أخطر مخلوقات الله : قصة قصيرة

بقلم مهدي قاسم

ومثلما اعتاد كل يوم تقريبا ، و اليوم أيضا خرج في نزهته الطويلة باتجاه جزيرة مارغريت
، مصطحبا معه أحد أصدقائه الأوفياء و الهادئين ـــ كما يسمي كتبه ــ ليجلس بعد ساعتين من مشية رياضية مضنية ولكن صحية جدا ! ، تحت إحدى الأشجار المهيبة و الوارفة الظلال ، المفضلات عنده من ذوات مئات سنين من أعمارها العتيدة ، مستغرقا في قراءة ممتعة لساعات طويلة
، و لأنه اعتاد الجلوس تحت هذه الأشجار التي أعتبرها هي الأخرى من ضمن قائمة أصدقائه الرائعين و بحضورها الجميل المدهش و صمتها المهيب ، ما عدا هسهسة ريح مشاغبة عابرة بين حين وآخر يحلو لها أن تلاعب الأغصان قليلا لتمضي إلى شأنها نحو غابات آخرى ، عند ذاك تحيطه
بضعة سناجب بعدما تكون قد نزلت من قمم تلك الأشجار ، حيث تعوّدت عليه و لم تعد تجفل من حضوره أو حركاته المفاجئة ، سيما هو يأتي وفي جيبه حفنة من بندق أو فستق ، فيرميها لها على مسافة قريبة ، فتأتي هي مقتربة منه بجسارة غير معهودة ، و تلتهم حبات البندق في الحال
و بسرعة سباق خاطفة مع بعض غرابان متطفلة على وليمة تخصها هي بالذات ، و أحيانا كانت السناجب تطالب بكمية أكبر ، وهي تراقب حركاته انتباه ويقظة متوترة ، عسى ولعل يرمي بحفنة آخرى ..

آنذاك كانت تنتابه حالة من إشراق مباغت ومسرة روحية عميقة شبيهة بتجليات صوفية ، نحو
الطبيعة ومخلوقاتها غير البشرية ، فبقدر ما كان يزداد ولعا و حبا بكل هذه المخلوقات الجميلة والرائعة والمسالمة ، كان في الوقت نفسه ينفّر من بشر ، محولا الابتعاد عنهم قدر الإمكان ، ومن ثم الاستغراق اندماجا و انصهارا مع عناصر و مخلوقات الطبيعة ، إذ كان يعد قسما
من البشر أشرارا ، و قسما آخر أنانيين و جشعين ، و قسما ثالثا غير مكترثين ولا مبالين ، متيقنا من أن أخطر مخلوقات الله على الأرض هم البشر ، مندهشا من الأسباب التي دعت الخالق إلى خلقهم ، سيما هو عالم ومدرك مسبقا ، بمدى جشعهم و أنانيتهم بل خطورتهم هذه على جمال
الطبيعة البديعة و حديقته المذهلة والخلابة جمالا ساحرا ، ولكنها عما قليل ستكون متصحرة و بشعة بفضل بشر جشعين و غير مبالين .

انتبه إلى انحسار ضوء النهار شيئا فشيئا ، و انسحاب السناجب صعودا إلى قمم الأشجار
، و ارتفاع وتيرة زقزقة و تغريد طيور كرنفاليا عاليا وهي تنادي بعضها بعضا كعشاق غائبين اشتياقا :

ــ إذن أنه وقت الغروب قد حان ، بينما الشمس تهبط غائصة بنصفها خلف التلال المحيطة
لتبدو كشعلة جبارة ، و خصلاتها المشعة والساطعة الطويلة لا زالت تشتعل باحمرار على امتداد النهر ، و تتوهج وميضا قرمزيا ، يرتعش متكسرا على موجات متهادية متأرجحا ، حيث تعوم نوارس ناعسة باستسلام وديع و كأنها راحلة نحو الأبدية .

نهض ناكثا بعض أعواد قش و أعشاب يابسة أخرى كانت عالقة على ملابسه ، ثم فتح ذراعية
فجأة محتضنا الشجرة بحنان عاشق ولهان ثم طبع عليها قبلة خاطفة ومضى راجعا إلى ضجيج المدينة الصاخب و زحمة البشر الخانقة .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here