كيف ان الحضارة العربية تأثرت بالأداب الفارسية قديما ؟ ح2

د. رضا العطار

سيكون السؤال الاول الذي ننطلق منه، ونحن بصدد التقديم لدور الموروث الفارسي وقيمه في تكوين نظام القيم في الثقافة العربية الاسلامية، نطرح الاسئلة التالية :

متى وكيف ولماذا ؟ آخذت قيم الموروث الفارسي في الانتقال الى الدولة العربية، وكيف اتخذت مسارها وعلى اي مستوى وكيف كانت علاقتها بقيم الموروثات الثقافية الاخرى، والى اين انتهى بها الامر ؟

لا شك فيه ان الموروث الفارسي بدأ يقدم نفسه داخل الثقافة العربية الاسلامية عبر الترجمة والتأليف، كخطاب كلًي في القيم والاخلاق . . . قد لا نقدم جديدا اذا قلنا ان ذلك بدأ في العصر الاموي، وفي عهد الخليفة هشام بن عبد الملك بالذات . . ليكن ذلك ! لكن الجديد الذي نبحث عنه في الحقيقة هو الجواب عن السؤال التالي، الذي لم يسبق ان طرح، حسب علمنا، كيف (حدث) ان يشهد العصر الاموي بداية التأليف في (القيم والاخلاق) من داخل الموروث الفارسي، وهو العصر الذي كان عربيا (خالصا) بل العصر الذي ساد فيه التعصب للعرب وثقافتهم : ثقافة الخطابة والشعر ؟

ما الذي دفع الامويين الى الاستعانة بنظام للقيم يقع خارج الثقافة العربية وموروثها ؟

كانت الخطابة في هذا العصر حاضرة في كل مكان. كانت تتخذ المساجد والساحات والاسواق والمجالس مسرحا لها، بقيت عبر الايام والسنين بواسطة الروايات الى ان نشطت حركة التأليف في (الادب) فكانت من جملة ما دوًن بوصفها قولا ادبيا ضروريا ل (ادب اللسان) ومن خلاله صارت عن قصد او غير قصد، جزءا اساسيا من (ادب النفس) يكرس عبر العصور والى اليوم قيما سياسية ودينية فضلا عن القيم الادبية. ومَن مِن العرب لم يقرأ او لم يسمع بخطبة (البتراء) لزياد ابن ابيه التي تكرس قيم الاستبداد القبلي في صيغة بليغة مشحونة بالتهديد والوعيد.

ولم يكن العصر الاموي عصر خطابة وحسب، بل شهد ظاهرة ادبية جديدة، كان لها شأن في تكريس قيم معينة نقصد بذلك ما يسمى (بالترسًل). لقد كانت رسائل ملوك بني امية من اهم الوسائل في نشر قيم الطاعة خاصة. كانت رسائل الخليفة تقرأ في المحلات العامة، كانت فقراتها باللغة العادية لكن في نص بلاغي تتزاحم فيها الاستشهادات بالقرآن والحديث، يراد لها ان تقوم مقام التبرير الديني والبرهان العقلي.

كانت البلاغة والفصاحة قبل ذلك في صدر الاسلام وسيلة للتحريض على الجهاد والفتح، كما كانت عند العلويين والموالي اتباع الامام علي بن ابي طالب وغيرهم من الثائرين وسيلة للتعبئة للثورة . . . اما عندما دخلت الدولة الاموية في اواخر عهدها في دوامة من الثورات المناهضة، تحولت الخطابة الى الترسل، لممارسة الضغط البلاغي السياسي على الناس من اجل كبح جماح السخط العارم، تماما كما كانت القيم الدينية زمن الاندفاع ونشر الرسالة وسيلة للتعبئة من اجل الجهاد والفتح، سيلجأ الحكام زمن الثورات الى توظيف القيم الدينية ذاتها من اجل الدعوة الى التزام الطاعة التي تعني (القعود) والسكينة.

هكذا حصل التحول النوعي في بنية الدولة الاموية، وان التأثير الفارسي قد جاء نتيجة هذا التحول، فما عسى ن يكون هذا التحول الذي جعل الدولة الاموية تنفتح في اواخر عهدها على الموروث الفارسي الاخلاقي والسياسي ؟

هذا لا بد من لفت الانتباه اولا الى امر على جانب كبير من الاهمية وهو ديوان الخراج او سجلات المالية، كانت تكتب باللغة الفارسية، ابتداءا من زمن عبد الملك بن مروان. واذن ف (الكُتًاب) كانوا يعرفون الفارسية وعلى صلة ليس فقط بمصطلحاتها الادارية بل بمجمل ثقافتها.

و نخرج بالنتيجة بالحقيقة التالية : إن اول درس في (الاخلاق والسياسة) تلقاه العقل العربي كان على يد معاوية.

حاملة السيف، لا القلم، وكان بعنوان (ألجبر) أمرُه وأمرُه ابنه يزيد وأمرُ كل من جاء بعده (كان بقضاء وقدر).

كان ذلك نتيجة هزيمة العرب جميعا في حربهم الاهلية الاولى التي خلًدت اسم مكان (صفين)، فبقيت جراحها ثابتة ماثلة مثول المكان . . . اما الدرس الثاني الذي تلقاه العقل العربي في (الاخلاق والسياسة) فكان عنوانه (الطاعة) وكان هذه المرة في مادة (الادب) والادب قلم يقوم مقام السيف . . كانت الظروف التي حركت تلك الاوضاع، ظروف هزيمة دولة معاوية وعشيرته هزيمة نهائية. فالجبر والطاعة كانا عنصران اساسيان في (اخلاق الهزيمة). بدأت الدولة الاموية بأولهما وانتهت بآخرهما. هل سيختلف الامر مع العباسيين ؟

الحلقة التالية في الاسبوع القادم

*مقتبس من كتاب نقد العقل العربي ـ العقل الاخلاقي العربي، لمؤلفه د. محمد عابد الجابري بناية النهضة الحمراء، شارع البصرة بيروت .2014

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here