أنظمة إدارية تحوِّل النزيه إلى فاسد

حميد الكفائي

لا شك أن الفساد ينتشر ويترسخ في المجتمعات المتخلفة دون غيرها، لكنه في الوقت نفسه يفاقم التخلف ويزعزع ثقة المجتمع بنفسه وبنظامه السياسي، ويقود إلى تفكيك المجتمع والدولة وخلق عصابات نفعية يصعب تفكيكها. ويندر وجود الفساد في المجتمعات الواعية لأن لديها أدوات عصرية لاكتشافه ومحاسبة مرتكبيه. يسلك الفاسدون طرقا عديدة لخداع المجتمع أهمها اتخاذ الدين غطاء لأفعالهم والتشدق بالقيم العليا والمبادئ السامية، لكن أفعالهم تخالف مدعياتهم. ولأن الناس ينبهرون بمن يدعي التمسك بالمبادئ والقيم، فإنهم يقعون ضحايا للمتشدقين بها. الدافع الرئيس لنشوء الأحزاب الدينية هو سهولة الوصول إلى السلطة عبر استخدام الدين.

هناك فساد في معظم دول العالم، والاختلاف هو في الدرجة، فهو يقترب من التلاشي في المجتمعت المتقدمة بينما يشتد في المجتمعات الأقل وعيا. الفاسد في المجتمعات المتقدمة متيقن من أن المجتمع سيكتشف فساده يوما، لكنه يفضل النجاح الآني غير مكترث بانكشاف أمره بعد حين، وطالما أُكتُشِف فسادُ شخصياتٍ عامة بعد موتها كما حصل للشخصية التلفزيونية البريطانية، جيمي سافِل (الذي أصبح اسما على مسمى!). كان سافِل رمزا لرعاية الأعمال الخيرية وتحقيق أماني الشباب، حتى أن مؤسساتٍ خيريةً عديدة اتخذت من اسمه عنوانا لها، لكنها سرعان ما نبذته أو حلت نفسها بعد انكشاف فساده الاخلاقي.

كثيرون دخلوا السجون أو استقالوا بعد اكتشاف فسادهم والقائمة طويلة، فيد القانون لا ترحم أحدا. لم ترحم الرئيس الأمريكي ريتشارد نكسون، ولا بطل الوحدة الألمانية، هلمت كول، ولا محبوب الفقراء، رئيس البرازيل، لولا دي سيلفا، ولا الوزير البريطاني (المدلل) جوناثان أيتكنز ولا نائب رئيس حزب المحافظين البريطاني، جفري آرتشر، الذين أقيلوا أو غُرِّموا أو دخلوا السجون بعد افتضاح فسادهم، الأخلاقي أو المالي.

الصعوبات الاقتصادية التي مرت بها اليونان مثلا، بعد دخولها الاتحاد الأوروبي، كانت بسبب الفساد وضعف الأداء المستشرييْن فيها، ما اضطر الدولة الراعية للاتحاد، ألمانيا، إلى انقاذها من أزماتها المالية لإبقائها ضمن الاتحاد.

المسؤولون الفاسدون وغير الأكْفاء يتلاعبون عادة بالنظام المالي والضريبي والنقدي والتجاري والمصرفي للتغطية على فسادهم أو فشلهم، لكن العضوية في المنظمات الدولية كالاتحاد الأوروبي، تجردهم من أدواتهم، فلم تتمكن حكومة اليونان من التحكم بالعملة لأنها خارج سيطرتها، بينما تضطر الضوابط الأعضاء إلى الالتزام بها، فكانت النتيجة تراكم الديون وحصول عجز مالي عالجته ألمانيا بحزمة إنقاذ فرضت عليها إصلاحات اقتصادية واسعة وعقوبات صارمة.

في عالمنا العربي الفساد منتشر، ولم نتمكن حتى الآن من القضاء عليه أو الحد منه، لأننا لم نسلك الطرق الصحيحة لمكافحته. نحن دائما نبحث عن (النزيه والكفوء) كي يدير مؤسساتنا وننسى أن أنظمتنا الإدارية هي التي تخلق الفاسدين وتلفظ النزهاء أو تحولهم إلى فاسدين. يجب ألا نتوقع من المسؤول أن يكون نزيها في نظام إداري مهلهل يشجع على ممارسة الفساد والتجاوز على حقوق الآخرين.

هناك ظواهر في بلداننا تخلق الفساد وتشجع عليه وتغري (النزيه) به، بل تجرّه إلى ممارسة الفساد أو السكوت عنه، وإن لم تُعالج هذه الظواهر فستبقى مجتمعاتنا تعاني من التراجع والضعف.

من الظواهر السلبية السائدة في دولنا هي تغول الدولة وضعف القطاع الخاص ما يدفع أكثر الناس للتوظف في الدولة. وبسبب عدم كفاءة أجهزة الدولة فإن موظفيها لا يكتسبون الخبرة بل يظلون يسيرون وفق النظام القديم غير المحصن ضد الفساد. وبسبب تدني الأجور وغياب الرقابة، إضافة إلى النوازع البشرية المعروفة، يلجأ مسؤلون وموظفون إلى ممارسة الفساد. ولأن النظام يزخر بالثغرات التي تسمح بالإثراء على حساب المجتمع، فإن الفاسدين يواصلوان فسادهم حتى بعد أن يتحولوا إلى أثرياء، لأنهم يسعون إلى حماية أنفسهم من الملاحقة باكتساب المزيد من الثروة والنفوذ. إن سعي الناس إلى التوظف في الدولة يجعلهم مستعدين لدفع الرشاوى للمسؤولين من أجل ضمان التعيين.

ظاهرة سلبية أخرى هي تركز الصلاحيات عند المسؤولين الكبار، ما يجعلهم قادرين على تنفيذ ما يحلو لهم مثل تعيين الأتباع والأقارب في وظائف مهمة دون أهلية. ما تحتاجه بلداننا هو نظام ضمان اجتماعي ينصف الفقير والمريض والمحتاج، ونظام للمعاش يشمل جميع المواطنين وليس موظفي الدولة فقط. مثل هذا النظام يطَمْئن الناس حول المستقبل ويخفف من الأعباء الواقعة على الدولة في توفير الوظائف، فأكبر دافع للتوظف في مؤسسات الدولة هو ضمان المعاش عند الكبر.

معالجة للفساد لا تكمن في فرض القيود وصرامة العقوبات وتعدد المؤسست الرقابية كهيئات النزاهة ودواوين الرقابة المالية ودوائر التفتيش، التي فشلت في كبح الفاسدين المتمرسين في تجاوز إجراءاتها، وأحبطت جهود المهنيين لتحسين الأداء وإصلاح الخلل، بل تكمن في تفعيل إجراءات حديثة كالحكومة الألكترونية، فهذا النظام يمنع التماس المباشر بين المراجعين والموظفين ويلزم المواطنين والمستثمرين باتباع الخطوات الأصولية لإنجاز معاملاتهم دون اللجوء إلى دفع الرشاوى، ويوفر لهم حق التظلم إن حصلت عرقلة لمعاملاتهم تهدف إلى ابتزازهم. لكن المسؤولين الفاسدين، في العراق مثلا، منعوا تفعيله لأنه سيحرمهم من ممارسة الفساد والإثراء غير المشروع.

من المعالجات الأخرى لمكافحة الفساد تشكيل هيئات مهنية للتوظيف سواء في القطاع العام أو الخاص من أجل توزيع الوظائف بعدالة واختيار أهل الكفاءة والخبرة. يجب أن يكتسب المرء الخبرة أولا عبر التدريب قبل أن توكل إليه مسؤولية محددة.

حق الإنسان في العمل يجب أن يقترن بسعيه الحثيث لاكتساب الخبرة والمعرفة. إجراء آخر هو تفعيل الشفافية في الإجراءات كي يعرف الناس كيف تنفق أموالهم وكيف تمنح العقود للشركات. معظم عقود الدولة تمنح للشركات التي تُقدِّم (مكافآت) للمسؤولين وهنا تكمن أكبر صفقات الفساد وأخطرها.

أهم وسيلة لمكافحة الفساد على الأمد البعيد هي تطوير مناهج التعليم وتفعيل دور المؤسسات الثقافية كي تساهم في ترسيخ مبادئ احترام العمل وزيادة الإنتاجية ودعم المرأة بكل السبل المتاحة كي تلعب دورا فاعلا في الاقتصاد والإدارة. إن لم تبدأ حكوماتنا باتخاذ خطوات مبتكرة لمواجهة الفساد فإن شعوبنا ستبقى تعاني من الفشل والتراجع إلى أمد غير منظور.

* كاتب عراقي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here