قصة قصيرة (حسون أفندي)

حسون أفندي*

للمربي الراحل علي محمد الشبيبي

1913-1997

مقدمة لابد منها

سبق ونشرت عام 2017 لوالدي علي الشبيبي طيب الله ثراه مجموعته القصصية (السر الرهيب). ومن اليوم سأسعى لنشر مجموعة الوالد القصصية الثانية بعنوان (هذا من فضل ربي) وهي خمس قصص قصيرة. إن أفضل ما أقدمه لذكرى والدي هو العمل على نشر تراثه، هذه الأمنية التي كانت تراوده طيلة حياته لكن الظروف السياسية القاسية وانعكاسها على وضعه العام -من فصل، وملاحقات واعتقال، وسجون، وتبعات أخرى- كانت حائلا جديا لطباعة ونشر مخطوطاته، مع العلم أنه نشر الكثير منها في بعض الصحف العراقية والعربية.

وعن مجموعته هذه -هذا من فضل ربي- كتب والدي التعليق أدناه عنها وعن بقية قصصه القصيرة، فوجدت من الضروري نشرها لأنها تعطي صورة متكاملة عن محاولات الوالد في كتاباته وتطور اسلوبه وتفكيره، وهو يكتب عن كل ذلك بتواضع وصدق. فكتب الوالد بتاريخ 17/10/1966 في دفتر مخطوطاته الملاحظة التالية عن قصصه:

(هذه مواضيع كتبتها في أول شبوبي، وفي ظروف ما كنت فيها ذا نهج معين. فأنا أتلقف ثقافتي من مصادر مختلفة. أبي وأصحابه من جهة، وأساتذتي الذين أدرس بحضرتهم، الفقه وأصوله، العربية وآدابها[1]. ومن جهة ثانية أندية النجف ومجالسها وما تتضارب فيها من اتجاهات مختلفة وأراء متباينة. هذا الى جانب ما فيّ من نوازع الشباب ونفوره، ومطامحه وغروره، وجهلي الناجم عن ضغطه عليّ وتقييده لحريتي، وحجزه لأفكاري ورغباتي.

كل هذه الفوضى، وانعدام التوجيه المنظم، خلقت بي عقدا، وسببت لي إنطوائية، طغت على كل مشاعري، وأحالتني الى كشكول درويش. فأنا جبراني الاسلوب -تقريبا- في كتاباتي، والكآبة التي تغمرني والغموض الذي يكتنفني. وأنا فكه أحب النكتة اللاذعة للفراغ الذي يملأ حياتي من جهة، والكتب التي ترهق نفسي من جهة ثانية وأنا مثالي صارم مع نفسي وأصدقائي في كثير من الامور بسبب المحيط الذي يحصرني بين ابي والمجالس النجفية التي لا تخرج الى ابعد من اجترار الادب الموروث، والجدل -البيزنطي- السقيم. وأنا متمرد! ولكن تمرد مكتوف اليدين، موثوق الساقين، مكموم الفم.

عن مثل هذه الحياة التي حييتها، انعكست هذه المواضيع فلا تستغرب قارئي الكريم، إذا ما وجدت فيها تناقضات أو أخيلة، أو ترهات!

وحسبي ان استقامت أفكاري بعد حقبة من السنين[2] … إلا أني حباً بذكريات شبابي، واعترافا بأخطائي، أحتفظ بهذه المواضيع، ليس اعجابا بها ولا إيمانا بصحتها، إنما هي بالنسبة لي كالأبناء للوالد، يكون فيهم الأبله، والذكي، والقبيح والجميل، والجاهل والفهيم، ولكنه يحبهم جميعا، حبا تختلف درجته وحنواً تتفاوت نوعيته.

فليكن لي العذر من أي جيل كان وأي زمن! كربلاء/ علي محمد الشبيبي)

الناشر محمد علي الشبيبي

السويد/العباسية الشرقية

29/11/2018

حسون أفندي

وقفت ماجدة أمام المرآة تتحسس جسمها الرشيق، تلمست نهديها البارزين كفنجانين مقلوبين. ونظرت بطرف عينيها ردفها فوجدته كما تتمنى النساء. وأمرّت يدها على بطنها، فارتاحت كثيراً لما أحست بانبساطه ولينه. كل شيء فيها جميل، شفتاها الريانتان، خدّاها الورديان، شعرها الجعد. ثم هي محبوبة زوجها، بل هي قبلته التي يصلي إليها. وقد غمرها بعطفه وحبه، لا بل بطاعته وإذعانه أيضاً. فما لها إذن تملأ جو الغرفة زفيراً وحسرات؟!

طالما حلمت بحياة رافهة، وسعادة بيتية، وكلّ هذا الآن بين يديها. بيتها مليء بكل ما يلزم، الحبوب، السمن، الدجاج، الفواكه! ولطفلها أنواع اللعب. فما هذا الذي يختلج في صدرها؟ حتى ليثير فيها الرغبة الشديدة إلى البكاء؟!

كان زوجها أبو جميل يحس شيئاً ما يختلج بصدر زوجته، لكنه لا يريد ولا يحاول أن يستفسر منها سرّ هذه الكآبة التي كثيراً ما تلوح على قسمات وجهها. ويبدو أنه يعرف سرّ ذلك. ويحاول أكثر ما يمكن أن يقنع نفسه عكس ما يعتقد.

في هذه الآونة التي كانت فيها ماجدة أمام المرآة تغمرها أمواج التفكير، تذهب بها تارة إلى الماضي البعيد وإلى ما كانت تنتظر وتحلم به من مستقبل تارة أخرى، وإلى الحاضر الذي هي فيه وتتمناه كثيرات من أمثالها، لكن لا مع –حسون أفندي- طبعاً؟!

في هذه الآونة كان حسون أفندي أبو جميل، منطرحاً على فراشه بجانب ابنه، وقد غمر هو نفسه أيضاً بالتفكير. يستعيد ذكريات ماضيه، ينشر أحلامه، ويستعرض أدوار حياته! حقاً لقد عانى من شقاء الحياة ما يمضّ الجسم ويضنيه، ويشعل الرأس شيباً. فأبوه كان معدماً، يعيش من نتاج أرض زراعية صغيرة لا تكفي معيشة شهرين، لولا أنه يتقاضى بعض الحقوق الشرعية بإسم العمامة على رأسه، والزي الذي يرتديه. وتباً للزمن إذ أبقى وطابه خالياً من العلم إلا ما يحتاجه كل إنسان من فروض الدين اليومية وملحقاتها.

أما هو فقد سار على نهج والده –ومن يشابه اَبَه فما ظلم- من عدم التزود، ولو بحظ يسير من العلم. على الرغم من أنه حضر كثيراً من حلقات التدريس، وحمل بعض الكتب، ولازم مجالس العلماء، وأندية الأدباء، ومع ذلك فان حظه لازم العثار، والفشل.

لقد حاول مرة أن يكون شاعراً، وانه ليسمع أن الشعراء يتغزلون، بأحباب يتعذبون بهجرهم، ويحترقون بنار بعادهم، وهذا سر شاعريتهم. والضمير عند هؤلاء الشعراء مذكر، فهام بالغلمان …؟! إلا انه أطفأ نار الوجد، قبل أن تسيل عواطفه شعراً …؟!

وانقلب عن هذا الغرام إلى غرام بالعذارى. وكم تصدى لهن فغازلهن بعينيه الصغيرتين المشنوطتين! غاص في التفكير، وتذكر كم فشل في صيد واحدة منهن ولو بالوعد والهجران. وتذكر كيف نجح أخيراً حين أحب –ناعمة- عشيقة الفتى القروي، بعد أن فشل الفتى في حبه، بسبب تعنت والده الإقطاعي؟ وقد سبق وأرسله إلى هذه المدينة للدراسة.

فكان حبه لـ -ناعمة- بلسماً لجراح قلبها المكلوم، بسبب ما لقيت من فشل في حبها الأول. والتجاؤها إليه ظفر عظيم أصابه، لكنه مع ذلك لم يصبح شاعراً، لأن حبيبته منحته كل ما يصبو إليه! وقد جرى بينهما تماس كثير. فناما متلاصقين جلداً إلى جلد، وتمتعا بشتى صنوف اللقاء، ومع كل هذا لم يستطع أن يرغم أهله على الزواج منها. فهي إبنة الفقيرة الشبه مجنونة. بينما أمه تتغنى دائماً بمجد القبيلة التي ينتمون إليها!

أضطر أخيراً أن يرحل عن مدينته، يفتش عن عمل يمكنه من التزوج بها، فوّفق إلى وظيفة رئيس كناسين في إحدى محلات العاصمة. وبعد شهرين تم زواجهما، وما لبثا أن تهاجرا، بعد أن ذاقت مرارة الجوع، فعادت إلى أمها، وفي رحمها منه جنين.

وهنا جف ريق صاحبنا حسون أفندي بفمه. وكاد يختنق ندامة، حين تذكر اليوم الذي بلغته ام –ناعمة- أنها على وشك الولادة! ثم رسالتها الثانية التي تبلغه فيها أمها، أنها ولدت بنتاً، واشتهت أن تذوق الفاكهة، ولكنها توفيت بعد ثلاثة أيام قبل أن تذوق ما اشتهت!

تذكر –حسون أفندي- كل هذا، وغرق في التفكير عن كل شيء، عن ابنه الذي كان مطروحاً إلى جانبه على فراش وثير، يلاعب الهواء برجليه ويديه، وعن زوجته التي فارقت المرآة، بعد أن أصلحت من شأنها لإعداد شاي العصر.

وكأنه قد أفاق من نوم، وصحا من حلم، فأرخى يديه إلى جانبيه، ومدّ رجليه. والتفت عن يمينه وشماله. وأبتسم ابتسامة سخر وازدراء، وتمتم في سره، آه للأقدار كم تضحك! كم حاولت أن أظفر بحب، وبحياة تسعد من أحب فلم اسعد. لم أستطع ان أكون –مذ أحببت المسكينة نعيمة- أكثر من رئيس كناسين، وها أنذا الآن –حسون أفندي- لم أنقص ولم أزد. أصبحت الآن مدير نفوس!

كيف صرت؟ كيف جاءت ظروف الحرب؟ فجعلت وظيفتي مغناطيساً للمال؟ صرت مقدراً بعيون الكثيرين الذين يهمهم أن يحوزوا على دفاتر المواد المعيشية والكساء، وبفضل أمثالي تصاعد عدد نفوس العراق من ستة ملايين إلى عشرين مليون؟!

تمكنت أخيراً أن أحظى بهذه الوردة –ماجدة- ولكن آه … ان ماجدة لفي ذهول في كثير من الأحيان. عثرت عليها مرات تناجي نفسها عن زمان مضى! ليتني أعرف ماذا عن ذلك الزمان! ووجدتها تطري كثيراً ذكر ذلك الشاب –جارنا إحسان- فهي تثني على أدبه وشاعريته، وكلما وجدت مناسبة لذلك. وتتساءل: لِمَ هوّ على علمه بائس فقير؟ دائماً في السجون أو في محنة من المضايقات.

أوه كم أصبحت أحقد عليه، لا لشيء سوى أني أعتقد أن ماجدة تتمنى في قرارة نفسها، لو كان لإحسان هذه الوظيفة، مادام ليس لي علمه وأدبه؟

وتنفس تنفساً عميقاً حاداً وقال: آه. لو علمت ماجدة ان هذا المال الذي أغمرها به ليس من مرتب هذه الوظيفة. إنما هو من فضل –الحرب- وأرباب المصالح المضطرين! أما ما يلاقيه إحسان من مضايقات وسجون، فلأنه يفضح اللصوص والمرتشين والخونة والمأجورين!

للمربي الراحل

علي محمد الشبيبي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*- نشرت في مجلة –واسط- وأغلقت هذه المجلة بعد صدور العدد الثاني. وأعتقد ان ذلك كان في احدى السنوات 1941/1945 . كتبت هذه القصة، وهي حقيقية لصاحب لي من جيراني أيضاً أيام كنت أعيش في بيت والدي.

1- في النحو واللغة درست عند متعددين، أولهم الشيخ خلف البهادلي ثم الشيخ حسن لحامي، وفي المنطق الشيخ محمد رضا المظفر، وفي الفقه وأصوله عند الشيخ طاهر الشيخ راضي وقريبه الشيخ هادي، والسيد أمين الصافي والسيد مير صهر السيد ابي الحسن الاصفهاني.

2- تعود الى أعوام الاربعينات حيث أقبلت على الصحف والمجلات التقدمية والفلسفة المادية. حيث أقبلت بشغف على مطالعة الفلسفة الحديثة للدكتور عبد المنعم خلاف وغيره.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here