتأقلم مع منفاي. قلت يبدو أن هناك أشياء كثيرة مشتركة بينك وبين بني البشر. قال نعم. فيكم بعضٌ مني وفيَّ بعضٌ منكم. ألم يكن الجبار السومري جلجامش خليطا ثلثاه من الألهة وثلث من البشر؟ قام المتنبي وانحنى بخشوع أمام نبتون وقدّم له سيجارة فاعتذر الإله أنه لا يدخن، بل وإن التدخين ممنوع عليه خلال ساعات العمل. قال المتنبي مُحنقاً : أللهُ أكبر! حتى أنت إلهي لا تستطيع التدخين ؟ غمزه بطرف عينه اليسرى قائلا : بلى، أدخّن أحيانا ولكن … أدخِّن خلسة. أُدخن سجائر رخيصة مزوّرة مهربة تأتيني من الحدود الألمانية – الجيكية! دنا المتنبي من الإله المذعور قائلا خذها، إنْ لم تستطع التدخين الآن فضعها مخفية خلف إحدى أذنيك. دخنها لاحقا في ساعة هدوء بال وخلو المتنزه من البشر. أخذها شاكرا وأرتدَّ على مهل ليشغل المكان الذي وضعته الدولة فيه صنماً مقيدا متحجراً معزولا منفيا وتحت رقابة وزارة العدل اليومية. يضخ الماء من صخور جسده ليدخل البهجة في نفوس البشر. فثلثه من لحمهم ودمهم وعظامهم. هو بعض منهم … شاء ذلك أم أبى. شاؤوا هم أم أبوا. نهض المتنبي قائلا أحس الآن ببعض الراحة. لقد قبل رب الماء مني أخيرا ما أسديت له من جميل. لم يرفض السيجارة التي عرضتها عليه. أخفاها خلف أذنه وسيفيد منها لا شك يوما. أو إنه سيبيعها بنصف ” يورو ” إلى السيد( حسين زيدون). ضحكت طويلا لأني أعرف قصة حسين مع التدخين.
أشار لي أن وقت طعام الغداء قد حان. إقترح أن نأكل معا شيئا خفيفا في مطعم قريب للهامبركر قريب من ساحة “ شتاخوس “. وبعد الغداء نتناول الشاي الثقيل المعطر بالهيل والدارسين في شقته. وجدت العرض مغريا فوافقت على الفور. إقتربنا من تمثال نبتون لتقديم تحية الوداع فلم يرد علينا. حاولنا الكلام معه فضاعت محاولتنا سُدى. تساءلنا تاركين البارك الجميل عن سبب صمت إله الأمواه الباردة والحارة فلم نعثرعلى جواب شافٍ. لم يمنعه القائمون على العدل عن التدخين حسبُ، بل وحرموا عليه الكلام مع الأجانب. ونحن في الطريق الى المطعم أخذ المتنبي يقرأ شعراً لغيره ( دع الأقدار تفعل ما تشاءُ / وطبْ نفساً إذا حضرالغداءُ ). طلب ” شاطرا ومشطورا بدون كامخ “. سألته لِمَ لا يأكل الطرشي الحامض وهو منشط للمعدة وفاتح للرغبة في الطعام ؟ قال إنه أولاً يأكل دوما تقريبا دونما شهوة للأكل. ثم إن معدته لا تتقبل الحوامض. وقلّت رغبته في الطعام بشكل ملحوظ بعد اللجوء حيث تغير نوع وطعم الطعام جذريا. قلت له وما كنت تأكل قبل اللجوء ؟ قال كنا نأكل التمر والزبدة الطرية وخبز الشعير الذي يحمل نكهة وحرارة التنور. ونشرب لبن الجمال والماعيز. ونأكل اللحم المشوي أحيانا وفي المناسبات وعند وفادة بعض الضيوف. لا نعرف الثلاجات ولا الطعام المطبوخ سلفا ولا المحنط بالجليد ولا المدفون في علب الصفيح والزجاج .
بعد الغداء قصدنا شقة المتنبي لشرب الشاي الموعود. جاء الشاي فكان رائع
المذاق. لكن صاحبي ترك كأس الشاي وإستسلم لنوم عميق فأرتفع الشهيق والزفير فتذكرت أحد أناشيد الطفولة( صوتُ صفير البلبلِ هيّج قلبَ الثمِلِ …). تمتعت بكأس الشاي على مهل مع قصد وشحة مخافة أن ينتهي على عجل. فصاحبي غط في قيلولته وأنا لا أجرؤ أن أتصرف في شؤون مطبخه. فكيف إذن سأدبر كأس شاي آخر؟ سينهض الرجل بعد ساعة. وسيعد له ولي شايا جديدا حارا تفوح منه رائحة الهيل والدارسين. مضت الساعة لكن الشاعر لم يفق. أدركني النعاس فقررت أن أترك له سطرا أخبره فيه إني قاصد داري وسأراه غدا مساء .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here