لغتنا العربية و النهضة الحضارية

*

د. رضا العطار

كانت اوربا مدة القرون الوسطى تحت سيطرة الكنيسة، وكانت هذه السيطرة على اشده في النواحي التقافية, فلم تكن فلسفة ارسطوطاليس تدرّس الاّ لخدمة الكنيسة، ولم يكن الاطفال في المدارس يعلمون الاّ لهذه الغاية، وكأن للكنيسة لغة واحدة تعم اوربا كلها هي اللغة اللاتينية. وهي اللغة التي لم يتكلم بها الناس وانما يكتبونها فقط. ولكن نزعة الاستقلال في السياسة وفصلها من الكنيسة, جعلت غاليلو غاليلي يستقل بالفلك فقط، مثلما حلّ المصلح الديني لوثر نفسه منها. ومن لوثر هذا نشأت القوميات الاوربية بعد ان ترجم الكتاب المقدس الى الالمانية. وبذلك رفع شأن اللغات الوطنية، واصبحت منها لغة الدين والعلم والادب. ونزلت اللاتينية عن مكانتها وصارت مغمورة مهملة.

وفي القرون الوسطى , بعد اكتساح العرب للأندلس وانتشارهم على سواحل البحر الابيض المتوسط , وانتشار فنونهم الادبية والحضارية في ارجاء اوربا التي اخذت عندها تستيقظ من ظلمات التردي والجهل، اعطى العربُ كتّاب الفرنسية والايطالية لا المادة فقط لملاحمهم لبطولية بل الكثير من اسلوبها الشعري بالذات. وظهرت الرومنسات المطولة في الاداب الاوربية شعرا. وقد يكون بعضها في آلاف من الابيات، وكان الفن الروائي عندهم فنا شعريا, لحمته الفروسية والحب . وكلاهما مستقاة عن النموذج العربي اصلا . وسداه الصيغ الايقاعية والقوافي التي تلقنها شعراء الافرنج عن العرب، فأضافوها الى الصيغ اللاتينية القديمة لديهم . او حوروا بموجبها الصيغ الميسرة في لغاتهم.

وفي هذا السياق نستشف دلائل لها معانيها في اللغة العربية الضمنية في واحدة من اعظم الرومنسات الاوربية . وهي – اورلاندو مجنونا – التي نشرها الشاعر الايطالي اريوستو عام 1532 , يعود زمن احداثها الى عصر شارلمان الذي مات عام 814 وصراعات فرسانه مع العرب . حتى يظن القارئ ان المؤلف لا يزاوج فقط بين امرأة غربية ورجل عربي بل يزاوج ايضا بين فن اوربي وفن عربي . ويستمتع بهذه التركيبة الحضارية التي عرفها الادب في الغرب بشتى اشكاله.

ويستمر الاتجاه في الادب الاوربي على ايدي كتاب عباقرة من امثال سرفانتس , الذي كان ينقل الكثير من الفلكلور العربي في اطوار روايته – دون كيبخوتي – مثلما تلقى الصحفي الانكليزي البارع الهامه من قصص الف ليلة وليلة لما تحتويه من نزعات الاقدام والمجازفة. وكتب قصته الرائعة روبنسون كروزو . فقد كان لترجمة الف ليلة وليلة في بديات الحركة الرومانسية في انكلترا وفرنسا والمانيا صدى كبيرا.

كما يذكر الاديب اليوناني لافونتين المولود عام 1621 في مقدمة كتابه – حكايات – انه استقى روح قصصه من مصادر عربية, وخاصة كتاب كليلة ودمنه, مؤكدا ان اصل هذه الحكايات هي من حضارة بلاد العرب في اقدم اشكالها, علما ان هذه الحكاية – كليلة ودمنه – قام بوضعها باللغة العربية الكاتب المنير عبد الله ابن المقفع في بغداد, مستقيا الهاماته من الخزين القصصي المتوارث محليا والمتصل من الهند الى فارس الى العراق الى اليونان. وذلك بفضل الطاقة الاصلية التي انبثقت قبل ذلك بأكثر من الف سنة من اداب وادي الرافدين. وكان الجاحظ في كتابه – البيان والتبين – من الاوائل الذين ادركوا ان ابن المقفع كان له من البراعة ما يجعله ان – يصنع – الرسائل ويزعم انه نقلها عن لغات اجنبية. فكان عمله هذا اضافة كبرى الى حضارة الانسان كتبها باللغة العربية. هذا ما جاء في تأملات لجبرا ابراهيم جبرا .

وفي سياق اللغة العربية واثرها في النهضة الحضارية يضيف كاتب السطور :

إن الاديبة العربية المعروفة (مي زياده) تعتقد ان الحضارات العربية الاسلامية في التاريخ لم تبلغ ذروة المجد والعظمة بفضل الحملات الجهادية والجيوش العقائدية في الحروب, ولم تكن قادرة على تحقيق هدفها، لولا الفيض الوافر بقدرات اللغة العربية التي كانت الباعث الحقيقي في بزوغ شمس الثقافات الى السطوع على عواصم الحضارات في بغداد العباسية وعلى القاهرة الفاطمية وعلى قرطبة الاندلسية التي شهدت عصورا ذهبية تجلت في رقيها وازدهارها شملت جميع مرافق الحياة من عمرانية وعلمية وادبية وفنية التي ساهمت بدورها في دفع عجلة تطور ثقافة الانسان الى الامام.

– * مقتبس من البلاغة العصرية واللغة العربية للموسوعي سلامه موسى. مع اضافات لكاتب السطور.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here