مجموعة ” العيون السود ” للقاص كريم عبد عمل إبداعي مميز بملامح عراقية خالصة

بقلم مهدي قاسم

سبق لي أن قرأتُ للشاعر و القاص العراقي كريم عبد قصصا متفرقة في مجلات منذ سنوات غابرة ، حيث انتبهتُ حينذاك إلى جزالة أسلوبه السردي المتماسك و المتين ، إلا أنني عندما قرأت مجموعته القصصية المعنونة ب” العيون السود ” ــ وهي تحتوي على عدد من قصص قصيرة ومتنوعة ـــ فقد شدتني بأجوائها الباهرة و بفجائعيتها المتراصة ومناخاتها المميزة و الخاصة بملامحها المحلية العراقية البحتة ، ولكن ذات دفقة شاعرية مكثفة تجعل الأسلوب السردي متأنقا و مزدانا بجماليته النثرية الباذخة و الجميلة ، وذات سحرية آسرة حقا ، تتألق بها مناخات القصص بعذوبة مع إثارة حنين لرغبات مكبوتة وفصول حب وعشق ووجد فوّاردفين ، ولكن غير قابل للتحقق قطعا ، مع استرجاعات ممزوجة بتداعيات شعور عاصفة ومتموّجة ، تنبض بحيوات معذبة ، تجّسد أزمنة عراقية عصيبة و شائكة و حافلة من معاناة وعذابات و ملاحقات ومطاردات و أجواء فزع و هواجس رعب و هلع و قلق و سجون و مشانق و حروب وموت جاثم و أحزان و فجائع شاخصة بمأسويتها الفادحة ، التي صاحبت و ما زالت تصاحب حياة الفرد العراقي ، كانما كلعنة مقيمة أبدا و دائما ! ، حيث نلاحظ هنا قوة التصوير والتجسيد النثري الرائع والبارع فعلا لهذه الملامح والذوات العراقية المتشظية حيانا ومتماسكة حينا آخر حسب ظروفها الطارئة ــ سيما منها الريفية وهي الغالبة أصلا ــ و بصدقية فنية عالية ، و كأنها من لحم و دم نابضين بحياة عارمة إلى درجة ، حتى يشعر القارئ و كأنه سبق وأن صادف أن التقى مع أحدهم ذات يوم من أيام غابرة ..

غير أن الملفت في ” العيون السود ” هو البناء المعماري المتماسك ــ كما أسلفت ــ بتراصف جمل وفقرات قصيرة ومكثفة ، و أحيانا بضربات برقية مختزلة ، ولكن موحية ومعبرة بكل حرارة شعرية دافقة ــ وهي الدفقة الشعرية الموظّفة ببراعة لخدمة السرد المكثف و المتماسك ــ دون أن تجعل هذه الجمل و الفقرات مهلهلة أو مثقلة بنثريات زائدة و فضفاضة ، مثلما تعودنا ملاحظتها في أعمال بعض الكّتاب .

كما نجح القاص كريم عبد في خلق نوع من تناغم داخلي في قلوب و أرواح أبطاله المضطربة والقلقة العاصفة ، كردود فعل متبادلة ومؤثرة مع عوامل الطبيعة المحيطة من أمطار و عواصف وقيظ و أشجار و طيور و حشرات و قطرات ندى ، وميض فجر على وشك المخاض ، وأشعة شمس صباح متسللة بمرح عبر نافذة مشرعة ، و غير ذلك .

ولكون مجموعة قصص ” العيون السود ” تمتلك و عن جدارة ملامحها الريفية العراقية الخالصة عبر صدقيتها الفنية ، و كذلك من خلال واقعيتها السحرية ــ في بعض أجوائها ــ تصويرا و تجسيدا وحبكة ورؤية صافية ونفاذة ، فأنها بذلك تكون قد اكتسبت في الوقت نفسه ملامحها العالمية أيضا و بجدارة .

و ربما كان هذا التصوير الواقعي ذات فنية إبداعية بارعة هو أحد الدوافع في ترجمة قصص عديدة لكريم عبد إلى اللغة الإنكليزية مثلا .

وإذا كنتُ عادة لا أقرأ عملا فنيا سواء رواية كانت أو مجموعة قصصية أم مجموعة شعرية مرتين إلا نادرا ، فقد قرأتُ ” العيون السود ” مرتين و بانتباه و انشداه ! .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here