اقتصاد المعلومات ومأزق القطاع العام في العراق

د. عبدالرضا الفائز
[email protected]

رغم توفر المال والرجال، فإنه من المؤسف القول إننا لم نستوعب حتى اليوم (بفضل ما مر علينا من طغيان وكوارث، وقلة انتباه إلى خطر تخلف القطاع العام، ووضع الغير مناسب في المكان الهام، وفوضى الصراع الحزبي) أهمية اقتصاد المعلومات، وقدرته على تفعيل القطاعات الزراعية والصناعية والخدمية وتعزيز إدائها وتقليص الكلفة فيها. وما نزال نتجاهل إن في سر ذلك التكامل يقع المستقبل للشعوب الفاعلة فيه والتي بمقدار تقدمها تجري الأعمال فيها بسرعة الأفكار وهو عنوان كتاب لبيل غيت، مالك مايكروسوفت العملاقة (Business@the speed of thoughts, 1999)، تذكر إنه كتب 1999. فأين قطاعنا العام من ذلك وهو المتسلحف عن إصرار والمتقوقع عن دراية والمؤذي للناس والوطن عن قصد بروتينه ودورانه. فهو حين يرتع فيه الرشوة والفساد، يكون العائق الأكبر لأي نهضة وتقدم. ولا يخدم إلا الذين من ترهله يقتاتون، ومن فساده يثرون، ومن عوقه دون وجه حق ينهبون.

إن أيا من مظاهر الفشل الإداري لدينا لا يكمن في فردية المواطن كما يُزعم، بل هو في تقييد تلك الفردية التي يعرقل حركتها ويخنق إبداعها روتين وبيروقراطيات قطاعنا العام المتخلف. إن للنجاح مقومات معروفة، أهمها التخصص في عالم التخصص، والمهنية في زمن المهنية، والتقنية في زمن التقنية، والمناسب في المناسب. ومن يصنع الواقع عليه إدراك وجهة المستقبل وأحداثه. وإذا اردنا تفادى استمرار الفشل والهدر غدا علينا أن نعرف لماذا فشلنا بالأمس. إن السبب جزما هو إدارة لم تقبل أو تفهم اقتصاد المعلومات الجديد لدرجة إن البريد الإلكتروني الذي أعتمده العالم بدايات تسعينات القرن الماضي لم يزل غريبا في أغلب دوائر قطاعنا العام (!).

لقد سمعنا وعودا (لأغراض انتخابية) من سوف يجعلنا نلحق بدبي (بأبراجها وتنظيمها وعملها الدؤوب ليل نهار أيام الأسبوع وأشهر السنة سباقا مع واقع متسارع يرفض التلكؤ والتسويف والجمود)، وحتى إننا نتذكر من قال (عن جهل أو دجل) إن الحكومة الإلكترونية قادمة قريبة. وتم عقد مؤتمرات “متفائلة” عن الحوكمة (وهي أعلى تطبيق للحكومة الإلكترونية). إن الحكومة الإلكترونية لن تكون بدون تغيير في التفكير والأوليات وأخطر من ذلك هو التغيير في عمل الحكومة نفسها (بقطاعها العام) بعد ألفة وبنية وأنظمة ولغة.

نعم إن القضاء على الرشوة والفساد المزمنين في القطاع العام لن يتحقق إلا باعتماد اقتصاد المعرفة المعلوماتي الذي باعتماده الرقمنة سينتج الأتممه التي تنظم العمل بآليتها (لا بمزاج فرد) وتمنع رقمنته الرشوة (بانضباطها الذاتي).إن امتلاك التقنية بالمال لا يعني نهاية الطريق بل بدايته فالأهم من امتلاك التقنية هو إتقان التعامل معها لتحقيق أقصى استفادة ممكنة منها. ولكن السؤال كيف السبيل إلى ذلك … في العراق؟

إن السبيل كما قلنا سابقا هو ألفة وبنية (حدث ذلك في دول سبقتنا). إن معنى الألفة أن يألف موظفو القطاع العام استخدام الحاسوب. ولا نعني هنا فقط قراءة البريد الإلكتروني والرد عليه، ولا نعني ألعاب ذلك الجهاز المدهش أو ما نتلقيه “سلبا” دون تفاعل مفيد. إن تحقيق ذلك قد نظم عالميا عبر شهادات قيادة الحاسوب International Computer Driving License المعروفة اختصارا ICDL وهي دورة قد تأخذ نحو عشرين ساعة في أسبوع من التدرب على مبادئ استخدام الحاسوب وتفهم برمجياته المكتبية الشائعة التي يفضل إغنائها بتعلم الطباعة ومعرفة الإنكليزية. وحين يألف ويتفهم موظفو الخدمة العامة في القطاع العام ذلك سوف يتمكنون من التعامل مع الأنظمة اللاحقة الموجهة والخاصة بأعمالهم الإدارية والفنية والمالية والمصرفية والمخزنية والجمركية مثلا. إن عدم وجود حاسوب على مكتب موظف كبير في الدولة العراقية أمر مألوف، لكنه دلالة على أمية عصرية فاضحة وهيكلة إدارية معوقة.

إما البنية فتعني تشبيكا محوسبا داخل كل مؤسسة يتناغم مع خارجها إلى مؤسسات الدولة الأخرى والقطاع الخاص عبر شبكة ضوئية تحت أرضية تستخدم تقنية الحفر الأفقي (Directional Boring) الذي لا يربك أحدا وأقل كلفة أسوة بالعالم تربط البيوت والدوائر والمصانع والمنافذ وغيرها عبر العراق، لا بالحفر العمودي كما حدث في مشروع مهم في بغداد، من أجل توفير بنية تحتية تشبك مؤسسات القطاع العام، ولها بوابات للقطاع الخاص والعالم الخارجي. ليأتي بعد ذلك دور الأنظمة الموجهة لتطبيقات معينة لعل أهمها منظومات سريان العمل Workflows التي تضبط عمل أي مؤسسة أو دائرة وتريح موظفيها والمراجعين لها.

وعند تسليمنا بهذا الإيجاز البسيط، نسأل ماذا يمتلك العراق منها ليتقدم نحو الحكومة الإلكترونية؟ إن التنمية عملية تراكمية وصنع المستقبل مهمة لا تنتهي. ومن الظلم جعلها مرتهنة لقطاع لا يتطور يجب أن يتغير في الكيف والهيكل والمضمون. إن إصلاح القطاع العام أصبح ضرورة وطنية لإنهاء التبلد والإستغباء وانتصار لا مبالاة الجهل والتخلف وما نحن فيه من شيوع الرشوة والفساد. وكفانا ما أضعنا من سنين تقدم فيها العالم ودول المنطقة ولم نزداد إلا نكوصا وتخلفا … فالفجوة في أتساع يتسارع، فهل من مدرك في رجال السلطة …. والأحزاب.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here