الأرث الموسيقي للعراق القديم، …

الأرث الموسيقي للعراق القديم، انتقل الى الغرب أبان القرون الوسطى، وساهم في تشكيل اولى قطعاته الموسيقية. اهدي هذا البحث الى الفرقة السمفونية الوطنية العراقية الموقرة مع تمنياتي لها بالتقدم.

د. رضا العطار

هذا البحث هو نتاج مطالعاتي في اجزاء مختلفة من المصادر، وقعت بين يدي عن طريق القصد او دونه، وجدت فيها ما يهديني الى ما كان يشغل بالي منذ منتصفات القرن الماضي حينما كنت مقيما في المانيا، مفاده ان موسيقى الكلاسيك تحوي انغاما أنحدرت اليها من الشرق قديما، لكن متى وكيف ؟ – – – فإلى ان تحول الظن عندي الى يقين، اخذ البحث مني زمنا طويلا. حيث تبين لي اخيرا ان النغمات الموسيقية التي كانت تنبثق من معابد سومر في العراق القديم، قد تسربت الى اوربا عبر سلسلة من المتغيرات التاريخية، بداًت في اعقاب سقوط بابل على يد كورش الذي سمح لليهود المسبيين من قبل نبوخذنصر للعودة الى فلسطين وهم محملين بالموروثات العراقية، منها السلم الموسيقي السومري، ومن ثم تمً نقل هذا الموروث عبر الحروب الصليبية الى الغرب، واليكم الشرح التالي :

خلال اقامتي الدراسية في المانيا في منتصفات القرن العشرين، دأبت على حضور حفلات الكونسرت التي كانت تقام في قاعة الموسيقى في برلين الغربية بانتظام تام ولسنوات عدة. استمع خلالها الى مقطوعات موسيقية متنوعة، لمؤلفين عظام، كانت جولاتي الاولى استكشافية، ومع ذلك كان مردودها مجزيا ، فقد تطور عندي الوعي الكافي لحاسة التخيل السمعي المطلوب مع الزمن، فبدأت افهمها واستمتع بالحانها، حتى غدوت مسكونا بها. خاصة بما يتعلق بالموسيقار العبقري بيتهوفن فضلا عن شوبرت وشوبان وتشايكوفيسكي ويوهان سباستيان باخ وغيرهم. غير ان ما كان يثير ظنوني، حينما يخطف ذهني انغاما، تترائ لي وكأنها تحمل رنة الشرق، كانت تتجلى اكثر وضوحا في الموسيقى الكنائسية، فكنت اتسائل مع نفسي كيف حدث ذلك، رغم قناعتي بان الاديان السماوية كلها تتضمًن احساسات ايمانية مشتركة، مستوحاة من روح و روحانية الشرق – – ـ و بعد اكمال دراستي الجامعية عام 1964 عدت الى العراق ودخلت معترك الحياة من بوابة بغداد.

كنت طبيبا اخصائيا في طب جراحة العيون، امارس المهنة في مستشفى الرمد نهارا وفي عيادتي الخاصة مساء، كان الفنان العراقي محمد القبانجي أحد مراجعيي – وعبر زياراته المكوكية وحلو حديثه، نشأت بيننا صداقة، فكنت ادعوه احيانا الى داري في الجادرية لاقامة حفلة غنائية خاصة، ادعو اليها بعض الاصدقاء.

وفي احدى الامسيات، دخلت مع الاستاذ الفنان في حوار ثقافي موسيقي، باديا اياه شكوكي حول وجود صلة ما بين موسيقانا الشرقية والموسيقى الغربية، فأظهر لي ضيفي عدم معرفته بهذا الضرب من الفن، ورغم ذلك قلت له : ألا تظن يا استاذ بان الوشائح التاريخية القديمة في شعاب الامم المختلفة في محاكاتها الحضارية قد اوصلت موسيقانا الى الغرب ؟

لكنه لم يجب على ملاحظتي بل نظر اليّ مستفهما. غير اني طلبت منه لو تفضل واستمع الى مقطوعة موسيقية كلاسيكية، لكي اعلم مدى تحسسه بأنغامها ومعرفة مضمونها الفني، كان اسم المقطوعة (براندنبرغ)، وعنوانها (تضرع وابتهال) وهي موسيقى كنائسية لمؤلفها الموسيقار الالماني الشهير باخ، ولم اخبره بعنوانها عن قصد ـ ـ فاصغى القبانجي اليها برفاهة السمع للحظات معدودات، ثم رفع رأسه ونظر اليً منفعلا وقال : دكتور هاي، ابتهالات ! ! وفعلا كانت عبارة Supplication التي تعني ذلك مطبوعة على صفحة الاسطوانة.

فتنفست الصعداء وصحت عاليا : اصبت الحقيقة يا عميد المقام ! قال كيف ؟ قلت: مجرد معرفة جنابك بعنوان المقطوعة، هو دليل ساطع بانك قد تحسست بعمق المشاعر الكامنة فيها، انك تزخر يا استاذبعلو القدرات الفنية، لكنك غير مُلًم بسعتها. والان ثبت وبشكل لا يقبل الجدل بوجود وشائح فنية مشتركة بين عالمي الشرق والغرب. فلك الشكر كله!.

لكن في قرارة نفسي كنت اشعر اني لا زلت بعيدا، بل بعيد جدا عن معرفة الحقيقة، وذلك بسبب شحة المصادر التاريخية الموثقة والتي يمكن الركون اليها، ولم يمض وقت طويل واذا بي اجد في كتاب (الحرية والطوفان) للباحث العربي جبرا ابراهيم جبرا العبارة التالية :

(ان الموسيقى الكنائسية التي كانت تعزف من قبل يوهان سبستيان باخ في المانيا ابان القرن الثامن عشر قد بنيت على قواعد، فيها شبه شديد بقواعد الموسيقى الشرقية، فالقاعدة الرئيسية في تركيبها هي التكرار والتردد والترادف الموسيقي، طبقا لما هو موجود في مقاماتنا العراقية، فكان سروري بهذه المعلومة عظيما.

ومرت السنوات وانا اواصل البحث، حتى وجدت يوما في كتاب (اسرار الموسيقى) للباحث العراقي علي الشوك، حيث يقول في ص 18 و 19 : ( ان جذور تهليلة الهللويا اي ـ الحمد لله ـ التي تحويها بعض القطع الموسيقية الغربية الكنائسية، لها علاقة بالتهليلة البابلية !!!، فقاعدة تركيبهما هي – ألمتتالية – وان موضوع – الهوكيت – في الموسيقى الغربية، لها علاقة ايضا بالايقاعات العربية ).

كما جاء في ص 65 من الكتاب نفسه تصريح للباحث الانكليزي (كورت زاكس) صاحب كتاب ( تاريخ الآلات الموسيقية) الذي يقول فيه ( من الثابت ان جميع الآلات الموسيقية الاوربية جائتنا من الشرق، و بأكثر من طريق، والآلة الوحيدة التي كنا نحن الاوربيين نعتبرها من مبتكراتنا وهي (آلة البيانو)، ثبت بانها منحدرة من مصدر عربي اندلسي، اوجدها العراقي زرياب.

فبعد ان اغنيت بهذه المعلومات القيًمة، استبشرت خيرا وزدت تفائلا، كوني تقدمت باتجاه الحقيقة خطوات ايجابية، لكنها مع ذلك لا تكفي لأثبات حقيقة تاريخية، وهي انتقال الموسيقى العراقية الى الغرب ؟

لكنني من حسن الصدف وجدت ضالتي في كتاب (الحضارة السريانية حضارة عالمية) لموسى مخول، الذي اورد في صفحة 335 – نص المعلومة التالية :

( ان تاريخ الارث الموسيقي في منطقة الهلال الخصيب قديم، كقدم المنطقة، خاصة بعد ان اقتبس اليهود اثناء (سبي بابل) السلم الموسيقي السومري – آبان حكم الملك بنوخذ نصر عام 586 ق. م. لكنهم جلبوه معهم الى فلسطين واستعملوه هناك، (بعد سقوط بابل على يد الحاكم الفارسي كورش 500 ق. م. الذي سمح لهم بالعودة).

اي ان السلّم الموسيقي الذي انبثق من معابد سومر، والذي حمل اولى النغمات الموسيقية في تاريخ العراق القديم، قد تسربت الى بلدان الهلال الخصيب مع غيره من الموروث الرافدي الثقافي والحضاري ).

اقول : وبعد مضي حقبة زمنية ناهزت 1700 سنة على تاريخ سبي اليهود، تعرضت هذه المنطقة (اي الهلال الخصيب) الى الحملات الصليبية الظالمة، فكانت جحافل الاوباش الجائعة تتدفق من الغرب باتجاه الشرق، بهدف قتل ابنائه وسرقة ثرواته. كانت سورية التاريخية يومذاك منارا للثقافة و العلوم والاداب والفنون و الموسيقى، فضلا عن الصناعات اليدوية ذات الشأن، مثل فن صياغة الذهب التي برزت حلب فيها، و صناعة الزجاج الشفاف والملون التي اشتهرت بها دمشق، فكان الغزاة ينقلون منهوباتهم عبر البحر المتوسط الى المواني الايطالية، فلم يتركوا شيئا ثمينا ومفيدا لم تمتد اليه ايديهم، فلا جدال في ذلك في ان السلم الموسيقي السومري ذو الارومة العراقية، كان ضمن ما اغتنموه، خاصة لو علمنا ان الحملات الصليبية دامت حوالي القرنين من الزمن !

اما المصدر الاخر الذي اقتبست اوربا عن طريقه جزءا مهما من ثقافتنا الموسيقية، كانت اسبانيا العربية، ففي عام 860 م وصل زرياب الموسيقي العراقي الى الاندلس، ناقلا معه الوهج الموسيقي البغدادي الساطع، تلك الموسيقى التي كانت مدارس بلاد الرافدين يومذاك تشمخ بها، فاستقبله الخليفة عبد الرحمن الثاني في قرطبة، عاصمة الاندلس ودعمه ماديا ومعنويا. وبعد ان استقر به المقام، قام زرياب بتطوير الموسيقى العراقية والعربية تطويرا حديثا. اذ جمع القواعد النظرية والرموز الماورائية والتنجيمية، وكذلك هذّب النظام الصوتي والنمطي والجوفي للنوتات الموسيقية التقليدية الاربع والعشرين، ثم قام بفرض السمات المتعلقة بالمزايا والامزجة المتوافقة مع المقامات العراقية، ومزجها بالموسيقى الغربية السائدة مزجا رائعا حتى أبتكرمنها نمطا جديدا ومقبولا، فموسيقى زرياب هو سر من الاهواء، يبتدع الخيال الخصب من حب وحزن وفرح، يتجاوز حد الاحلام، فضلا انه اضاف الى اوتار عود استاذه اسحاق الموصلي في بغداد، وترا خامسا. كما استحدث (مضرابا) من قوادم النسر. فغدا اهل اسبانيا يعشقون موسيقى زرياب و يتغنون بالحان زرياب، ولا تزال القيثارة الاسبانية حاليا، هي قيثارة زرياب.

هكذا تسربت ثقافتنا الموسيقية العراقية القديمة الى الغرب عبر الحروب الصليبية وبلاد الاندلس وكذلك عبر جزيرة صقلية أبان القرون الوسطى، وساهمت في تشكيل اولى القطع الفنية للموسيقى الغربية.

أما مصطلح موسيقى الكلاسيك فلم يكن معروفا من قبل، لكنه ظهر اول مرة في عهد الموسيقار الالماني الشهير يوهان سبستيان باخ، اي في اواسط القرن الثامن عشر.

الدكتور رضا العطار

واشنطن في ديسمبر عام 2018

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here