تأملات في القران الكريم ح 414 سورة الملك الشريفة

للسورة الشريفة جملة من الفضائل والخصائص , لعل ابرزها ما جاء في كتاب ثواب الاعمال عن الإمام الصادق عليه السلام : من قرأ تبارك الذي بيده الملك في المكتوبة قبل أن ينام لم يزل في أمان الله حتى يصبح وفي أمانه يوم القيامة حتى يدخل الجنة .
كما وتسمى هذه السورة الشريفة بـ ( المنجية ) , لأنها تنجي صاحبها من عذاب القبر .

بسم الله الرحمن الرحيم

تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{1}
تستهل السورة الشريفة ( تَبَارَكَ ) , تعظم وتنزه وتكاثر خيره على خلقه جل جلاله , ( الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ) , الذي بقبضة القدرة يتصرف في الامور وينفذ فيها قضائه , ( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) , لا يفوته ولا يعجزه شيء .

الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ{2}
تستمر الآية الكريمة مضيفة ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ) , قدر الموت وقدر الحياة , ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) , ليعاملكم معاملة الاختبار في الحياة , فأن الموت محفز لحسن العمل , وسببا لعدم الوثوق في الدنيا , ( وَهُوَ الْعَزِيزُ ) , الغالب , الذي لا يفوته من اساء العمل , ( الْغَفُورُ ) , لمن تاب واحسن العمل .
( عن النبي صلى الله عليه وآله إنه سئل عن قوله أيكم أحسن عملا ما عنى به فقال يقول أيكم أحسن عقلا ثم قال أتمكم عقلا وأشدكم لله خوفا وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظرا وإن كانوا أقلكم تطوعا وفي رواية قال أيكم أحسن عقلا واورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله .
عن الصادق عليه السلام ليس يعني أكثر عملا ولكن أصوبكم عملا وإنما الاصابة خشية الله والنية الصادقة ثم قال الابقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عز وجل والنية أفضل من العمل ألا وأن النية هو العمل ثم تلا قوله عز وجل قل كل يعمل على شاكلته يعني على نيته ) . “تفسير الصافي ج5 للفيض الكاشاني” .

الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ{3}
تضيف الآية الكريمة ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً ) , بعضها فوق بعض , ( مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ) , من اختلاف او تباين او عدم تناسب , ( فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ) , ارجع النظر الى السماء , وقد رأيتها مرارا , فهل ترى فيها من خلل , او شقوق وصدوع .

ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ{4}
تستمر الآية الكريمة ( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ) , مرتين , او مرة بعد اخرى بيانا للكثرة , ( يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً ) , ذليلا , لعدم ادراك الخلل , بعيدا عن اصابة المطلوب , ( وَهُوَ حَسِيرٌ ) , متعب , كليل من كثرة المراجعة .

وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ{5}
تستمر الآية الكريمة محققة مؤكدة ( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا ) , اقرب السموات الى الارض , ( بِمَصَابِيحَ ) , بالنجوم , ( وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ ) , وجعلنا من تلك النجوم ما يرجم به الشياطين عند عروجهم لاستراق السمع , او ان رجوما بمعنى ظنونا بالنسبة للمنجمين , فإن المنجم يرجم رجما بالظنون والخيالات والأوهام التي تعتريه , وهذه الرجوم في الدنيا , ( وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ) , عذاب الاخرة .

وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ{6}
تنعطف الآية الكريمة لتضيف ( وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ) , من الشياطين والانس , ( عَذَابُ جَهَنَّمَ ) , النار , ( وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) , ساءت وقبحت مصيرا .

إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ{7}
تستمر الآية الكريمة ( إِذَا أُلْقُوا فِيهَا ) , في جهنم , ( سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً ) , سمعوا صوتا منكرا , مرعبا , مخيفا , ( وَهِيَ تَفُورُ ) , تغلي بهم كغليان المرجل .

تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ{8}
تضيف الآية الكريمة ( تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ) , قاربت جهنم تتمزق من شدة غضبها على الكفار , ( كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ ) , جماعة من الكافرين , ( سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا ) , ملائكة العذاب الموكلون بالنار , سؤال توبيخ وتبكيت , ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ) , ألم يأتكم رسول ينذركم من هذا العذاب ؟ .

قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ{9}
تروي الآية الكريمة جواب الكفار ( قَالُوا بَلَى ) , نعم , ( قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ ) , تحقق مجيء رسول منذر لنا , ( فَكَذَّبْنَا ) , به وبإنذاره , ( وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ ) , وقلنا له منكرين نزول أي شيء من الله , ( إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ) , يحتمل في النص المبارك امرين :
1- ان يكون من كلام الملائكة ردا على قول الكفار .
2- ان يكون من كلام الكفار لرسلهم , أي بالغنا في نسبة الرسل واتباعهم الى الضلال .

وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ{10}
تروي الآية الكريمة على لسان الكفار ( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ ) , سماع تدبر واتعاظ , او لو كنا نسمع كلام الرسل من غير تدقيق وبحث , اعتمادا على ما عرفوا به من الصدق وحسن السريرة , ( أَوْ نَعْقِلُ ) , عقل تفكير في المعاني , او نفكر تفكير المستبصرين , ( مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) , ما كنا في عداد اهل النار .

فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ{11}
تستمر الآية الكريمة ( فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ ) , فاعترفوا حين لا ينفع الاعتراف بالذنب , ان اكبر ذنب هو الكفر , ومنه تصدر جميع الذنوب الاخرى , لذا جاءت مفردة ( بِذَنبِهِمْ ) مفردة , ( فَسُحْقاً ) , سحقهم الله سحقا , ابعدهم عن رحمته جل جلاله , ( لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ ) , اهلها وسكانها ومستحقيها .

إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ{12}
تقرر الآية الكريمة ( إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم ) , يخافونه جل وعلا , ( بِالْغَيْبِ ) , فيها عدة اراء , نذكر منها :
1- السيوطي في تفسيره الجلالين ( في غيبتهم عن أعين الناس ) .
2- أي انهم يخافون الله تعالى قبل ان يقع المغيب عليهم , والمغيب هنا الموت والبرزخ والقيامة , فاذا وقع عليهم الموت “مثلا كأحد المغيبات” وخافوا الله جل وعلا بعده , فلا تنفعهم خشيتهم منه جل وعلا ذلك الحين .
3- يخشون عذاب الله تعالى في الاخرة قبل المعاينة .
هذه الفئة تقرر لهم :
1- ( لَهُم مَّغْفِرَةٌ ) : المغفرة والعفو التام من ذنوبهم .
2- ( وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ) : ولهم ايضا ثواب كبير , تستصغر دونه لذائذ ومتع الدنيا كافة .

وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ{13}
تستمر الآية الكريمة مخاطبة عموم الناس على بعض الآراء , مع ترجيح ان يكون المخاطبين هم الكفار ( وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ ) , اخفوا قولكم , ( أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ) , او اعلنوه , ( إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) , انه جل وعلا عليم بالسرائر حتى قبل ان تخفوا او تعلنوا ما فيها .
مما يروى في سبب نزول الآية الكريمة , ( روي أن المشركين كانوا يتكلمون فيما بينهم بأشياء فيخبر الله بها رسوله فيقولون أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد صلى الله عليه وآله فنبه الله على جهلهم ) . “تفسير الصافي ج5 للفيض الكاشاني , وكذلك تفسير الجلالين للسيوطي” .

أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ{14}
تستمر الآية الكريمة ( أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ) , الا يعلم الله تعالى ذكره خلقه وشؤونهم , وهو خالقهم ومدبرهم ومتولي امورهم , ( وَهُوَ اللَّطِيفُ ) , وهو جل وعلا اللطيف في علمه , اللطيف بعباده , ( الْخَبِيرُ ) , بما ظهر وبطن من خلقه .

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ{15}
تستمر الآية الكريمة مضيفة ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً ) , ذللها لكم , كي يتسنى لكم قضاء حوائجكم , ( فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ) , في جوانبها او جبالها , وهو غاية التذليل , ( وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ) , واطلبوا رزقه مما جعله الله تعالى لكم فيها , ( وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) , البعث من القبور , فيسألكم “يحاسبكم” عن نعمه عليكم فيها .

حيدر الحدراوي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here