النبوة ــــــــــ الحلقة الثانية

ـكنا قد قدمنا  للقراء  الأعزاء في الحلقة الماضية  معنى   النبوة   ،  وقلنا  إنها : –   معرفة يقينية  يحصل  عليها  بعض الناس  عن طريق الوحي –  ، وفي هذه الحلقة  سنُتابع البحث ونناقش في طبيعة النبي   :
وهل  هو  صاحب شريعة وأحكام  (  مشرع )   ،  أم  إنه كما قلنا  : –  مفسراً للوحي الذي  يأتيه من عند الله –   ؟   ،  والدليل الثابت   : –  إن طبيعة النبي  هي  في كونه مفسراً  للوحي –      ،   هذا  من الناحية الفعلية   ،  يتشارك  مع ماتذهب إليه المقولة التوراتية   في  معنى النبي   ،  إذ ورد  في الإصحاح 7 النص 1 من سفر الخروج  ،  ما نصه     : –  [  يا موسى  قد جعلتك رباً  لفرعون وهارون أخيك نبيك  ]  –  ، ومضمون النص  يعني   : [  إن هارون كان  مفسراً  لكلام  موسى  عند فرعون  ( أو مترجماً  له    )   ] ،     ويؤيد  هذا  المعنى  ما يقوله  الكتاب المجيد   قال تعالى    : –  [  وأخي هارون  هو أفصح  مني  لساناً  ، فأرسله معي ردءاً  يصدقني  ، إني أخاف أن يكذبون   ]  –  القصص 34  ،   ولفظ  –  أخي –  في لغة العرب  وردت مشتقة من   –  أخ –   المختلف في دلالتها  :
1 –   بين  أن  تدل على أن –  الأخ –  هو الشقيق  من جهتي الوالد والوالدة  .
2 –  وبين  أن  تدل  على  أن – الأخ –   يكون   من جهة الوالد فقط  .
3 –  وبين  أن  تدل على أن  – الأخ –  يكون  من جهة الوالدة  فقط .
4  –  وبين  أن  يكون معنى –  الأخ  –  دال   على القرب   من جهة الإيمان  والمعتقد  والرأي  ،  قال تعالى : – إنما المؤمنون أخوة – الحجرات   10 ،  وقال  تعالى : – يا أخت هارون .. – مريم 28   .
 وبحسب ما تقوله بعض المدونات التاريخية   : –   إن   هارون  لم  يكن  أخ   لموسى  من والدته  ،  بل هو أخ له  من  أبيه  –  ،  ويقولون  :  –   إن والدة هارون  كانت من أهل مصر  ،  وقد توفيت  حين كان رضيعاً   –  ،   أي إنها  لم تكن  يهودية   ،  وهذا  سبب  نجاته  من القتل والموت الذي كان يتوعد به فرعون كل مولود يُولد  من  إمرأة  يهودية  ،  ويقولون كذلك  : –  إن   (  أم موسى  )  إنما   تكفلت برعاية  هارون ورضاعته  وتربيته  – ، وهناك قول أخر يذهب إلى : –  إن أم هارون هي نفسها أم موسى ، ولكن هارون كان أكبر من موسى ، ولذلك نجا من الموت الذي كان يتوعد به فرعون  ، إذ لم يكن بعد قد نبه  فرعون  كهنته  إلى خطر المولود اليهودي ، بقولهم  (  إنه  سيولد )   ، أي  لم يكن قد ولد بعد  .. –    .
 وأما الأم   في لغة   العرب  هي  كما الأب    لا تعني  الوالدة بالضرورة  ، فقد تكون   –  الأم  والدة   –  وقد لا تكون  ،   كذلك الأب قد يكون والداً وقد لا يكون ،  و مفهوم  لفظ – الأم  – من أم يم أماً  وإماماً  ، والأم   :  –  هي الراعية والمربية والمديرة  –  ،  ولا يطلق  العرب  لفظ الأم هكذا  على الوالدة  ،  وقد وضح  الكتاب  المجيد هذا البيان  بقوله  : [  ووالد وما ولد  ]  البلد 3  ، ومن هنا قالوا    : –  ليس كل والدة أماً  ،  وليس كل أماً  والدة  –  ،  ويدخل في هذا  قوله  تعالى   : –   [  يا أبن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي .. ]   –  طه 94  ،  فالأم  هنا  ليست بمعنى الوالدة  بل  بمعنى المربية والراعية ،       وأما  جملة  –  أفصح  مني لساناً – ،  ولفظ  –  أفصح  –  من الفصاحة وهي الطلاقة والوضوح في البيان   ،   وإضافة اللسان للدلالة على المعنى المُراد في البيان اللغوي   ،  وأعترف  موسى  بذلك دليل على أن هارون كان أدق منه   في إيضاح المعلومة وبيانها    ، ولهذا  أستعان به  وطلب أن يكون  مساعده ووزيره  في مهمته  التي كُلف بها   قال : –  [  وأجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي  ]  طه  29  –  وفي تلبية المطلب  قال تعالى :  –  [  سنشد عضدك بأخيك  .. ]  القصص 35   ،   وعموماً  فاللسان  في لغة العرب  أداة  في التوضيح  والشرح والبيان ،   وجاءت  هنا مبالغة في الوصف والتعريف  ،  بدليل  ورود  لساناً  مبنياً  على النصب   بصيغة المفعول  في إشارة  إلى     : –  أن  هارون  كان أفصح في لسان   المصريين  من موسى  –   ،   والسبب معلوم  من جهة التاريخ   ،  فموسى  قد خرج  مهاجراً  من مصر   –  تلقاء  مدين  –  القصص 22  ،   بعد حادثة القتل الشهيرة   التي قيل فيها : – [   يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً  بالأمس .. ]  – القصص  19    ،  إذن فهروبه  وهجرته  كانت سبباً  في أن يكون لسانه أقل فصاحة من هارون  ،  بسبب البيئة والنشأة  والتربية التي أثرت   عليه بشكل واضح 
.
ونعود لبيان ما في سفر  الخروج  ،  فنقول   :   –  إن هارون   كان نبياً  لموسى  من حيث إنه المفسر لكلام  موسى   عند  فرعون  –  ،   فالنبوة هنا في هذا السياق  تعني هذا المفهوم   ،  وبحسب المقولة التوارتية   فإن : –  موسى  كان  إلهاً  لفرعون  – ،  ومعنى إلهاً  هنا أي رباً  ،  أي إن موسى كان يريد أن يكون المربي والمعلم والمرشد لفرعون    ،  ويكون هارون  هو من يبين ذلك ويشرحه ويترجم معناه   ،  والرب  الصفة  هو  الأسم  الدال على معنى المربي  في لغة  العرب (  والفرق بين صفة الإله  وصفة الرب  معلوم  )    .
وهكذا  تقول  الترجمة العبرية  للفظ   (  جالاه  نيفا  )  ،  فالحرف الثالث  يجب أن يكون  من حروف الوقف  ،  ولو حذفناه يصبح  اللفظ –  جالا  نيفا   –   ،  وأصله  اللغوي   –  شور فطيم نف –  ومعناه  الكلام المفسر ،  هكذا  قال  الحبر –  سليمان يارشي –   في معنى  لفظ  ( نيفا )  ،  وقد  خالفه  في ذلك     – أبن عزرا –   حين وجه  له ولتفسيره نقداً   ،  مع إن  –  أبن عزرا –  ربما كان مخطأً  ولم يكن في ذلك محقاً ،  لنقص واضح في معرفته باللغة العبرية .
 بقي أن نقول :  – إن لفظ نبؤة  هي لفظ عام يشمل كل النبؤات  –   ، في حين ان الكلمات الأخرى تدل على معنى خاص ينطبق بعض منها على نوع معين ، والبعض الآخر على نوع آخر ، وهكذا يُعرف علماء اللغة الأنبياء بالمفسرين لله ، بمعنى إنهم  يُفسرون  ما يأتي لهم  بالوحي من قبل الله  ،  تقول  التوراة  البابلية  : – إن من يستمع للنبي يصبح نبياً كما أن من يستمع للفيلسوف يصبح فيلسوفاً –  ، وإلى ذلك  ذهب العلامة الطباطبائي في الميزان ج2   حين قال  : –  النبي هو من يملك شرف العلم بالله وبما عنده .. –  .
ولكن هل  يختلف  النبي  عن الرسول   ؟  ،   نقول  :  نعم  يختلف  النبي عن الرسول  ، إذ  النبي لا يمتلك سلطة على العباد سوى  السلطة الروحية والفكرية   (  ولهذا  فهو إمام دين  )  ،  وأما  الرسول  فهو صاحب  سلطة  على العباد  ،  بإعتباره  حاكماً  ومنفذاً للأوامر والنواهي  (  ولهذا فهو  إمام دنيا )   ،  والنبوة والرسالة  هي صفات  إضافية لهذا  الإنسان  الذي صار نبياً و رسولاً  ، والصفة النبوية    أشمل وأعلى رتبة من  الصفة الرسولية  ،  فمن خلال النبوة  تتم  العلاقة بين الله وبين الناس عن طريق الوحي ، والرسالة هي مشتقة أو قل هي مندكة  في  النبوة  [ من حيث كونها تعبيراً  عن الخبر الصادق ]    ،  والذي  يُراد منها   معنى البيان   والتبليغ والتشريع     ،  وليس  للرسول  علم مستقل  إذ  ما يحصل عليه  فمن النبي  يكون  .
  والنبي يجب أن يكون  معصوماً  والرسول  كذلك  لكن بشرط هنا   ،  في النقل والتبليغ  وكل ما يأتي به  من الوحي ،  والضبط في ذلك  نقرئه  بقوله  تعالى : –  [  وما ينطق عن الهوى  ]  النجم  3  ،   وبقوله تعالى  : –  [  ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين ] –  الحاقة 44 و 45 و 46  ،  وفي السياق ذاته   أقتضى التوكيد  من  الله  عبر الوحي إلى  النبي  : –  إنه  ليس  مسموحاً  البتة  النطق  أو الكلام عن الله  من قبل  الوحي أو من قبل  ينقضي  الوحي –  أي إن المسموح به فقط وفقط هو الكلام من الوحي وبعد إنقضائه وتمامه   ، قال تعالى : – [ .. ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيه .. ] – طه  114  ،  والتأكيد على النبي بإعتباره  المخاطب الأول و الذي عليه يتنزل  الوحي  ، وحين قلنا :  –  إن النبي ليس آمراً أو ناهياً ، إنما  كنا  ننظر إلى دوره  في الواقع  – ، ودور النبي من حيث هو إرشاد وتوجيه  إلى ما يأتي به الوحي ، وفي هذا ليس  هناك  أحكاما أو أوامر تعبدية  .
 ويجري هذا  الحكم  حتى في مسأئل الحرب و القتال    ،   وليس صحيحاً  ماذهب  إليه  البعض في فهم المُراد  من قوله تعالى :  [ يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال  ] – الأنفال 65   ،  والتحريض على القتال   هو الحث  عليه  ولا يكون ذلك  من النبي  إبتداءاً  ،  إنما يكون في سياق  الدفاع  في حال تعرض المؤمنين للظلم والإعتداء  ،  وفي هذا ليس هناك شرطاً  واجباً  أو معلقاً  في أن يكون النبي مؤوسساً للدولة والحكم    ،  بل  إن  : –  الدفاع  هو  شيء فطري لا علاقة له بتشكيل الدولة أو غيرها  –  ، وفي هذا  يتساوى الإنسان  مع كل الكائنات حين  تتعرض للإعتداء  فهي تدافع عن نفسها كتعبير فطري  ورد فعل طبيعي  ،  وفي قصة طالوت وداوود  مثلاً  في عدم وجوب كون النبي هو من يتقدم الصفوف في الحرب ،  بل كان النبي داوود تحت أمرة طالوت الملك   ،  وهكذا يجب  أن نفهم دور النبي محمد  في تحريضه  المؤمنين على القتال   ،  لأن ذلك  كان يجري في نفس السياق  ،  الذي  جاء بعد الأذن الشرعي والسماح  بالدفاع والقتال  عن المؤمنين     .
 أما الدولة   :  –  فهي  مؤوسسة  إجتماعية  ،  أو قل  هي  شأن إجتماعي  يصنعه الناس لحاجاتهم إليها في الإدارة والأمن والنظام  والقانون   –  ،  وإدارة  هذه  المؤوسسة  من مهام  الحاكم الدنيوي والذي هو هنا  (  الرسول  أو الإمام   )  ،  ومنه وردت الصيغة القائلة   : – [  إني جاعلك للناس إماما .. ]  البقرة  124   ،  أي جعلتك  حاكماً عليهم  ،  والحكم جاء لا حقاً  بعد  النبوة ،  إذ  إن إبراهيم كان نبياً  قبل أن يكون  رسولاً أو إماماً    ،  ومعنى كان في السياق هو القيد المرتبط  بشؤون الناس وما يلزم في إدارتهم   ،  ثم إن النبي محمد لم يشكل دولة  بالمعنى الذي نفهمه  في المدينة  ،   إنما كان يُنظم شؤون الدعوة والجماعة المؤمنة به   .
 وأما  ماذهب إليه  البعض  من الكتاب  في  هذه  المسألة  فليس على ما ينبغي  بل هو مردود  حتماً ،  لأنه لا يستقيم و معنى النبوة  ولا يستقيم  ومعنى القتال في الكتاب المجيد   ،   فالكتاب المجيد  حدد  بشكل واضح  طبيعة  القتال   في الدفاع   ورفع الظلم  من على الناس  ،  ولم يشرع  القتال على نحو الإبتداء  معتبراً ذلك تعدِ  وظلم صريح  ممنوع     ، فالقتال  الممنوع هو  الإبتداء بالحرب على الغير من غير ظلم منهم أو تعد    ، و لم  يأمر  النبي   بذلك  ولا حتى  الرسول   ، وأما القتال  المسموح به شرعاً  فهو القتال  من أجل الدفاع وردع المعتدي والظالم  ،  وهذا  القتال  لا يحتاج  الأمر  به  لدولة أو نظام  حكم   ،  بل يحتاج إلى  مجوز شرعي  وقد ورد ذلك كما يظهر بقوله تعالى   : – [ أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا  وإن الله على نصرهم لقدير  .. ]  – الحج 39  ، إذن  فالقتال  المسموح والمأذون  به  شرعاً  يكون من أجل رفع الظلم والتعدي   ،   وقد مر في كتابنا  (  الجها في الإسلام  )  :  –  إن  الأمر بالقتال  من جهة المولى  إرشاديا  و ليس تعبديا  –   ،  إنما  كان مرتبطاً  بمصلحة  الناس و  الوجود العام  .
  ولكن   هل   النبوة   أعم   من الرسالة  ؟   ،  والجواب  :  نعم  النبوة  أعم  من الرسالة  وهي جزء منها  ،   ومعنى  أعم   يعني  أشمل  فكل رسول  هو نبي في الأصل  ،  وصفة المبالغة  هنا  تفيد  ما يدل عليه المعنى في الواقع  ،  من حيث السعة  والإيمان والمساحة ولغة الخطاب  ،  وهذه لا تتحدد  بزمان أو مكان معينين  ، ولا  بقوم أو طائفة أو ملة بعينها ، بل هي للجميع  ،  والإيمان بقوانينها وبخطابها  للعموم  ولا يخالف في ذلك  إلاَّ  جاهل  ،  إذ  لا أحد في الكون يُنكر طبيعة الليل والنهار وتعاقبهما  وهكذا في كل القوانين الكونية  ،  وليس من شرط يلزم إن يكون إتباع هذه القوانين أو الإيمان بها إيمان بنبي معين   .
ثم إن النبوة  كما قلنا  سابقة للرسالة  ،  فلا يكون الرسول رسولاً إذا  لم يكن نبياً  ، وليس بالضرورة ان يكون كل نبياً  رسولاً  ،  وقوانين النبوة مطلقة وليس هي كما قوانين الرسالة مقيدة في الزمان والمكان والقوم والجماعة التي تؤمن بهذا النبي رسولاً  ، وسواء أكان النبي أو الرسول فهما ليسا صاحبي التشريع ، فالنبي هو المكلف بالإرشاد إلى الأمر المولوي ،  أما الرسول فهو المكلف بتنفيذ الأمر المولوي ، وصاحب الأمر هو الله والتشريع جزئية تتعلق بتنظيم حياة مجتمع ما يكون قد آمن بهذا النبي رسولاً من عند الله ، ويعني هذا إبطال القول :  بأن الرسول هو صاحب التشريع  ،  حتى ذهب قوم للقول : بأن حرام محمد حرام إلى يوم القيامة وحلاله حلال إلى يوم القيامة ، معتبرين التحليل والتحريم من شؤونات فعل  محمد الرسول وأمره ، والحق إن محمداً ليس سوى منفذ لهذه الأحكام ومشيرا إليها  ، فالحرمة والحلية ليست من  صنع محمد الرسول إنما هو تابعا  ومرشدا ومنفذا وخاضعا لها كذلك ، ولكن هذه التشريعات حين تُنسب إليه فمن باب علمه بها والأمر متوجه إليه على نحو مباشر ، ولا بد من الإعتراف إن أصل الأمر الإرشادي فيه عموم وإطلاق ، لا كون الأمر منه بما هو بالذات لأنه لا يأمر بشيء يكون غير مأمور به من قبل المولى .
وهذا القول يخص الأحكام الشرعية المنصوصة  ، وحين يقول لنا : –  [  ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فأنتهوا ] – الحشر 7  ، وما مطلقة بمعنى الذي يأتيكم به الرسول من عند الله من أمر أو نهي ، فيجب الإمتثال إليه وإطاعته  ، والكلام هنا في مجال التشريعات وقيد الرسول يخرج النبي من صلاحية الأمر والنهي الدنيوي  ، أي إن الرسول هو الحاكم الدنيوي وهنا يكون من صلاحيته الإجتهاد في الإحكام  بما يتناسب وحاجة الناس ، وفعل الإجتهاد ممنوع على النبي لا من جهة التقييد أو التخصيص  ، والرسول هو المجتهد بعنوان كونه الملتصق بحاجات الناس على نحو مباشر ،  أما النبي فدوره يتعلق بالجانب العقلي والفكري المحض  ، والرسول يكون دائماً في مقام تفصيل الحكم على الحوادث المعينة ، من حيث كونه حاكماً دنيوياً  ولهذا ورد : –  أطيعوا الرسول … –  النساء 59  ، ولم يرد : (  أطيعوا النبي  )  ، فالنبي لا يقدم قوانين للمجتمع تخص معاشهم وحياتهم اليومية ، ولكن الرسول هو من يقوم بتنفيذ وتقديم هذه القوانين للحياة والمجتمع  ، ولا علاقة للإجتهاد بمعنى قوله  : ( وما ينطق عن الهوى )  النجم  3  ،  فالرسول في إجتهاده إنما يستخدم  بُنات أفكاره وما يرتبط بالواقع  ،  ولا دخل  للوحي في  ذلك   ، وصفتي النبوة والرسالة هما  صفتان زائدتان   كما قلنا   وتتعلقان  بالوحي  وترتبطان به  ولا تتعديان إلى غيره     .
ومادمنا  نبحث  في جدلية النبوة والرسالة   ،  فقد طرح  لنا  الكتاب المجيد  موضوعة  المحكم والمتشابه  كموضوعة  تحتوي  الكتاب  وتشير  إلى معنى النبوة والرسالة   ،  قال تعالى   : –  [   هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُن أم الكتاب  وأُخر متشابهات  .. ]  –  آل عمران 7  ،   ولفظ  –  أنزل  –  بمعنى  جعل   ،  ولفظ  –  عليك  –  بمعنى إليك   ،  والجملة  الخبرية  في محل بيان  طبيعة الكتاب  وما يحتويه   ،  ويفصل  فيقول  : –  إن  في الكتاب    (  أيات محكمات )  ،  ولفظ  – آيات   –  جمع آيه  ودلالتها على الشيء الغير مألوف  ،  والمُراد إن الذي جاءتت به لم يكن مألوفاً  ،  وأما –  محكمات –  جمع محكم  من أحكم الشيء أي شد وثاقه وأتقنه  قالت العرب   ،  وكل شيء  يوصف  بالمحكم  فيعني هو ذلك  –  الشيء المتقن –   الذي لا خلل  فيه ولا ضعه  ،  سواء  من حيث الصنع والتركيب أو من حيث  الدلالة والبيان   ،  وأما المحكم في عند  الأصولي  فهو   : 
1 –  :  –   ما عُرف  معناه  ،  من غير حاجة لوسيلة إيضاح  –   .
2 –  : –    ما لا يحتمل إلاَّ وجهاً واحداً – .
3 – : –   ما أستقل بنفسه  ،  ولم يحتج إلى  ما يدل عليه   – .
 والنص   المتقدم   قال في  –  وصف الكتاب – :   بأن فيه  آيات   محكمات   ،  وقد أطلق  على هذه المحكمات  صفة –  أم الكتاب –   ،  والأم   :  كما نعرفها  هي الأصل  أو الحاضنة  والمتقدمة  على غيرها  ،  وهكذا تكون  – المحكمات  –  هُنَّ  أصل  الكتاب  وحاضنته والمتقدمات على  غيرهن   ، وكأن المُراد  بهذا الوصف  القول : –  إن الأصل في  الكتاب  أن يكون  محكماً  بيناً  واضحاً   –  .
وفي مقابل هذا :    تكون   الأُخر  (   متشابهات )  ،  بصيغة المنكر للدلالة  على الخلط  وعدم التمييز   والضمير يعود  على الآيات   ،  والمتشابه   :   من الأشياء  في لغة العرب  أصله  من الشبه والتشابه ،  الذي يختلط  فيه  الأمر  على من  ليس مؤهلاً    ،  والمتشابه  من الأفعال  هو ما يقود   للخلط  والتشويه  وعدم الدقة  والوضوح  ، والمتشابه  في الآيات  هي  ما  أستأثر الله بعلمها وبما تؤول إليه وتنتهي      –   .
 والتقابل  الموضوعي  بين المحكم  والمتشابه  ،  هو  تقابل بين موضوعات   النبوة و موضوعات  الرسالة   ،   ونقول :   :
 وموضوعات النبوة  تمثل  المُتشابه  من الآيات  وتعنيه   ، والتي تحتاج في فهمها إلى إدراك  و إمعان نظر  و تدبر  ، لأنها في الغالب العام  مسائل ومباحث  علمية وعقلية  وفكرية   ، ولذلك  جعل الله  العلم  بها  يحتاج  إلى تأويل  ، والتأويل  :   أصله  من آل  بمعنى  ما تؤول  إليه  معرفة الأشياء  وتنتهي  وهذه من خواص  علم الله  ،  ثم  جعل  –  الراسخون في العلم  – مؤيدين وممضين على صحة تلك المآلات  وتلك  النهايات  ، وفق هذا النص : –   [  يقولون  آمنا به  كل من عند ربنا ]   آل عمران 7    ،  والراسخون في العلم   : –  هي  صفة تمييز وإختصاص  في العلم  الحياتي  والكوني   ،  والفقه  ومبباحثه  لا تدخل في هذا الحيز   ،  وأما  إطلاق لفظ الراسخ  في العلم على الإنسان هو من باب التأكيد والتوكيد  على علو كعب هذا الإنسان في مجال إختصاصه العلمي والعقلي  ، وكما قلنا  :  يخرج من هذا الوصف  كل  رجال الدين وحتى الفقهاء منهم  ،   ذلك  إن مجال عمل الفقيه  هو ليس العلم المحض بل هو في بيان إنطباق الحكم على الموضوع  ،  ومادة الحكم  متوفرة  وبكثافة في الكتاب المجيد  ، قال تعالى : – [ ..  فلولا  نفر من كل فرقة منهم  طائفة ليتفقهوا في الدين .. ]  –  التوبة 122  ،  والكلام في النص  عن معنى التعرف  على أحكام الدين ثم العمل بها ونشرها  في الحيز والمكان الذي يتحركون فيه  ،  وهذا العمل لا يدخل البتة  في مجال البحث العلمي أو في دائرة الراسخون في العلم    .
 وأما المُحكم  من الآيات  فهي موضوعات   الرسالة   ،  والتي تضم في العادة مسائل حياتية وإجتماعية وقانونية ،  تواجه المجتمع والناس كل يوم    ،  ولا تحتاج  هذه الموضوعات  إلى تأويل  بل تحتاج إلى فهم  وشرح  وبيان للمعاني  لمن تعوزه  معرفة ذلك   ، وكما إن هذه الموضوعات  لا تحتاج إلى تأويل  كذلك  هي لا تحتاج إلى  –  راسخين في العلم  –  بل تحتاج  إلى رجال دين وفقهاء كما أكدت على ذلك سورة التوبة  النص 122       .
و طبيعة  فعل الرسول  وعمله  يكون  في دائرة المحكم من الآيات  والنصوص  ،  وهذه  الدائرة  عبارة  عن  قوانين وتشريعات  في الأمر والنهي ،  وهي لا تحتاج إلى تأويل  بقدر  ما تحتاج  إلى جعل الحكم منطبقاً  على موضوعه ،  وبيان  المفهوم و المصداق   على أساس  المناسبة   بينهما  حكماً وموضوعاً    ، وأما ساحة  فعل  النبي  وعمله  فتكون  في المتشابه من الآيات  ،  وهذه الساحة  تحتاج  إلى البحث والنظر والتدبر   (  التأويل )   ،  وبين التفسير والتأويل فارق مفاهيمي  في اللغة  وفي التعاطي   والفهم   ،  لكن ما تقتضيه الضرورة  والحاجة  جعل  بينهما  تعاون  وإشتراك  ،  في بعض المعاني  وما يتطلبه  التأويل  ،  فالوصول إلى الغاية لاتتم  من  دون معرفة  معاني الموضوعات   ،   لذلك  ومن هذا  الباب  أقتضى التلازم  والتعاون  والإشتراك   ،  وبقي  أن نقول  : –  إن موضوعات  الكتاب  تنقسم بحسب  الدلالة  والمعنى  إلى  موضوعات  شرطية أو موضوعات مطلقة :
  والشرطية  :   هي تلك  الوسائل  أو الوسيلة التي  بها نصل أو نتعرف على الشيء الآخر أو إليه  .
والمطلقة   :  هي تلك  الموضوعات   المستقلة بذاتها  والتي لا تحتاج إلى غيرها   .
 لذلك قيل  : –  [  النصوص الشرطية   هي  تلك النصوص  التي  تعبر عن الفعل حين يكون مُريداً لغيره     ، وأما النصوص المطلقة  فهي تلك النصوص  التي تعبر عن الفعل الضروري في ذاته  ]   ، قال الأصولي : –  والمطلق هو ذلك  الفعل الذي يكون جازماً  أو قاطعاً  في حال  لم يرد التقييد  فيه  –  .
ولكن  هل  الرسول في مقام التشريع منزه عن الشك والترديد  في الأحكام  ؟   ،   ولكن ما المُراد  بالحكم  الترديدي   ؟   ،  الحكم أو  الأحكام  الترديدية     :   هي الأحكام القلقة والقابلة  للنفي والإثبات ، وهو غير  الأحكام الإيجابية  والتي يكون فيها النفي والإثبات  من الأمور الواقعية ، وهي غير الأحكام البرهانية  كذلك  والتي يكون  فيها  النفي والإثبات  من الأمور الضرورية .
ومادمنا  نعتبر  النبوة والرسالة صفات  إضافية زائدة  ،  فهذا  يعني إن الأصل  الأولي للنبي والرسول  –  إنه  كائن بشري –    ،  وهذا الأصل  من صفاته الشك والترديد  في  الأحكام  وفي الموضوعات  التي تقابله  ،  وفي هذا الأصل  الأولي لا يكون منزهاً أو معصوماً   ،  والكتاب المجيد أعتبر هذا الأصل  من الملازمات  و الخصائص التي يتميز بها  ،  ولأنه كذلك  فهو يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق  ويتزوج ويتناسل ، قال تعالى : – [  وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق .. ] –  الفرقان 25   ،   وقال تعالى : – [  وما أرسلنا قبلك إلاَّ رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كتنم لا تعلمون * وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ] – النساء 7 ، 8  ،  والذي يميز النبي أو الرسول  عن غيره  هو في (  الإصطفاء  )   ، والذي  به يكون قدوة لكل من أراد أو يريد  لنفسه خيراً  ، قال تعالى : – [  أولئك الذين أتيناهم الكتاب والحكم والنبوة .. أولئك الذين هدى الله .. فبهدآهم إقتده ] – الأنعام 89 ، 90  ،  ولم يفت الكتاب المجيد : أن يُنبه إلى  تلك الحقيقة   ، كون الذي أتى به الأنبياء والرسل يستعصي على باقي البشر أن يأتوا بمثله ، ولكن هذه الخاصية لا يجوز أن نجعلها الحجة التي ننزع فيها عن النبي أو الرسول طبيعته البشرية ،  قال تعالى : – [  وما كان لرسول أن يأتي بآية إلاَّ بإذن الله  ] – الرعد 38 و غافر 78  ، وأما دعوى البعض في أن النبي أو الرسول له صلاحية التشريع في الأمر والنهي ، فهذه الدعوى مردودة بدليل  التكليف المنوط به  جميع  المكلفين  وهو واحد منهم  في هذا  ، قال تعالى : – [  يا أيها الرسل كلوا من الطيبات وأعملوا صالحاً إنني بما تعملون عليم ] – المؤمنون 51  .
يبين  الكتاب المجيد  للطابع الإجتماعي لموضوعة التشريع ، معتبراً مايقره المجتمع و يعتبره المجتمع ملائماً وطبيعياً  له  ،  هو تشريع ملزم  ما دام لا يخل بوحدة النظام والمجتمع ، لذلك أقر الكتاب هذا المبدأ  وأمضاه  ،  من خلال النص التالي   قال  : – [  خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ] –  الأعراف 199  ، ومفهوم العرف مفهوماً  نسبياً  ومن محدداته  الثقافة واللغة والعادات والأعراف  ،  وهذه المحددات متغيرة في الزمان والمكان  تبعاً لتغير الظروف والأحوال ، وهذه أحدى مزايا  التشريع  من حيث كونه  خاضعاً لطبيعة الظروف والأحوال ، بإستثناء  مسألتي   –  الحلال والحرام –  التي  حددهما الكتاب بدقة  ،  ولم يسمح  ولم  يجز لأحد إطلاق لفظيهما ومعناهما على أي شيء لم يذكرانه ، وهذا يعني إن الرسالة هي مفهوم إجتماعي ينبثق من  وعي  وحاجة الناس  ومن ضرورتهم للعيش .
 لكن النبوة ليست كذلك  ،  فهي لا تخضع  لهذا القيد  ولا تُلزم نفسها به  ،  لأن مدآها أوسع ومعانيها لا تتحدد بالأعراف المكانية والزمانية ، والإيمان بها  حتمي أو هو قريب من ذلك   ، لكن الإيمان بالرسالة :  هو إيمان  محدد  ،  بالرسول  الذي يؤمنون به  أو بكونهم يعيشون في ظلال حكمه وتشريعه    ،  ولهذه  الطبيعة  جعل الله  الرسول واحداً  من وسط المجتمع الذي يعيش به ويتحدث بلسانه  ، قال تعالى : – [  وما أرسلنا من رسول إلاَّ بلسان قومه .. ] –  إبراهيم 4  ،  وهذا القيد ليس شرطاً  في النبوة   ،  لأن ما يقصده النبي وما يطلبه  ليس تعاليم وأحكام  تشريعية من  وأوامر ونوآه  ،  بل  الذي يطلبه  ويريده  هو تحريك وتحفيز العقل  لتحليل الكون  والطبيعة   ، هو إذن يُركز على المبادئ والأفكار   ، وهذا هو لسان حاله  ،   ولهذا لم يشر الله إلى ذلك كونه  من باب  تحصيل  الحاصل .
يتبين مما تقدم  : إن النبوة هي  تلك  المعرفة أو ذلك الدليل على المعرفة بالقوانين الكلية للطبيعة  والكون   ،  ولهذا  تقلصت  أو إنعدمت  أخبار النبوة  في تراث المسلمين ،  وأما الغالب العام فهو أخبار الرسالة  ولهذا اٍسباب لا مجال لسردها هنا  ،  ولهذا فقد  توهم عامة  رجال الدين  ،  في إعتبار صحة إسلام المرء  بشهادة أن لا إله إلاَّ الله   وأن محمداً رسول الله ، وهذا منهم  وهم كبير  لأن الإسلام  هو : –   إيمان بالله الواحد الأحد  ، والإيمان بالغيب  ،  والعمل الصالح  –  ، وهذه الثلاثية لآزمة  في إيمان الرسول كما  هي لازمة  في  إيمان  عامة الناس    ، قال تعالى : – [  إن الذين آمنوا ، والذين هادوا ، والنصارى ، والصابئين ، – من آمن بالله ، واليوم الآخر ، وعمل صالحاً  – ، فلهم أجرهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون  ] – البقرة 62  ، وهذا هو المعيار   ، وهذا هو الميزان في إسلام المرء أي مرء  دون النظر إلى لونه ولغته وقوميته  ودينه  ، وفي هذا  لا يشترط  : –  شهادة أن محمداً رسول الله –  ، لأنها زائدة في المقام   …
آية الله الشيخ إياد الركابي
3 ربيع الآخر 1440
الحلقة الثانية   

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here