ذكريات من ايام الشباب، رحلتي الى القطب الشمالي، القسم الثاني!

د. رضا العطار

في صيف عام 1974عندما اشتدت حرارة الجو في بغداد بدأت افكر بالأجازة السنوية،أتسائل مع نفسي، اين اذهب هذا العام ؟. وفي اي بلد اقضي فترة الاستراحة، مرهونا ان لا يكون هذا البلد ضمن البلدان التي سبق وان زرتها في الرحلات الماضية. وطال أمد التفكير، واستقر اخيرا، السفر الى جزيرة غرينلند، موطن الاسكيمو، الكائنة في القطب الشمالي للكرة الارضية.

كنت وانا صغير تستهويني صور الاسكيمو، اهفو الى رؤية عالمهم الغريب، وعندما كبرت، استبدت هذه الرغبة، و الان ارى نفسي جاهزا والفرصة مؤاتية، اريد ان اذهب الى بلاد الاسكيمو لأرىكيف انهم يقضون حياتهم داخل قبب جليدية ؟.

وهكذا قمت بتحقيق الفكرة، فغادرت بغداد وهي تتلوًى في درجة حرارة 50 فوق الصفر الى بلاد كرينلند الكائنة في المنطقة القطبية وهي في درجة حرارة 50 تحت الصفر، بل واكثر.

لم يكن امر الانتقال من منطقتنا الحارة الى المنطقة القطبية امرا سهلا وميسرا، بل كان عسيرا وشاقا، تمت على عدة مراحل. كانت الاولى في ايسلندة التي وصفتها في القسم الاول من هذاالمقال بانها كانت مسرة مريحة ومسلية، زاخرة بالمفاجئات الفريدة رغم مناخها البارد بالغ الشدة، اما المرحلة الثانية والتي انا بصددها الان، كانت تكمن في مصاعب السفر داخل الطائرة، والتي لم تكن في الحسبان، إلا ان كل ما شاهدته هناك بعد ذلك في المنطقة القطبية، كانقد فاق وصفه افق كل خيال.

كانت لندن محطتي الاولى، توقفت فيها وتزودت منها بكل ما احتاج اليه من تجهيزات وملابس متطلبة لمناخ القطب، بعد ذلك واصلت السفرعن طريق الجو الى مدينة ريكافيك، عاصمة ايسلندة،وفي ريكافيك، اقمت ثلاثة ايام، وفي صباح اليوم الرابع كانت الطائرة الاستطلاعية المتوجهة الى المنطقة القطبية جاهزة للاقلاع.

كانت الطائرة صغيرة الحجم، ذات محرك واحد، تحوي على خمسة مقاعد فقط، وتاريخ صنعها قديم، واظن انها كانت تفتقد الى جهاز التكييف، فكان على المغامرين ان يسعفوا انفسهم بأغطية الصوفالمطروحة بين المقاعد، فإلتحفنا بها صاغرين. كانت معاناتي اكثر من غيري، كون ان مقعدي كان بجنب الباب، التي لم تكن محكمة السد، فكانت تصدر صريرا و تسمح بمرور الهواء داخلا، فكنت الف اطرافي بمزيد من الاغطية تحاشيا من البرد القارس، فقد وجدت نفسي امام مشكلة، لا تجدسبيلها الى حل.

كانت الطائرة غير مستقرة في سيرها، تحلق على ارتفاع خفيض، كان الطريق الطويل ممللا ومقلقا، تخلو من حركة الملاحة البحرية، فمعظم المسطحات المائية كانت متجمدة، تعج بجبال ثلجية،هائلة الاحجام، غريبة الاشكال، كانت اشعة الشمس المنعكسة عن سطح المحيط المتجمد، تملأ الدنيا ضياءا باهرا وهاجا، شديد السطوع.

كان المشهد رهيبا، يكتنفه الغموض ووحشة المجهول، فاضطربت قليلا، دون ان اهاب، وقد ذهلتُ بما رأيت، ومن ذهولي لم اشعر بانقضاء الوقت، وقد افقت من شرودي على أثر حدوث تيبس في حنجرتي،فلم اكن اقوى على بلع ريقي، وعطشت، وتمنيتُ لو تيسر لي جرعة من الماء.

كانت ظروف الرحلة، ظروف تعيسة، احسست خلالها بضجر لا يحتمل، وفي غمار هذه الشدة، حاولت التعلق بشيء يصرف الانتباه، فعمدت التركيز على متغيرات المشاهد في المحيط المهيب، ولم يمروقت طويل إلا وشعرت انني منغمر بفيض من الخشوع الروحي، يملأ جوارحي ويهزًها، فغدوت مأخوذا في حيرتي امام عظمة الكون ورهبته، وجمال الوجود ومهابته. (والله على كل شيء قدير).

وبينما انا بهذا الحال من الطيران (الأكشر)، بدأت طائرتنا المهلهلة تهبط تدريجيا،

بيد انها اتجهت صوب جبل، كيف ؟؟؟، بل بدأت تقترب من الجبل شيئا فشيئا، فحبست انفاسي واصبت بالذعر والهلع. وخشيت النهاية.

وكم كان اشد اندهاشي، وما كان اعظم ذهولي حينما (وكًرت) الطائرة على قمة ذلك الجبل واستقرت عليه فورا، وتوقف المحرك ـ ـ ـ علامة الوصول !

فتنفسًت الصعداء.

كانت تلك البقعة التي هبطت عليها طائرتنا، عبارة عن قطعة ارض، تذكرني ابعادها بمساحة ملعب كرة القدم، انها كانت عبارة عن رقعة من اليابسة في تلك المنطقة القطبية تكشف نفسها للعيان،بعد انحسار الجليد عنها في فترة زمنية محددة، لا تتجاوز ايام معدودات من شهر تموز كل عام.

لم اجد هناك احدا، ولا أثرا لكائن حي، بل وجدت نفسي واقفا وسط المغامرين الامريكان الثلاث في ذروة ذلك المرتفع تحيطه الثلوج من جهاته الاربع، وكان البرد في شدته مثلجا، رغمان الوقت كان ظهرا وحرارة الشمس منتشرة في السماء، كان الجليد القريب من اقدامنا صلبا صقيلا، فحذرنا القبطان من الحركة، تفاديا لخطر الانزلاق.

كانت الدنيا من حولنا تسبح في بحر من النور الوهاج، يسطع بشدة، يخشع الابصار، كل شيء فيه كان يتلألئ، كان الجليد البراق، ناصع البياض يغطي وجه الارض على امتداد الافق، وكانتمسطحات الصقيع القريبة والبعيدة متناغمة في قوة لمعانها لدرجة كان من الصعب على المرء ان يعرف اين ينتهي البحر و تبدأ اليابسة، علما ان مكان وقوفنا كان محاذيا للساحل الغربي للمحيط المتجمد الشمالي.

كان منظر الطبيعة في بهائها و صفائها آسرا، وقد تجلى سحرها الفتان في حلة من الجمال المطلق، وهي السمة التي تنفرد بها البيئة القطبية.

.

وقد صُعقنا وطاش صوابنا، عندما ابلغنا القبطان بعدم السماح لنا بمخالطة عوائل الاسكيمو، رغم انهم الان امام اعيننا وعلى بعد عشرات الامتار منا، كونهم يتحاشون الغرباء، حرصاعلى صحتهم، فالاسكيمو يعتقدون ان غيرهم حمال امراض.

فقد نشأ عندهم هذا الاعتقاد، بعد ان قدم الى بلادهم خلال القرن التاسع عشر تجار فرو اوربيين، وتم تبادل البضائع معهم عن طريق المقايضة، لان الاسكيمو لا يعرفون العملة، الاوربيونحصلوا على كميات كبيرة من فرو الحيوانات القطبية، مقابل حصول الاسكيمو على بنادق وحاجيات اخرى. وخلال التماس الذي جرى بينهما، نُقلت امراض الوافدين الى شعب الاسكيمو، ولم يستطع هؤلاء مقاومتها، مما تسبب الى هلاكهم بأعداد غفيرة. ومنذ ذلك الحين يتجنب الاسكيمولقاء الاجانب !

وبعد ان تلقيا هذه المعلومات، صار يقينا اننا سنمكث في مكاننا واقفين، ومن موقعنا فقط، يمكننا رؤية مجتمع الاسكيمو وما يجري فيه من نشاطات اجتماعية، ضمن بيوتهم الجليدية فيمنطقة سكناهم، كما يمكننا ان نستنبط عبر المظاهر الحياتية التي نراها، طبيعة علاقاتهم مع بعضهم، انهم كانوا منشغلين في ممارسة اعمالهم، ويظن ان طبيعة هذه الاعمال كانت متعلقة بامور الصيد وتهيأة الغذاء اليومي، وهو في الغالب يشمل على ما يحصلون عليه من صيد البحر فيالاغلب والبر في الاقل. انهم يعيشون في اقسى الظروف المناخية على وجه الارض.

كانت منطقتهم تتكون من مجمعات (سكنية) وهي عبارة عن قبب ثلجية، تناثرت على مساحات واسعة من السفوح الشمالية، تفصل المجمعات عن بعضها ممرات متقاطعة، ولم نجد هناك ما يمت بالحياةالعصرية من أثر. يكفي ان نعرف ان منطقتهم خلت من اصغر بناء. انهم قبائل بشرية مقطوعة عن العالم الخارجي، ولم يتسنى لنا معرفة ما يجري داخل قببهم الجليدية من عادات وتقاليد، فعلمه عند الله.

كانت بيوت الاسكيمو، عبارة عن اكواخ ثلجية قبوية الشكل تدعى (Igloo). والأجلو عبارة عن قطع من المكعبات الجليدية تكوًن جدران الكوخ من الخارج، ثم يبطنون الكوخ من الداخل بمخلفات الصيد البري من جلود الحيوانات كالوعل والدب القطبي، فيصبح اقرب الى الخيمة ثم يفرشون ارضه بالفراء. فتصبح درجة الحرارة في الداخل مقبولة لديهم. ولا يوقدالاسكيمو النار داخل الكوخ، كي لا تذوب المكعبات.

يعيش هؤلاء القوم في اقسى الظروف الحياتية التي عرفها الانسان. فمنطقتهم لا تحصل إلا على اقل كمية من اشعة الشمس، فخلال فصل الشتاء الذي يدوم ستة شهور في القطب الشمالي للكرةالارضية، يخيم الظلام الدامس على منطقتهم، فتتعقد حياة الاسكيمو وتتعسر سبل توفير الغذاء. ففي مثل هذه الظروف القاهرة تقوم بعض قبائل الاسكيمو بالاحتفاظ بالحوت المصداد بعد طمره بكميات هائلة من الثلوج الهشًة، حتى يبدو من بعيد وكانه هضبة ثلجية كبيرة، هذا هو مؤونهمالوحيد لجميع اشهر الشتاء، يغتذون من لحمه كل يوم. هذه الحقيقة المذهلة، تصوًر لنا سعة المعاناة التي يكابدها انسان الاسكيمو، بغية الحفاظ على استمرارية حياته !

ينحدر شعب الاسكيمو اصلا من المناطق القطبية لشمال سيبريا، فأجدادهم نزحوا منذ آلاف السنين وتفرقوا في سواحل المحيط المتجمد الشمالي، فسحنتهم آسيوية. واصولهم منغولية، فهم قصارىالقامة، اجسامهم ضخمة واكتافهم عريضة ووجوههم واسعة ووجناتهم بارزة والبشرة داكنة والعيون منحرفة ضيقة والشعر اسود.

ارى الاسكيمو رجالا ونساء في بملابسهمالتقليدية الخاصة بهم، انها لم تكن في ثقل ملابسنا التي كانت لا تقل عن معاطف فرو سميكة، رأينا اطفالهم يرتدون ملابس صارخة الالوان، يلعبون ويمرحون. وقد تكيفوا في محيطهم القطبي مع قسوة المناخ منذ الصغر. الذي لا نطيق شدته نحن.

يصنع الاسكيمو ملابسهم من الجلود والفراء، فيلبسون شتاءا ردائين من الفراء، يتجه فراء الرداء الداخلي نحو الجسم في حين يتجه فراء الرداء الثاني نحو الخارج، وهذه الملابس متقنةالصنع تفصيلا وخياطة فلا تسمح للماء بالنفاذ من مواضيع الخياطة منها.

تعني كلمة اسكيمو ( آكلي اللحم النيء ) وقد تكيفت جماعات الاسكيمو على قسوة الحياة في المنطقة القطبية، معتمدين في غذائهم على ما يصطادون، وفي مقدمتها لحوم الوعل والدببة وحصانالبحر ولحم الحوت والفقمة ومختلف انواع السمك والطيور المائية.

كما انهم يصنعون من جلود الصيد البري اغطيتهم وافرشتهم، كما بستفادون من صيد الحوت، زيته في الطبخ والاضاءة. ومن عظامه يصنعون الاقواس و الهروالات والسكاكين والرماح والحراب. ومن جلود حيوان الرن يصنعون الزلاجات التي تجرها الكلاب.

قد نظن ان نوع الغذاء الذي يتناوله الاسكيمو قد يؤدي الى مشاكل صحية، لكن يظهر ان الاسكيمو مصان من هذه المشاكل، فانسان الاسكيمو نادر ما يتمرض، وبذلك يُعدون من اكثر الشعوبالتي تتمتع بصحة جيدة في العالم.

اما في النواحي العاطفية فنقول: : اذا اراد شخصان من افراد عائلة الاسكيمو ان يقبلا بعضهما، اظهارا للمشاعر، فانهما يكتفيان بملامسة الانفين فقط، لأن التقبيل العادي يجمد لعابهماويؤدي الى التصاق الشفتين.

اما اذا اراد شخصان ان يتعرف احدهما على الاخر، اكتفوا بشم الخدود ليس اكثر.

اما عن معتقدهم، فإن شعب الاسكيمو يعتقد انه سيعيش حياة ثانية بعد الموت.

وان للبحر والشمس والقمر ارواح تتحكم في مصيرها.

وبعد الثانية ظهرا بقليل، بدأت الشمس تميل باتجاه الغروب، فأنبسط الشفق البديع على الافاق المترامية، وقد ابهجنا بروعة الوانه البديعة وسحر منظره الآخاذ.

ثم بدأ النور ينحصر والظلام ينتشر، وزاد البردُ من شدته، وبدأت جماعات الاسكيمو يختفون في قببهم الجليدية افرادا وجماعات، فأخبرنا القبطان بنفاذ مدة اقامتنا في غرينلند والمحددة بساعتين، ودعانا الى صعود الطائرة، وبعد دقائق من الاقلاع، كنا نحلق ثانية فوق المحيط المتجمد للقطب الشمالي، تحت اجواء عمها الظلام المطلق، في طريق عودتنا الى ايسلندة.

لم يسمح لنا رجال الاسكيمو ان نلتقي بهم، لكن ما يبعث السلوان، ان الرحلة رغم معاناتها، قد اكسبتنا فهما جديدا للأنسان والدنيا، لم نكن نعرفه من قبل، فضلا عن انها كانت مفعمةبفيض من المشاهد الطبيعية و الجغرافية، فريدة من نوعها، فقد كانت مناظرها خارقة للمألوف، فلا يرقي الى جمالها وصف. انها كانت ذكريات خالدة.

· معظم المعلومات الوارد في هذا المقال صادر من القبطان، مرشدنا السياحي.

وان ما ذكرته عن جماعة الاسكيمو، يعود تاريخه الى قرابة خمسة عقود مضت، ولا علم لي فيما اذا حصل خلال هذه الفترة من الزمن لدى جماعات الاسكيمو شيء من التغيير والتطور.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here