في الطريق إلى شارع المتنبي

وئام ملا سلمان

مرت أيام قلائل على عودتي إلى الشتات الجليدي وما زلت في ذهول الصدمة أعيش رغم أحاديثي التي أطنبت بها في وصف بغداد الأخّاذة الساحرة رغم كل شيء! وأية صدمة هي التي ما حاولت تناسيها حتى يحضر ما يدعوني لتذكرها ، وكانت أغنية محمود أنور ” على عيني وعلى راسي” التي كتب كلماتها الشاعر كريم العراقي هي التي فكت لجام صمتي حينما كنت أشاهد عرضها عبر قناة العراقية ! إذ كانت النوارس تسبح في سماء بغداد عند ضفاف دجلة والزوارق العابرة حيث تخوم شارع المتنبي.
في ضحى الجمعة الثالثة من شهر كانون الأول “2018”كنا نستحث الخطى فوق جسر الشهداء قاصدين شريان ثقافة العراق لاستثمار يومنا بين ظهرانيه ، وفي خضم الحديث مع إبنتي زينب “التي لم تزر بغداد لأكثر من عشرين سنة” ومن معنا عن تاريخ الجسر وتسميته حتى طرق أسماعنا على بعد عشرات الأمتار جلبة وأصوات الطيور الحبيسة ، وحين اقتربنا أكثر ظهر لنا القفص ذو الطابقين والمحمول على عربة دفع ، والتي يستخدمها العتالون لتأدية مهامهم وكان القفص مكتظاً بصغار النوارس وكبارها التي تم اصطيادها وبأية طريقة وكيف؟ لا أدري!! خلتهم في البدء يبيعونها تأسياً بصفقات طائر الفلامنكو التي حدثت في العام المنصرم ولكن الأمر هنا مختلف ، لقد كان المشروع الاستثماري الذي تولاّه نفر من المراهقين والصغار هو تحرير رقبة النورس الواحد بمبلغ ألف وخمسمائة دينار عراقي لا غير، وكانوا يتعمدون على جعل صغار النوارس تستغيث وتتلوى وذلك بطي أجنحتها بقوة بين أيديهم عسى أن تنال حريتها على يد عابر سبيل ! والسابلة فوق الجسر يقفون ويتفرجون على هذا المشهد الوحشي ويمضون من دون أدنى اكتراث ولا من مستنكر له وكيف لي أن أصمت أمام هذه الوحشية السافرة ولا أدري كيف دنوت من القفص ورحت أفاوض وأساوم على تحريرها وعتق رقابها لأخلصها من أيدي إرهابيي جسر الشهداء وقد حررت ثلاثين منها ولم يساندني أحد من الواقفين ويشاركني المسعى وكنت أستشيط غضباً حتى لمحت عند طرف الجسر مفرزة شرطة لحماية المواطنين على ما يبدو ولا شغل لها بما يدور من صفقات تحرير لهذه الكائنات البريئة ، فقصدت المفرزة وكان ضابط الشرطة برتبة مقدم فبادرته بعبارة ” اعتبرني مخبله” نعم هكذا كررت عبارتي مرارا ولا أدري كيف كنت أبدو حينها أمامه ومن معه وما دار في خلده لحظتها ولكن المهم هو أنني أوصلت له ما أريد فأصدر أمره عبر جهاز اللاسلكي إلى سيارة النجدة للتصرف بالأمر، وقد مضيت إلى المتنبي بمزاج متعكر يكتنفني حزن عميق، وحينما عدت لم أرَ العربة ولا القفص ولا أدري إذا ما تكرر الحال في يوم آخر وهذا أمر وارد جداً.
إن عملية اصطياد الطيور وتحريرها لا يختلف بالمنطق عن فعل خطف وتحرير البشر من قبل عصابات الخطف والقتل بل هي واحدة من آثارها على البنية المجتمعية لدى الطبقات المسحوقة والتي تحرم اختطاف البشر بكل تأكيد ولكنها تحلل اختطاف الطير من أجل الحصول على لقمة العيش ! أسئلة تترى تدور في رأسي حول مستقبل هؤلاء الصغار والمراهقين وهم يتعاملون بهذه القسوة مع هذه المخلوقات الوديعة وما هو موقف علماء الاجتماع من هذه الظاهرة الغريبة العجيبة وكيف لنا أن ننتج أجيالاً متعلقة بأسدال الإنسانية تحب الخير والسلام و تعاف العنف وترفضه . ويبقى الوضع مرهوناً بيد السلطات المعنية ” برلمان ووزارات” التي من أول واجباتها توفير فرص تعليم وعمل تضمن العيش الكريم لهذه الشرائح التي تفننت في مصادر رزقها ،ولابد من وقفة جادة مساندة لجمعيات الرفق بالحيوان للحد من هذه الظاهرة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here