لغتنا : لماذا تتعلمين العربية يا آنسة ؟

د. رضا العطار

ضمن البرنامج الثقافي للحوار العربي الالماني في برلين في خمسينيات القرن الماضي، دُعيت الى احد فعالياته الدورية، كان الموضوع للباحث الالماني شنايدرز، حول جولته الاستطلاعيةلعدد من العواصم العربية، الذي زخر بالمعلومات القيمة، اكتسبها خلال تواجده هناك، علما وانه كان يجيد التكلم باللغة العربية.

وصلت المكان في الوقت المحدد ودخلت القاعة المخصصة، فوجدتها مكتظة بالحضور واخذت فيها مكاني، وبعد لحظات بدأ المحاضر حديثه، وبدأت انا بدوري ادون ملاحظاتي اولا باول، وبينما كنتمنشغلا، برقت في سماء الصالة فجأة صورة فتاة حسناء، رشيقة القد شقراء، مشرقة المحيا، تسطع فتنة، – – وعندما حدقت في شخصها من بعيد، تراءت لي وكأنها (فاتنة الدنيا وحسناء الزمان ! ) . التفتت الفتاة الى ما حولها في عجالة، وجالت ببصرها ارجاء القاعة، ثم توجهت نحويبخط مستقيم وجلست بجانبي. وفي جواري اتخذت مقعدها ـ كوعاء الورد في اطمئنانها. ( نزار قباني).

وبعد ان رتبت الطارئة شعرها النافر، وتاكدت من حسن أناقتها ولمعة حمرة شفاها في مرآة جيبها، حولت بصرها الى دفتر ملاحظاتي الصغير وامعنت النظر فيه، وتوقفت برهة وقالت لي باستحياء : يروق لي نسق السطور، وجمال زخرفة الكلمات، وهي تنساب من اليمين الى اليسار، ان اشكالها الجميلة لتسحرني حقا، ولم تهدأ الفتاة بل استمرت تطوقني بنظراتها وتقطرني بعبارات الاطراء ولا تنوي الفكاك، حتى اني خلت انها (ناويه عليها)، وان ما نطقت به من عبارات المجاملةما هي الا (حرشة)، تسوقها بأتقان، خاصة بعد ان لمستُ منها دفئ التودد وفيض الاحساس، واقتنعت بانها جادة في مسعاها بفتح باب التعارف معي، لكن سرعان ما انكشفت،اني كنت (رايح زايد) !

فبعد ان رفعت الفتاة راسها ونظرت في وجهي بمسحة من الجد، قالت :

اني لم اتجه لدراسة الادب الالماني كما يفعل الاخرون من زملائي، ثم تطلعت اليّ وتأنت كي تستأنف سرد خواطرها فاضافت : زملائي الذين لا يدرسون الادب الالماني يتجهون عادة لدراسةالاداب الاوربية كالانكليزية والفرنسية والايطالية والروسية.

في الوقت الذي تكون العربية اقرب الاداب الشرقية الى الذوق الالماني، فلو كنتَ لا تصدقني يا سيدي ! ارجو ان تقرأ ما كتبه اديبنا الكبير ( غوتة ) بهذا الخصوص – – سكتت لحظة ثمابتسمت وقالت : اعترف لك اني قرأت رواية الف ليلة وليلة باللغة الالمانية بانجذاب، فأعجبت بها كثيرا ولا تزال هي ادبي المفضل – لكنني الان متجهة الى التخصص في ادب الجاحظ، وزادت : قضيت في بغداد ثلاثة شهور، احببتها جدا، فقد انغمرت وسط زحام الطرقات اللامعقول وفيالضجيج المدوي حتى نسيت الوحدة والسكون – زرت خلالها المتحف العراقي الشهير وتكلمت مع الناس واعجبني حسن ضيافتهم، كما زرت آثار بابل والاخيضر والمدائن وصروح الحضارة القديمة التاريخية في محافظة نينوى وركبت في زورق وتمتعت بسحر شواطئ دجلة وروعة مناظر نخيلها الباسقة.

قلت لها : هل لي ان اسألك، لماذا تتعلمين العربية، وما سر انجذابك لأدابها يا انسة ؟ أجابت : انني احببت اللغة بعد دراستي الاولية لها، هذا الحب الذي ينساب الى قلب المشتاقبتوافق الظروف المتاحة عادة – – لم احس في الوهلة الاولى لقرائتي ما كنت اتوقعه، لكن بعد التكرار، شعرت وكأنها تركت في نفسي اثرا عميقا ادركته بعد حين – قلت لها اذن لماذا تشكين هواك ؟ – – ضحكت وقالت : اشكو صعوبة النطق وصعوبة الحصول على المراجع وندرة فرص السفرالى البلاد العربية لاستكمال الجوانب المتطلبة للمران اللفظي.

اعلمتها اني التقيت بطلبة الدراسات العربية في جامعة برلين الحرة. وهم يدرسون تاريخنا وثقافتنا وكلهم في موج الشباب وقد تزوجوا اللغة العربية زواجا كاثوليكيا، فاصبحت لغتهم الجديدةمهنتهم وميدان سباقهم ومستقبلهم المهني. انني اشعر تجاههم، شعور الانسان المغتبط. فهم عندي افضل رصيد في بلدان الغرب لتعريف ابناء اوربا بتاريخ الحضارة العربية وما انتجت للعالم يومذاك من العلوم والاداب والفنون الجميلة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here