البصرة .. شخصية العام

عبد اللطيف السعدون

26 ديسمبر 2018
يكفي مدينة البصرة أنها أخذت اسمها من تعريف عمر بن الخطاب بها أنها “أرض بصرة (صلبة الحجارة)، قريبة من المشارب والمراعي والمحتطب”، وذلك في رسالته المعلومة إلى بانيها، عتبة بن غزوان. قد يغضب التذكير بذلك بعض الذين في قلوبهم مرض، ويدفعهم إلى المطالبة بتغيير اسمها، كما فعلوا في الدعوة إلى تغيير اسم شارع الرشيد، لمجرد اقترانه باسم الخليفة العباسي، هارون الرشيد. وعلى أية حال، عرفت البصرة لدى المؤرخين منارة نهوض على امتداد تاريخها الطويل، وقد شهدت أحداثا مهمة، وسجلت مآثر ومنجزات قصرت عن إتيانها مدنٌ عديدة. ولذلك أطلقوا عليها تسمية “أم العراق”. يكفي أيضا أنها ضمت تراثا ثقافيا وفكريا شاسعا، بحكم احتضانها كل الأفكار، ففيها نشأت حركة المعتزلة، وتجذر إخوان الصفا، وتفتحت مدارس النحو العربي، وتقاسمت أرضها أسماء ذات مكانة: أبو الأسود الدؤلي، وأبو عمرو البصري، وابن الهيثم، والفرزدق، والجاحظ، والأصمعي، وسيبوبه، وابن المقفع، والفراهيدي، وبشار بن برد، والحسن البصري، ورابعة العدوية. أما بصرة عصرنا الحاضر، فيكفيها أن نشهد لها مأثرتين، تستحق على وقعهما أن تأخذ لقب شخصية العام، إذ قدر لها في مأثرتها الأولى أن يكون بعض أبنائها أول مقاومين للغزو الأميركي – البريطاني في واقعة أم قصر التي ما تزال حية في الأذهان، وأعاقت الغزاة عن دخولها اثني عشر يوما. وفي مأثرتها الثانية، كان قدرها أن تكون أول مدينة عراقية موصوفة في المعجم الطائفي بأنها “شيعية”، تؤكد عراقيتها وترفض الهيمنة الإيرانية عليها. كان ذلك في شهر يوليو/ تموز، عندما وقف البصاروة (أفضل استخدام هذا الجمع، لأنه يعني في المخيال الشعبي كل أهل البصرة، بغض النظر عن أصولهم وانتماءاتهم)، ليقولوا هتافا مثيرا ومدهشا في آن، “إيران برّه.. برّه”.
” تقع البصرة على ملتقى نهرين، لكنهما اليوم يسقطان ضحية الجفاف، والبصاروة يبيتون عطاشى”

كان ذلك وسيلة مطلوبة لإيقاظ كثيرين، وتنبيه من لم ينتبه بعد إلى أن الهيمنة الإيرانية على القرار العراقي تعني، في بعض أبعادها، انتزاعا للسيادة، كما تعني احتلالا للأرض على نحو ما. وقد مثلت تلك الصرخة مخاطرةً مستحقةً، أبلغت رجال إيران في العراق من خلالها رسالةً مفادها بأن البصاروة أدركوا اللعبة، عرفوا أن مدينتهم، عراقهم كله، في خطر الموت، إنْ لم يتم تدارك أمره. وبدلا من أن يراجع رجال إيران الذين يزعمون أنهم عراقيون ضمائرهم، وبدلا من أن يحتكموا إلى عقولهم، انقضوا بما يملكون من قوة غاشمة على الانتفاضة، وسعوا إلى وأدها، وهي في المهد، قابلوها بالرصاص الحي، واغتالوا بعض ناشطيها، واعتقلوا عشرات منهم، لكنها بدت أكثر حكمةً، عندما قرّرت التوقف يوما أو أياما، كي تعود أكثر شكيمةً وإصرارا على تحقيق مطالبها، وقد عادت.
هذه هي البصرة التي نريد لها أن تكون شخصية العام، لا لأنها قد أمسكت في ماضيها بالمجد من أطرافه، بل لأن نازلةً نزلت بها، كما نزلت بكل العراق، إذ هي اليوم تعاني وتئن، فلا يستجيب لمعاناتها مسؤول، ولا يسمع أنينَها حاكم، وكأن أهل السلطة اتفقوا لا على تجاهل مطالبها، وعدم توفير احتياجاتها الإنسانية فحسب، بل أيضا على نهبها، وسلب ثرواتها، وقمع أهلها كلما رفعوا أصواتهم احتجاجا على حيفٍ ألحقوه بها، أو تعبيرا عن ضيم فرضوه عليها.
ويسقط كل تبرير من أهل السلطة، عندما ندرك أن البصرة تعوم على بحيرة نفط، هي الأكبر في البلاد، ولا يصيبها منه سوى الفتات، كما لا ننسى أنها تقع على ملتقى نهرين، كانا يوما ما يحملان كل الخير للعراق، لكنهما اليوم يسقطان ضحية الجفاف، وزيادة الملوحة، واتساع رقعة التلوث الجرثومي، إلى درجة أن البصاروة يبيتون عطاشى، بفعل سياسات الإخوة الأعداء الذين أقدموا على تغيير مجاري الأنهار المشتركة، وأقاموا سدودا عليها، من دون مراعاةٍ لحقوق الجوار، فأفقدوا جيرانهم أكثر من أربعين رافدا مائيا، وتسببوا في جفاف الشط وقتل السمك. أما نخيل البصرة فقصته يرويها المزارعون البصاروة بمرارة، فقد كان عندهم ثلاثون مليون نخلة، لكن العدد تقلص إلى النصف، ولم تعد المواسم تسد حاجة الجياع!
ليس غريبا على البصرة إذن، وقد قاومت غزاتها، وحاربت الطامعين فيها، وحفظت تاريخها وتراثها، أن تطالب بحقها في الحياة والعيش الرغيد، وأن تسعى إلى كسر الهيمنة الإيرانية على مقدّراتها ومقدرات العراق، هي بذلك تعطي للحياة معنى، وتصبح مؤهلةً لتكون شخصية العام في العراق، عن جدارة واستحقاق.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here