مساهمة في إعادة قراءة ماركس (4)

“البيان الشيوعي” .. ملاذ الثوريين الروحي

رضا الظاهر
يبدو الحال اليوم وكأننا في غمرة مرحلة جديدة من التاريخ. فقد تعاظمت المظالم، وأفلحت أزمة 2007 – 2008 المالية في ايقاظ جديد لمقاربة أكثر انتقادية للاقتصاد، وللمجتمع أيضاً. وتذكرنا الحركات الشعبوية في الولايات المتحدة وبريطانيا وسواهما بأن النخب الاقتصادية الفاعلة، أي البرجوازية، غالباً ما تحتاج الى استثمار الخوف، والعثور على أكباش فداء، وزيادة الانقسام والكراهية.
ان افتراضات مابعد الحرب العالمية الثانية من أن الأمور ستتحسن، وأن كل ما نحتاجه هو المزيد والمزيد من النمو، وأنه يمكن الثقة بأن دولة الرفاه الحديثة ستعيد توزيع الموارد على نحو عادل، وأننا نستطيع الاعتماد على الأقوياء ليعتنوا بالآخرين، كل هذه الافتراضات تثبت، اليوم، أنها خاطئة.
ومن هنا، فانه من الضروري، في غمرة كل هذه المخاوف، والمعاناة، والقلق، والأمل، أن نعيد قراءة (البيان الشيوعي)، ورؤية ما يمكن أن يمنحنا من بصائر، ويعلمنا من دروس.

ملخص الأفكار الرئيسية

من نافل القول إن (البيان الشيوعي)، الذي كتبه ونشره ماركس وانجلز في شباط عام 1848، ليظل مرشداً للحركة الشيوعية، والسعي الى تغيير العالم، ليس مجرد تشكيلة من اقتراحات سياسية. وبوسعنا رؤية هذه الحقيقة عندما نتفحص بنيته:
1- البرجوازيون والبروليتاريون: هذا الفصل الأول والأطول يوضح النظرة الشيوعية من أن التاريخ تصنعه عملية حتمية من الصراع الطبقي يكشف عنها التحليل العلمي الذي أنجزه ماركس وانجلز.
2- البروليتاريون والشيوعيون: ويوضح هذا الفصل أن الشيوعيين هم أولئك الواعون بحركة التاريخ، والذين يربطون أنفسهم بأفضل عناصر البروليتاريا، أولئك الذين سيكونون طليعة التغيير.
3- الأدب الاشتراكي والشيوعي: وينتقد هذا الفصل، جوهرياً، الأشكال المختلفة للاشتراكية غير المؤهلة، أنماط الاشتراكيين الذين لا يدركون مكانتهم في التاريخ.
4- موقف الشيوعيين من مختلف الأحزاب المعارضة: وهو فصل صغير يحدد الأحزاب التي يدعمها الشيوعيون في مختلف البلدان.
ويمكننا أن نستنتج الفرضية الرئيسية لـ (البيان الشيوعي) من تعميم ماركس الشهير الذي يؤكد أن “تاريخ كل المجتمعات، حتى الآن، هو تاريخ صراع الطبقات”. وأشار ماركس، جوهرياً، الى أن الطبقة هي السمة المحددة للمجتمع الصناعي الحديث. وبينما يتبرعم المجتمع الحديث من بقايا المجتمع الاقطاعي، فان هذا لم يتخلص من الصراع التناحري. ويجادل ماركس بأنه في الفترات المبكرة كان المجتمع ينظم على أساس بنى طبقية معقدة، كما هو الحال في العصور الوسطى، حيث يوجد الاقطاعيون والتابعون، ورؤساء الحرف والصناع والأقنان. وبالنسبة لماركس فانه يعتقد أن الصراع الطبقي لايزال موجوداً، ولكن في هذا العصر باتت التناحرات الطبقية الحديثة أكثر وضوحاً بين طبقتين هما البرجوازية، المضطهِدة، والبروليتاريا، المضطهَدة، وهما في تناقض دائم.
ثم يمضي (البيان) ليحدد خصائص الطبقتين التي تتجلى في العلاقة الاستغلالية بين البرجوازيين والبروليتاريين. فالبرجوازيون هم نتاج ثورات عدة، ومالكو وسائل الانتاج ممن حصلوا على قوة دافعة بفعل عصر الاكتشافات. ويصف ماركس البروليتاريين باعتبارهم طبقة عمال يعيشون فقط عندما يجدون عملاً، ويجدون عملاً لأن عملهم يزيد رأس المال، الذي يختزلهم نظامه ليصبحوا “سلعة”.
ويتقدم ماركس ليجادل بأن تقسيم العمل استغل البروليتاريين حيث يجردون من هويتهم بمقتضى حلول “المكننة الواسعة”، وبهذا يصبح الانسان ملحقاً بالآلة. والعمال عاجزون عن تغيير ظروفهم، واذا “يتزايد نفور العمل تتقلص الأجور”. ان نظام الاضطهاد هذا مدعوم بمؤسسات مثل نظام التعليم (الذي هو جزء من البناء الفوقي) والذي يعزز قيم الطبقة الحاكمة.
ثم يناقش ماركس كيف أن تطور الصناعة زاد من قوة البروليتاريا، والمنافسة المتنامية بين البرجوازيين، والأزمات التجارية الناجمة عن ذلك، وهو ما يجعل أجور الشغيلة متذبذبة على الدوام. ولكن بما أن هناك المزيد منهم فانهم أقوياء بما يكفي ليتوحدوا ويعبروا عن كفاحهم ضد تدني الأجور. وبتأسيسهم النقابات فانهم يتضامنون في المطالبة بالحفاظ على تصاعد الأجور.
ويجادل ماركس، بعد ذلك، في أنه كلما كان الاتحاد النقابي أكبر كلما تزايدت فرص انتصار الشغيلة في تغيير نظام العمل، مشيراً الى أن كفاحهم من أجل المساواة لا يكمن في النتيجة قصيرة الأمد، وانما في اتحاد العمال المتسع على الدوام.

انتقادات

ان سقوط البرجوازية وانتصار البروليتاريا أمران حتميان. وعلى الرغم من أن مبادئ وأفكار ماركس وانجلز تقضي بأن البروليتاريين سيطيحون بالبرجوازيين، فانه بعد ما يزيد على قرن من الزمان لم يتمرد العمال في بريطانيا والمجتمعات الصناعية الأخرى ضد الرأسمالية، ولم يجتثوها.
وتشير دراسات الفيلسوف الألماني رالف داهرندورف الى سبب عدم حدوث الثورة الماركسية في القرن العشرين. وقد حدد داهرندورف أربعة أسباب لذلك:
السبب الأول كان تشظي الطبقة الرأسمالية، اذ أشار الى أن وسائل الانتاج كانت، في السابق، مملوكة، عادة، بصورة شخصية من قبل عوائل، أما في القرن العشرين فان الشركات والممتلكات مملوكة، الى حد كبير، من جانب حملة الأسهم.
ويعود السبب الثاني الى أن العمال ذوي الياقات البيضاء وارتفاع مستوى المعيشة قد غيّرا البروليتاريا الصناعية التي تحدث عنها ماركس. فالشغيلة كانوا، في عهد ماركس، يعملون إما في الحقول أو في المصانع. وكانت لديهم ياقات زرقاء أو مهن يدوية، وكانت الوظائف الدائمة المتدنية مرتبطة، في الغالب، بالعمل الجسدي. أما اليوم فانهم يحتفظون بوظائف الياقات البيضاء، والعمل ذي الاعتبار الأعلى، الذي يشمل، غالباً، النشاط الذهني، مثل الأدوار الوظيفية في المبيعات والادارة والمؤسسات البيروقراطية.
ويتمثل السبب الثالث في أن هناك تنظيماً أوسع للعمال يتمتعون فيه بنقاط قوة تنظيمية كانت تنقصهم قبل قرن، فلديهم اتحادات نقابية توحدهم وتجعل مطالبهم مدعومة بقدرتهم على التهديد، فيما باتت العلاقة بين العمال والادارة مؤسساتية وسلمية.
وأخيراً فان مزيداً من الضمانات القانونية الواسعة تساعد في حماية حقوق العمال، وقد منحتهم امكانيات أفضل للتوجه الى المحاكم دفاعاً عن حقوقهم.
ويشير داهرندورف، أيضاً، الى أنه بغض النظر عن الطبقات المتعددة المتواصلة، فان الكثير من المجتمعات قد ذللت الحافات الخشنة لبعض أنماط الراسمالية. وقد يكون الصراع الاجتماعي، اليوم، أقل حدة مما كان عليه قبل قرن. وأكثر من ذلك فقد جادل بأنه على الرغم من أن ماركس شهد تزايد وسائل الاعلام في عصره، فانه لم يستطع التنبؤ بالتأثير الكبير الذي يمكن أن تمارسه أشكال الاعلام علينا. فقد وفر لنا نمو هذه الأشكال تسلية أنفسنا الى حد كبير، بحيث أصبحنا مشبعين بهذه التسلية، التي أدت بالناس الى فقدان نمط تفكيرهم الانتقادي بشأن طبيعة مواقفهم الطبقية.

وسيلة راهنة لتحليل سمات الرأسمالية

بعد 170 عاماً على نشر (البيان الشيوعي)، الذي عرف أصلاً باسم (بيان الحزب الشيوعي)، لا يزال كثير من الباحثين والمكافحين يرونه وسيلة راهنة لتحليل سمات الرأسمالية وتحديد طريق تطور الانسانية.
ومنذ نشره ظل (البيان الشيوعي) حتى الآن الوثيقة السياسية الأوسع انتشاراً، وفي الوقت نفسه جرى وصفه منذ زمن بعيد باعتباره “الفجر البهي في التاريخ الروحي للانسانية” و”الملاذ الروحي للشيوعيين”.
ونشهد، اليوم، تجدداً في الاهتمام بماركس والماركسية توافقاً مع الذكرى الـ 200 لميلاد ماركس، لا في بريطانيا التي ولدت فيها الماركسية حسب، وانما، أيضاً، في سائر أنحاء أوروبا، قلعة الرأسمالية، وفي مختلف أنحاء العالم.
وقد باعت مؤسسة ووترستون البريطانية المعروفة للنشر والتوزيع ما يزيد على 300 ألف نسخة من (البيان) خلال أسبوع في أواخر شباط 2015.
وتزايدت مبيعات (البيان الشيوعي) منذ عام 2008 عندما اندلعت الأزمة المالية العالمية، كما كان الحال مع (رأس المال)، أعظم مؤلفات ماركس في الاقتصاد السياسي، و(الغروندريسه)، التي تحمل بالانجليزية عنوان (موجز نقد الاقتصاد السياسي).
وتصاعدت تلك المبيعات ارتباطاً بمعاناة الشغيلة من العوز وعدم استقرار فرص العمل. وبايجاز فان الأزمة المالية قوضت ثقة الكثير من الناخبين الغربيين بالرأسمالية لأنها كشفت عن مخاطر الأسواق المأزومة.
ويأتي تجدد الاهتمام بالماركسية، خصوصاً في أوساط الشباب، لأنها توفر الأدوات لتحليل الرأسمالية، وعلى وجه التحديد أزماتها التي نواجهها في السنوات الأخيرة، كما كتبت صحيفة (الغارديان) البريطانية في 4 تموز 2012.
ونقلت الصحيفة عن مارك ستيرز، رئيس مؤسسة (نيو إيكونوميكس) قوله إن “مشكلة الرأسمالية تتمثل في أنها لم تعد كما كانت. فالنظام الرأسمالي الذي نعرفه تهيمن عليه الشركات والبنوك العالمية الهائلة”. وأضافت “أجل، إن الرأسمالية في مفترق طرق، وهي في حاجة ماسة للاصلاح والتحديث”.
وفي مقالة نشرت يوم 5 أيلول 2017 قالت صحيفة (التلغراف) البريطانية إن “الرأسمالية في بريطانيا متصدعة وبحاجة ملحة الى الاصلاح لأنها تترك الشباب في وضع أسوأ مما كان عليه آباؤهم”.
والرأسمالية البريطانية “تخذل” الأطفال “الذين سينشأون في عالم حيث الهوة بين الأغنى والأفقر في البلاد واسعة وتزعزع الاستقرار”، كما ذكرت صحيفة (الفايننشيال تايمز) البريطانية في أيلول 2017.
وللوهلة الأولى يبدو أن الرأسمالية بخير. غير أنه عند التدقيق تظهر الصورة أكثر اثارة للقلق: الرأسمالية تخفق في التعامل مع الحراك الاجتماعي وتوفير الرعاية الاجتماعية لأولئك الذين هم بأمس الحاجة اليها.
ويزعم كبار رؤساء العمل في بريطانيا بأن النظام الرأسمالي قد تضرر جراء جشع الادارات، والتهرب من الضرائب على الشركات، ونظرة المستثمرين قصيرة المدى.
وشعر كثيرون في بريطانيا بالآثار المدمرة للنظام الرأسمالي: انخفاض الأجور، ارتفاع التكاليف، عدم استقرار العمل، دولة الرفاه المرهقة، الخدمات العامة المتدنية، النمو المتوقف، الانتاجية المتخلفة، والتواصل الاجتماعي المفقود.
لقد اقترع البريطانيون في حزيران 2016 على مغادرة الاتحاد الأوروبي، وهو القرار الذي اتخذ اسم “بريكست”. ولايزال من صوتوا لصالح الخروج ومن صوتوا لصالح البقاء في نزاع لا نهاية له يتجلى، في جانب منه، بالاستقالات التي قدمها عدد من وزراء الحكومة الى رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي مؤخراً، بينما حث الاتحاد الأوروبي الحكومة البريطانية على التحرك السريع من أجل “مزيد من الوضوح” حول خططها بشأن مغادرة الكتلة الاقليمية.
وحفز المشهد السياسي الحالي في بريطانيا الناس على التعبير عن موقف ايجابي تجاه الاشتراكية. وكشفت دراسة قامت بها شركة (يوغوف)، وهي شركة بحث في السوق وتحليل للمعلومات، في شباط 2016 أن حوالي 36 في المائة قالوا إنهم ينظرون الى الاشتراكية نظرة ايجابية، بينما عارضها 32 في المائة.
وبريطانيا ليست وحدها في هذا الوضع. فوفقاً لدراسة جديدة قال ما يزيد على 40 في المائة من الشباب في الولايات المتحدة إنهم يفضلون العيش في مجتمع اشتراكي على العيش في مجتمع رأسمالي، وفقاً لما أوردته صحيفة (الديلي ميل) البريطانية في 2 تشرين الثاني 2017.
وعلى أساس هذه الخلفية يريد الناخبون في بريطانيا من الحكومة أن تتخذ مقاربة أكثر اشتراكية في السياسة الاقتصادية عبر اعادة تأميم السكك الحديد والخدمات العامة، وفي الوقت ذاته خلق سقف أجور لأصحاب الأجور الأعلى.
ويفضل حوالي 83 في المائة من الناخبين البريطانيين الملكية العامة لشركات المياه على خصخصتها، بينما يريد 77 في المائة اعادة تأميم شركات الكهرباء والغاز، و76 في المائة يريدون أن تعود السكك الحديد تحت هيمنة الدولة.
وأكد تقرير نشرته صحيفة (الغارديان) يوم 21 كانون الثاني الماضي هذا الاتجاه، داعياً الى مزيد من المقاربة الاشتراكية في ادارة الاصلاحات
السياسية في البلد الصناعي الأول في العالم.

شبح يجول في أوروبا

في مقال هام كتبه الاقتصادي ووزير المالية اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس في نيسان الماضي أضاء حقيقة أن ماركس تنبأ، في (البيان الشيوعي)، بأزمنتنا الراهنة، والرأسمالية المعولمة في القرن الحادي والعشرين، ورسم طريق الخروج من الأزمة. ولكنه (وانجلز) أظهرا، أيضاً، أن لدى البشر القدرة على خلق عالم أفضل.
ومن أجل أن يفلح (البيان) لابد أن يتحدث الى قلوبنا بلغة شاعرية، بينما يقدم لعقولنا صوراً وأفكاراً جديدة على نحو باهر. انه بحاجة الى أن يفتح أعيننا على الأسباب الحقيقية للتغيرات المذهلة والمقلقة والمثيرة التي تظهر حولنا، وهي تكشف عن الاحتمالات التي تثقل واقعنا الراهن. وينبغي أن يجعلنا نشعر بأننا غير مؤهلين، على نحو يائس، لأننا لم ندرك هذه الحقائق بأنفسنا، وانه يجب أن يرفع الستارة عن الادراك المقلق بأننا بقينا نتصرف كمتواطئين صغار، معيدين انتاج ماضٍ مسدود الطريق .. وأخيراً فانه يحتاج أن يمتلك قدرة سمفونية عظيمة ليحفزنا على أن نصبح ممثلين طليعيين لمستقبل ينهي معاناة الملايين من المظلومين، ويلهم البشرية كي تصل الى ضفاف حريتها الحقيقية المأمولة، كما قال فاروفاكيس.
وما من بيان أفلح في انجاز كل هذا أفضل من ذلك الذي كتبه ماركس (الفيلسوف الذي كان عمره يومئذ 29 عاماً) وانجلز، وريث مصنع مانشستر (الذي كان عمره 28 عاما) !
وكإبداع من الأدب السياسي يظل البيان عملاً لا نظير له. ان سطوره الأكثر شهرة، بما في ذلك افتتاحيته: “إن شبحا يجول في أوروبا .. شبح الشيوعية …” تتسم بنغمة شكسبيرية. وشأن هاملت، الذي واجه شبح والده المغدور، يجد القارئ نفسه ملزماً بالتساؤل: هل يتعين علي أن أذعن للنظام السائد، وأعاني من عقبات الحظ الشائن الذي تكبدته بسبب قوى التاريخ التي لا تقاوم ؟ أم أنه يتعين علي الالتحاق بتلك القوى التي ترفع السلاح بوجه الوضع الراهن، وتعلن، عبر مقاومته، عن عالم جديد جريء ؟
انه لأمر مدهش حقاً أن يرى (البيان) ما وراء الأفق، في وصف دقيق لما سيحل بعد ما يزيد على قرن ونصف في المستقبل، وفي تحليل عميق للتناقضات والخيارات التي نراها اليوم. ففي أواخر أربعينات القرن التاسع عشر كانت الرأسمالية محلية ومتشظية، غير أن ماركس ألقى نظرة ثاقبة عليها وتنبأ برأسمالية عصرنا المعولمة. وهذا هو الكائن الذي ظهر بعد عام 1991، في اللحظة ذاتها التي أعلنت فيها المؤسسة الرأسمالية “موت الماركسية” و”نهاية التاريخ”.
ويمنحنا (البيان الشيوعي) في القرن الحادي والعشرين الفرصة لرؤية فوضى الرأسمالية، وادراك ما نحتاج الى القيام به لتتفادى الأغلبية السخط باتجاه وضع اجتماعي يكون فيه “التطور الحر لكل فرد هو الشرط للتطور الحر للجميع”. وعلى الرغم من أنه ليست هناك خارطة طريق كاملة لكيفية الوصول الى هناك فان (البيان) يبقى ينبوعاً للأمل، وجذوة للالهام، ومرشداً للعمل.

راهنية .. آفاق

في السنوات الأخيرة، وخصوصا منذ الذكرى الـ 150 لصدور (البيان)، صدر الكثير من الكتب والأبحاث التي تدرسه وتحلله، وتذكرنا بحقيقة أنه لايزال راهناً، وانه ليس فقط رداً على أوهام من أعلنوا “نهاية التاريخ”، وانما هو نداء لنا كي نعيد النظر في أفكار ماركس وانجلز في ضوء الأزمة الراهنة للرأسمالية كنموذج للتطور المعولم.
ومن الجلي أن (البيان) ركز، دون كلل،لا على وحدة “الشعب”، وانما على الانقسامات في التشكيلة الاجتماعية التي تضع طبقة ضد أخرى في صراع حتى الموت. وعندما نشر (البيان الشيوعي) عام 1848 لم يقرأه سوى عدد محدود من الناس، غير أن ماركس وانجلز كانا منغمرين في الطرف الآخر من المعادلة، أي الممارسة، وليس فقط الجانب النظري. فقد هزت ثورات 1848 أوروبا وما هو أبعد، متحدية سلطة رأس المال بطريقة غير مسبوقة. ولعب ماركس وانجلز دوراً فعالاً في الأحداث، التي انتهت بوجود ماركس في بريطانيا كلاجئ سياسي.
رأى ماركس الرأسمالية كمرحلة تاريخية تقدمية، تصل الى الركود بسبب التناقضات، وتؤدي الى الاشتراكية في خاتمة المطاف. ويعرف الماركسيون رأس المال بأنه “علاقة اجتماعية اقتصادية” بين الناس (لا بين الناس والأشياء). وبهذا المعنى فانهم يسعون الى الاطاحة بسلطة رأس المال. ويعتقدون أن الملكية الخاصة لوسائل الانتاج تغني الرأسماليين على حساب الشغيلة، أي أن مالكي وسائل الانتاج يستغلون الشغيلة.
ويعتقد الاشتراكيون الثوريون أن الرأسمالية لا يمكن الاطاحة بها الا عبر الثورة، بينما يعتقد الاشتراكيون الديمقراطيون أن التغير البنيوي يمكن أن يحدث ببطء عبر الاصلاحات السياسية للرأسمالية.
وظلت الرأسمالية موضوع نقد في جوانب كثيرة خلال تاريخها. ويمتد هذا النقد من أولئك الذين يختلفون مع مبادئ الرأسمالية بكليتها، الى أولئك الذين يختلفون مع نتائج معينة للرأسمالية، وأولئك الذين يتمنون استبدال الرأسمالية بمنهج مختلف للانتاج والتنظيم الاجتماعي.
وحسب رؤية ماركس فان آليات رأس المال ستؤدي، أخيراً، الى افقار الطبقة العاملة، فتخلق، بالتالي، الشروط الاجتماعية للثورة. وينظر الى الملكية الخاصة لوسائل الانتاج والتوزيع باعتبارها مصدر تبعية الطبقات غير المالكة للطبقات الحاكمة، وأخيرا كمصدر لتقييد الحرية الانسانية.

أزمات .. فيض انتاج

كان عام 1848، عندما كتب (البيان الشيوعي) عام أزمة في أوروبا، أما عام 2018 فهو العام العاشر في أزمة لا تنتهي في الاقتصاد الرأسمالي المعولم تماماً الآن. ان ما قاله ماركس وانجلز حول “الأزمات التجارية الدورية التي تشكل، في كل مرة، تهديداً أعظم لوجود المجتمع البرجوازي بأسره” ينطبق على أيامنا الحالية. وهكذا الحال مع تشخيص القضية الأساسية: فقد كتبا أنه “في تلك الأزمات ينقض على المجتمع وباء لم يكن ليعتبر في العصور السالفة سوى خرافة غير معقولة، وهذا الوباء هو فيض الانتاج”. واليوم قد يكون هذا مصاغاً على نحو أفضل لقراءته “عصر فيض انتاج وسائل الانتاج”.
ان الأزمة المالية الكبرى والركود العظيم حدثا في الولايات المتحدة عامي 2007 – 2008 وسرعان ما انتشرا في سائر أنحاء العالم، ليؤشرا الى ما يبدو نقطة انعطاف في التاريخ العالمي. وعلى الرغم من أن هذا قد تبعته خلال عامين فترة انتعاش هي الأضعف في القرن الماضي، فان الاقتصاد العالمي بعد عشر سنوات على بداية الأزمة يظل في حالة ركود. فلاتزال الولايات المتحدة وأوروبا واليابان تحت ظرف نمو بطيء وعدم استقرار مالي، مع هزات اقتصادية جديدة تظهر على الدوام وتنتشر آثارها عالمياً.
ويبقى تحليل (البيان الشيوعي) لتعاقب الأزمات أساسياً في كل محاولة للتنبؤ بأحداث السنوات المقبلة. ان الانتعاش الضعيف المديد قد صار ممكناً فقط عبر التوسع العالمي غير المسبوق للديون العامة والخاصة، وهو نفسه صار ممكناً عبر الخفض القسري لمعدلات الفائدة الى مستويات غير مسبوقة هي الأخرى. وهذا الطوفان من الدين الجديد لم يتجه الى الاستثمار الانتاجي، كما يظهر لنا الركود الكبير في النمو، وانما الى التضخم العالمي لأسعار الأصول. وكانت النتيجة الامساك بكل هذه المكاسب تقريباً كما ظهرت في العقد الأخير من قبل تلك النسبة الصغيرة جداً من سكان العالم ممن يمتلكون الأصول، سواء كانت عقارات أو أسهما. ولكن الرأسمالية المعولمة تبقى في تناقض تطرحه الحاجة الى توسع متواصل في الأرباح عبر الاستحواذ على فائض القيمة من خلال استغلال العمل، والحاجة الى تثمين فائض القيمة ذلك عبر الاستهلاك أو الاستثمار الجديد. ان الاستثمار الجديد في الطاقة الانتاجية، في رأسمالية معولمة مصابة بفيض الطاقة هو، على نحو متزايد، مشكلة أكثر من كونه حلاً للنظام. وان الحفاظ على استهلاك الشغيلة، اذا ما أخذنا بالحسبان الضغط النازل المتنامي على الأجور في كل أنحاء العالم (والضغط الصاعد على الايجارات الذي يسبب تضخم الأصول) يظهر فقط من خلال زيادة هائلة في ديون الطبقة العاملة. وفي الولايات المتحدة اليوم لا يمتلك أغلبية من الشغيلة المأجورين، في الواقع، أية مدخرات صافية اطلاقاً. وان الدورة التجارية التي شخصها (البيان الشيوعي) لاتزال يقيناً الى حد كبير في عالم بلا يقين. ان التعافي من أزمة 2007 – 2008 هو في مرحلته الأخيرة، وان أساليب كبت الدين الجديد واسعار الفائدة التي ساعدت الانتعاش الأخير لم تعد متيسرة.

الى اين نتجه ؟

ان ماركس وانجلز ثوريان متفانيان، يثقان، على نحو عميق، بأن تناقضات الرأسمالية المتأصلة والمتعذر استئصالها، ستؤدي الى كفاح ثوري متزايد وناجح في خاتمة المطاف بهدف الاطاحة بالنظام واستبداله بنظام أكثر انسانية وعقلانية. ولكن هل يسمح تحليلهما أو ربما ينطبق على نتيجة تاريخية مختلفة ؟ الجواب، حسب رأينا، هو: نعم، لا لبس فيها. ففي (البيان) وفي صفحته الأولى، في الفصل الأول الذي يحمل عنوان (برجوازيون وبروليتاريون) هناك مقطع غالباً ما يجري الاستشهاد به: “ان تاريخ كل المجتمعات هو تاريخ صراع الطبقات. الانسان الحر والعبد، النبيل والعامي، الاقطاعي والقن، رئيس الحرفة والصانع، وباختصار المضطهِدين والمضطهَدين، يقفون في تعارض دائم. وكانت بينهم حرب مستمرة، ظاهرة تارة، ومستترة أخرى، حرب كانت تنتهي دائماً إما بانقلاب ثوري يشمل المجتمع بأسره، أو بانهيار الطبقتين”.

ماالذي يتعين علينا السعي
الى انجازه ؟

يتعين علينا أن نطبع في أذهان شعوب العالم الحقيقة بشأن الرأسمالية، من أنها ليست، كما يريد منا الآيديولوجيون البرجوازيون أن نعتقد، “نهاية التاريخ”، وانما يمكن لوجودها المستمر أن يخلق، في الواقع، نهاية التاريخ.
فهل يوفر (البيان) أي عون في هذا المجال ؟ أجل، اذا ما قرأناه بامعان وفسرناه على نحو ابداعي. وفي مقطع غالباً ما نراه مهملا يقدم ماركس وانجلز فكرة جديدة لتحليلهما: “أخيراً، وعندما يقترب الصراع الطبقي من الساعة الحاسمة يتخذ انحلال الطبقة الحاكمة والمجتمع القديم بأسره طابعاً يبلغ من حدته وعنفه أن جزءاً صغيراً من هذه الطبقة الحاكمة نفسها ينفصل عنها وينضم الى الطبقة الثورية التي تحمل في قلبها المستقبل. وكما انتقل في ما مضى قسم من النبلاء الى جانب البرجوازية ، ينتقل في أيامنا، كذلك، قسم من البرجوازية الى جانب البروليتاريا، خصوصاً القسم الذي يضم المفكرين البرجوازيين الذين تمكنوا من الاحاطة بمجموع الحركة التاريخية وفهمها نظرياً”.
وبالنسبة لماركس فان هذا يعكس ما استوعبه (انظروا، على وجه الخصوص، مناقشته التشكيلات الاقتصادية ما قبل الرأسمالية في الغروندريسه) باعتباره عصر انحلال علاقات الملكية الطبقية التي أسقطت المجتمع الاقطاعي. ونعتقد أن عصر انحلال مماثلاً سيسقط الرأسمالية بالمقابل، على الرغم من أن انحلال العلاقات الرأسمالية سيتخذ، بالضرورة، شكلاً مختلفاً.
واليوم نستطيع أن نرى المزيد في سياق الرأسمالية الراهنة، خصوصاً في البلدان الأكثر غنى، حيث تتجلى التناقضات الحادة والمعضلات التاريخية، التي تقف خلف “الانحلال” الذي يصيب الطبقات الحاكمة.
وعلى الرغم من الدور الآيديولوجي المتواصل الذي تؤديه الاقتصادات البرجوازية، فان التناقضات الحادة لعصرنا ليست مخفية، ويمكن لأي امرئ أن يراها. وبينما تتعاظم عواقب التناقضات الحادة فان المزيد من الناس، ليس فقط أمام أنظار الثوريين في عالمنا، وانما أيضاً الآيديولوجيين البرجوازيين الذين يرفعون أنفسهم الى مستوى الادراك النظري للحركة التاريخية ككل، سيرون ماالذي يتعين عمله اذا كان هناك مستقبل للبشرية. ان مهمتنا تتمثل في المساعدة على خلق هذه المعرفة.

* * *
يتجلى (البيان الشيوعي) كقصيدة بهيّة مفعمة بالحياة .. قصيدة حقد على أولئك الذين يستغلون سلطتهم لانزال الظلم والحرمان والعذاب بالكادحين الضعفاء. ويكون هذا (البيان) أعظم ما يكون عندما يفضح نفاق ورعب الاستغلال الرأسمالي، ويرسم لوحة الصراع الطبقي وحركة الواقع وأمل مغيّري الحياة .. إنه يمنحنا القدرة على رؤية حقيقة أن عالماً أفضل ممكن، ليس فقط لأن مساعيه للتنبؤ بذلك المستقبل عقلانية وموثوقة، وانما، أيضاً، لأنه يجسد واقعاً أخلاقياً يضيء مسار التاريخ.
وليس من دون دلالة ملهمة أن ينتهي (البيان الشيوعي) بالنداء المدوي:

“يترفع الشيوعيون عن اخفاء آرائهم وغاياتهم. فهم يعلنون، صراحة، أن أهدافهم لا يمكن بلوغها الا بالاطاحة، بالقوة، بالنظام الاجتماعي القائم ..
فلترتعش الطبقات الحاكمة أمام الثورة الشيوعية، فليس للبروليتاريا ما تخسره سوى أغلالها، لتكسب عالماً بأسره ..
يا عمال العالم، اتحدوا !”.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here