لغتنا العربية وقوة الأيحاء الأجتماعي !

* د. رضا العطار

عام 1870 كانت فرنسا يتسلط عليها الامبراطور نابليون . وكان مفكروها يكرهون النظام الامبراطوري ويطلبون الغاء العرش . واعادة الجمهورية . فكان مما كتبه الاديب الكبير فلوبيرقوله : ان الشعب الفرنسي يتعلق بالامبراطورية لانه مخدوع بأسم نابليون. اي ان اسم نابليون الاول قد ترك في التاريخ رنينا ودويا، كانا لا يزالان يجدان الصدى في النفس الفرنسية. ولذلك فان كلمة – نابليون – كانت توحي الى الشعب حبا وتعلقا في غير مكانهما. لان نابليونالثالث لم يكن يستحقهما سنة 1870

وفلوبيرعلى حق, فإن للكلمات ايحاء سياسيا واجتماعيا ودينيا, فما هو ان ننطق بالكلمة او تخطر هي ببالنا حتى تنطلق طائفة من العواطف تحرك ارادتنا وتعين سلوكنا وتفكيرنا، وقد سبقان ذكرنا ان كلمات الدم الثأر والانتقام توحي وتحث البعض على اقتراف جرائم القتل خاصة في القرى والارياف.

كما ان كلمة شرق وشرقيين تحدث بين بعضنا صدودا عن الحضارة العصرية كأننا في حرب مع الاوربين. وان هذا الصدود يؤذينا في تطورنا . . ولا يزال عندنا من الكلمات والعبارات ما يوحيالينا ايحاء سيئا يتعارض مع الروح الديمقراطي الذي نرجو ان نعممه في المجتمع وفي الدولة والعائلة.

ومن ذلك مثلا قولنا – ابناء البيوتات الراقية – او عقيلة فلان – . ولكل كلمة ايحائها الذي يقوى او يضعف. وكثيرا ما ينعدم التفكير لأنعدام الكلمة. فإن المبشرين الذين عاشوا بينالقبائل البدائية او المتوحشة في مجاهل افريقيا كانوا يجدون مشقة عظيمة بل احيانا استحالة في شرح الديانة المسيحية. لان لغة هذه القبائل لم تكن تحتوي كلمات تدل على الله او الجنة او جهتم او النعمة او المجد او الصدق.

كثير من فضائلنا ورذائلنا يرجع الى الكلمات. فلو لم تكن هناك كلمتا الصدق والكذب لكان من الشاق علينا ان نفهم معانيها. وكلمة – الشماتة – توحي الينا اسوأ العواطف .

لنعتبر مثلا طبيبا وحشاشا يتحدث كل منهما عن الاعضاء التناسلية. فالاول يذكر كلمات لا تحرك عاطفته او تهكمه او سخريته, ولكنها تحرك ذهنه لانها كلمات تقود الى المعرفة. لكنالحشاش تذكره الكلمة بالعاطفة الجنسية او التهكم او السخرية. فالموضوع هنا واحد ولكن اختلفت معانيه باختلاف الكلمات التي تستعمل في وصفه. ومن هنا يجب ان نذكر ان كثيرا من توجسنا من الحب واختلاط الجنسين يرجع الى اننا نستعمل كلمات الحشاشين. سواء كانت فصحى او عامية. في وصف هذه العلاقات الجنسية بدلا من كلمات العلماء والمثقفين. ولذلك كلما فكر بعضنا في الحب او اختلاط الجنسين في الاجتماعات العامة, خطرت بذهنه كلمات توحي البذاء والعهر.

فأحدنا، المتعلم العصري حين يفكر في الاستجمام والراحة على شاطئ البحر واختلاط الجنسين, تخطر بباله الكلمات التالية : الهواء الطلق , الاوكسجين , السباحة , النشاط , المؤانسة , الرياضة , النحافة , الرشاقة.

بينما الرجل غير المتعلم غير العصري تخطر بباله كلمات اخرى : الارداف كالجمار , والصدر كبياض العاج , والوجه كوجه القمر , والرقبة كأريق فضة، والسيقان كالبلور، كلمات رخيصة تخطرببال الحشاشين. والتفكير على نمط تفكير الحشاشين. مما يسبب الصراخ بالعيب والعار في الظهور على شاطئ البحر .

الحب نفسه يتكيف بالكلمات التي تستعمل في وصفه او شرحه بين المحبين . فهو عهر وبغي بين الشباب , وهو كذلك بين الحشاش وزوجته, لكنه يرتفع الى الطهر والحشمة بين المثقفين الذينيستعملون الكلمات المهذبة, لكل ما يتصل باعضاء الخلود البشري.

والايحاء الحسن نجده في كلمات كثيرة , انظر الى قولنا في – الروح الرياضية – كيف تؤثر هذه العبارة كالسحر , وتبعث عاطفة حسنة في الشاب حين يجور ويغضب . انظر الى قولنا : يجب اننكون جنتلمان . فان هذه الكلمة الانجليزية تجمع من المعاني ما لم نوقف نحن الى ترجمته بأحدى كلماتنا ولذلك استعملت في لغتها الاصلية.

ولما خرجنا نحن من ظلام القرون الوسطى وجدنا من المعاني في اللغات الاوربية ما لم نجد ما يقابله في لغتنا. فاخترعنا الكلمات التي تؤديها . فقلنا : اسرة , تطور , وطنية , شخصية , دستور , ثقافة , ومسؤلية , وإخاء . فهذه الكلمات احاطتنا بجو حسن من التفكير العصري , يجعلنا نتابع تطورات العالم ونفهم مشكلاته. ولم تكن لهذه الكلمات التي ذكرناها معرفة في لغتنا او كان بعضها معروفا , لكنها لم تكن تحمل المعاني العصرية مثل كلمتي الثقافة والدستور , انها موجودة في معاجمنا لكننا لا نجد لها المعاني الحديثة.

اتذكر الجو السيء الذي يبعث التفكيرا السيئ في صبياننا عندما يخرجون الى الشارع ويسمعون الباعة الجوالين يشتم بعضهم بعضا بذكر الاعضاء التناسلية بكلماتها الفجّة

فإن الصبي ينشأ وهو متقزز من معاني هذه الالفاظ البذيئة . وهو عندما يبلغ الشباب , يجد ان علاقته بالمرأة مكيفة مصوغة الى مدى بعيد بهذه الكلمات . وهو يشقى بهذا .

والصبي حين يقرأ المجلات الاسبوعية , تعلق بذهنه كلمات من النكات الجنسية, تعين له السلوك الجنسي في المستقبل او تؤثر فيه ذلك. لان لكل كلمة ايحاءها الذي يندس في العقل الباطنويفعل فعله.

يقول كاتب السطور : استذكرت في هذا السياق مأساة سجين في العشرين من عمره, اوتي به الى مقر عملي في بغداد لفحص عينيه، كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي, كان المسكين محطم النفس،يعاني من ألم الندم و وخز الضمير تعذب روحه. حكى لي قصته دون ان أسأله. فهمت منه انه عندما كان يدرس في غرفته، تحضيرا لأمتحان البكالوريا، دخل عليه اخوه الصغير وبدأ يعبث بالراديو، فشعر بالانزعاج وأمره بالخروج، لكن دون جدوى، وكرر الامر مرارا, لكن الطفل لم يعر لهالتفات, فأنفعل وقال له مهددا ( لو ما تطلع بره راح اكسر رأسك ). لكن الطفل لم يفقه بل تمادى وتعنت في عبثه رغم تكرار الامر والتهديد, فما كان منه الا وفقد عقله، فمد يده الى الة حديدية كانت بقربة وهوى بها على راس اخيه الذي اسقطه ارضا جثة هامدة مضرجا بدمه. حدث كلذلك بتأثير قوة الايحاء الاجتماعي لعبارة (اكسر رأسك).

لذا يجب ان تكون لنا عادات في التفكير والاخلاق . ويجب ان نحيط ابنائنا بالكلمات المثلى . التي تبعث التفكير السليم في نفوسهم , يقودهم الى الفضائل . كما يجب علينا نحن الكبارالاّ نستسلم لأيحاء الكلمة, بل ننظر من خلالها الى المعاني المبطنة التي تضرنا وتحط من قدرنا , ناهيك انها تهدد حياتنا احيانا. فالتميز بين الكلمة الذاتية و الكلمة الموضوعية امر ضروري.

ليس هذا بالمجهود اليسير لكن من ينجح فيه, ومعظمنا ينجح في الكشف عن الكلمات وتحرّي محتوياتها من غموض ووضوح ومن خير وشر, ذلك لاننا نتسلم الكلمات من المجتمع منذ الطفولة فننشأعلى تصديق ما يقول به العرف عنها. ثم نقبل ما تبعثه فينا من عواطف ! فإذا شببنا اخذنا بها بقدر ما عندنا من ذكاء ناقد يخلصنا من بعض ايحاءاتها. وذكائنا الناقد محدود بالعمر، بينما الكلمات غير محدودة. اذ اننا ورثناها منذ الاف السنين.

* مقتبسمن البلاغة العصرية واللغة العربية لسلامه موسى مع تعليق لكاتب السطور.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here