عن البقايا، والنفايات، والسينما التجريبية

صلاح سرميني

من الخصائص المُميزة للمهرجان الدولي للسينمات المختلفة، والتجريبية الذي انعقدت دورته العشرين في باريس خلال الفترة من 3 وحتى 14 أكتوبر 2018، تنظيم عروض استثنائية في أماكن مختلفة، تحت عنوان “خارج الجدران”، أيّ خارج صالة العرض الرسمية التي تستضيف المهرجان، ومن أجل الدورة الأخيرة، توزّعت العروض في:
– مركز جورج بومبيدو، وهو أحد أشهر المعالم الثقافية، والفنية في فرنسا.
– المدرسة العليا للفنون الجميلة، وهي المؤسّسة التعليمية الأهمّ لدراسة الفنون الجميلة في باريس.
– المركز الثقافي السويسري.
– شاكيراي، وهو مبنى مهجور تابع لشركة السكك الحديدية الفرنسية، يديره مجموعة من المتطوعين، وبالإضافة إلى نشاطاتهم الفنية الأخرى (رسم، نحت، مسرح، رقص …)، يعرضون أفلاماً في صالة أسّسوها بأنفسهم.

وبعيداً عن جغرافيا العروض، ودلالات أهميتها، تُعتبر الميزة الثانية، والأهمّ، اختيار تيمة رئيسية لكل دورة، وتسليط الضوء عليها من خلال دزينة من البرامج، وكانت هذا العام بعنوان (بقايا، ونفايات، بعيداً عن أنظارنا)، توزّعت في 13 برنامجاً اهتم ببرمجة كلّ واحد منها سينمائيّ، أو ناقد، أو باحث متخصص، وبالإضافة للأفلام المختارة، تضمّن الدليل التعريفيّ نصوصاً تحليلية تمتلك أهمية قصوى من أجل فهم، واستيعاب التيمة، وعلاقتها بالسينما التجريبية، والسينما بشكلٍ عام.
كان العرض الافتتاحي المزدوج تحت عنوان “معاصرون”، ويُعتبر فرصةً لاكتشاف، أو إعادة اكتشاف بعض كنوز الدورة الأولى للمهرجان الذي تأسّس في عام 1999، وتشهد على حيوية السينما التجريبية، والمختلفة عاماً قبل بداية الألفية الثالثة، كما تعتبر امتداداً لما كان الراحل “مارسيل مازيه” يبرمجه في “مهرجان السينما المختلفة” بمدينة إيير الفرنسية فترة السبعينيّات.
في تقرير سابقٍ (صحيفة المدى، العدد 4295، 17/10/2018)، كتبتُ بإسهابٍ عن بؤرة الضوء الأولى، وكانت بعنوان (هل بدأ عرض الفيلم فعلاً ؟) للسينمائي الفرنسي “موريس لوميتر”.
اليوم، أبدأ من بؤرة الضوء الثانية، وهي بعنوان (مادة أولية/سويسرية/سينمائية)، وفي تقديمه لهذا البرنامج، كتب الباحث السويسري “آدينا مي”:
“يمكن قراءة تاريخ الفيلم التجريبي في سويسرا على أنه نفاية للجسد الفني”، ويقصد بالتحديد السينما السائدة، ويوضح “تتمحور الأفلام التي اختارها حول استكشاف المادية، الصوت كموضوع، مادية الخراب، واستكشاف الترتيبات البيئية البشرية، وغير البشرية”.
بينما كان عنوان بؤرة الضوء الثالثة مثيراً، وطريفاً بالآن ذاته (بقر، خنازير، ذباب، ورق)، وجمع البرنامج أفلاماً يمكن اعتبارها في مفترق الطرق بين الفنون التشكيلية، الأداء الفني المباشر، فن الفيديو، السينما التجريبية، الفيلم التسجيلي، أفلام الفنانين، واليوميات السينمائية.
وتضمّن أعمالاً شهيرة من كلاسيكيات السينما التجريبية، وأفلاماً من بدايات السينما، وأخرى نادرة.
يقول السينمائي الفرنسي “جيرار كيراسكي” عن هذا البرنامج: “منذ خمسينيات القرن العشرين، بعد أنقاض الحرب، وفي مواجهة طفرات المجتمع الصناعي الذي كان ينتج، ويرمي الأشياء اليومية، أنجز العديد من الفنانين أعمالًا تتساءل عن تلك الدورة المُدوّخة”.
بؤرة الضوء الرابعة بعنوان (جماليات النفايات) تمحورت أفلامها حول القذارة، الدناءة، الحقارة، الشوائب، وكل ماهو مثير للقرف، ..وتضمّنت أفلاماً قصيرة جداً، ومقتطفاتٍ من أفلام، وأيضاً الفيلم الطويل Coonskin من إخراج “رالف باكشي”، وإنتاج عام 1975.
واقتصرت بؤرة الضوء الخامسة على عرض فيلم Street Film للمخرج “روبرت إ. فولتون” الفائز في مهرجان إيير عام 1979، وعُرض بنسخة مرممة حديثاُ، بعد أن كان بعيداً عن العرض منذ 40 عاماً، ويشتهر “فولتون” في تعامله مع الكاميرا بحركاتٍ رياضية، بحيث يجعل المتفرج يرفرف، ويطير.
وكانت بؤرة الضوء السادسة بعنوان (النفايات الرقمية)، وكما يشير المبرمج ” أنطوان تور” بأنه “برنامج سهل الاختراق، غير دقيق، وغير محدد بشكل واضح”، وربما من المفيد الغوص أكثر في البحث عن نفايات رقمية، وتحديدها.
وكانت بؤرة الضوء السابعة بعنوان (توجهات نحو سينما خارج الأعراف)، واهتمّت بالأفلام التي تقع على حافة المجال الجمالي، أو تهرب من معايير السينما التجريبية، ويثير البرنامج مسألة وجود سينما “خارج الأعراف” ينجزها فنانون متفردون، ومنها قصائد سينمائية تشبه الحلم، ورمزياتٍ غريبة تشهد على تذوّق خاص للمواد الفقيرة، وإعادة تدوير الأشياء المُهملة.
بؤرة الضوء الثامنة بعنوان (لا لغة، ولا وجه)، تركزت على السينمائي “جيم لومبيرا”، حيث هناك شيء مفقود في أفلامه: وجوه، كلمات، أو معنى، معلقة في حالة من التحلل الدائم، ويحيل استخدامه للشريط الفيلمي إلى الرعب الذي نعثر عليه عندما تكون كل محاولة للتفسير محكوم عليها بالفشل.
في مبادرة فنية واحدة، يستجوب الفيلمان Class Picture و Taglish بالأن ذاته عن الفيلم كوسيط، والهوية ما بعد الاستعمارية للمخرج.
وكان (يوميات من دامبلاند) عنوان بؤرة الضوء التاسعة، ويشير إلى الفيلم الطويل الأول لـ “م. وودز”، سينمائيّ أمريكي ضدّ التقاليد السينمائية، يدعمه المهرجان منذ عام 2012، والفيلم تجربة هائلة تتأرجح بين كابوس خانق، وممارسة نضالية متشددة، هو منشور سينمائي ضدّ الرئيس الأمريكي “رونالد ترامب”، وبالآن ذاته فيلم تسجيلي، ورؤيوي عن الوضع السياسي الحالي في الولايات المتحدة.
بؤرة الضوء العاشرة بعنوان (فوضى صناعية)، وتوقفت عند السينمائي “كلاوس وايبورني”، والسينمائية “روز لودر”، وهما يتميزا بممارسة سينمائية يمكن القول بأنها تحافظ على البيئة، حيث يتمّ مونتاج أفلامهما في نفس لحظات التصوير، أي خالية من البقايا، وهما قريبان في منهجهما من فكرتيّ الدوري/الملتف، والهامشي/الجانبيّ، ما يتسبب بتشويش حدود الصورة، Quiproquo (روز لودر) المنجز عام 1992، و Studies for the Decay of the West (كلاوس وايبورني) المُنجز خلال الأعوام 1979-2010 استكشاف التوترات بين الطبيعة، والمواقع الصناعية الملوثة بمخلفاتها، أو المتحولة نفسها إلى نفايات، وأطلال.
“كانت بؤرة الضوء” رقم 11 بعنوان (التجريبي سياسيّ، من وجهة نظر البعض) كرزة المهرجان، وهي من برمجة السينمائي الراديكالي “بيير ميريجكوفسكي”، وانقسم البرنامج إلى أداء تحريضي مباشر، وعرض بعض الوثائق التسجيلية لتظاهرات، واحتجاجات تجسد مفهومه الجذري عن السينما التجريبية، والسينما بشكلٍ عام.
ولا يتوقف المهرجان عن كشف كل جوانب الراديكالية في السينما، حيث كانت بؤرة الضوء” رقم 12 بعنوان (من حاويات النفايات إلى الشاشة : الأفلام جاهزة الصنع)، واستناداً على تعريف الفنان الفرنسي “مارسيل دوشا”: العمل الفني الجاهز الصنع، يعني تحويل كائن جامد من أهدافه الأصلية، وإعادة تأهيله، وجعله يكتسب مكانة عمل فني، الأفلام التي عُرضت في هذا البرنامج، ناتجة من المواد التي يعثر عليها السينمائيون في حاويات مهملات المختبرات، والوثائق الأرشيفية المنسية، أو حتى أفلاماً تُعرض كما هي منذ أن وضعت على رفوف المخازن المظلمة.
بؤرة الضوء 13 بعنوان (محطة العقل المثالي للزبالة)، في المستقبل القريب، سيتم تدمير النظام البيئي العالمي، ولن يكون هناك سوى علبة قمامة عالمية واحدة، وهي الشرط الوحيد للبقاء على قيد الحياة.
“محطة العقل المثالي للزبالة” عرضٌ/أداءٌ فني مباشر استعان بعدد من أجهزة العرض بالإضافة إلى مجموعة من الأجهزة الصوتية التي قامت بإنشاء فضاء خاصاً بها، تختلف

عن تلك الخاصة بالصور.

المدى

 

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here