كيف ان الحضارة العربية تأثرت بالأداب الفارسية قديما ؟

(*) ح6 د. رضا العطار

لا شك ان القارئ قد لاحظ اننا بقينا نتحرك ضمن حدود الموروث الفارسي وحده، وعلى مدى ثمانية قرون : من اوائل القرن الثاني الى القرن التاسع للهجرة، اي منذ ابتداء (الانفتاح) على ثقافات البلاد المفتوحةالى بداية الانغلاق على الذات في وضعية طغى فيها الجمود على التقليد. لقد جعلنا من هذا الموروث عالمنا الجديد. اين كانت الموروثات الاخرى طيلة القرون الثمانية ؟ ألم يكن بينها وبين الموروث الفارسي اي تداخل او صراع او تنافس، خصوصا وكانت جميعا طيلة هذه المدة، ثقافةواحدة هي الثقافة العربية.

الواقع ان العلاقة بين نظم القيم التي عرفتها الثقافة العربية منذ انفتاحها على الثقافات الاخرى هي اكثر من علاقة التأثير والتأثر ، لقد كانت ولا تزال علاقة تنافس وصراع بين فعل يروم الى الهيمنة ورد فعلرافض لها. ويكفي ان يستعرض المرء الشعارات التي تزخر بها كتب التاريخ حتى يدرك ان الصراع بين نظم القيم في الثقافة العربية كان ملازما لجميع الصراعات السياسية والاجتماعية التي عرفتها البلاد العربية الاسلامية، منذ النزاع بين علي ومعاوية الى اليوم. بل ان كثيرامن اوجه تلك الصراعات كانت في الاصل عبارة عن صراع بين نظم للقيم، مختلفة متنافرة او متنافية بالمرة، ومع ذلك فبوسعنا ان نؤكد منذ الان ان القيمة المركزية في نظام القيم الكسروية قد فرضت نفسها كثابت بنيوي يخترق مفعوله جميع نظم القيم الاخرى.

صحيح ان الدولة في كل زمان ومكان تقوم على (الطاعة) او الولاء، ولكن ما يلفت الانتباه في التاريخ العربي الاسلامي هو تنامي الاتجاه نحو الطاعة الكسروية، اعني غير المشروطة، وغزو هذا النوع من الطاعة لجميعالموروثات الاخرى بما في ذلك الموروث الاسلامي (المحض) الذي لم يعرف في الاصل هذا النوع من الولاء.

اما الطاعة الكسروية فلم يعرفها العرب قبل الاسلام ولا المسلمون حين بناء الدولة. الطاعة الكسروية طاعة غير مشروطة لا تقتضي احتكاما لاية سلطة، فكسرى في هذه الحالة ينزل منزلة (الله ورسوله) لا بل يصبحهو الاله نفسه.

وهذا الارتفاع بالطاعة الى المستوى الالهي قد اتخذ طابعا جديدا تماما مع ظهور فكرة الوهية (الامام) لدى بعض الفرق الشيعة.

ان الاستنجاد بالقيم الكسروية من طرف كتاب الدواوين للدفاع عن سلاطينهم، بما في ذلك توظيف الدين في السياسة، كان عملية سياسية سافرة. وبوسعنا الان ان نشير الى ان هذه العملية كانت في الحقيقة متزامنةمع عملية اخرى لجأت البها بعض قوى المعارضة للامويين، خصوصا بعد مقتل الحسين بن علي بن ابي طالب على يد يزيد بن معاوية.

وقد كانت هذه القوى المعارضة هي السباقة الى الاستنجاد بقيم الموروث الفارسي نفسه، القيم التي كانت تضاد وتنافس القيم الكسروية في موطنها.

اذا نحن عدنا الى ذلك الوقت الذي اخذت الدولة الاموية تتبنى النموذج الفارسي وتعمل على نقل مظاهره وقيمه الى الساحة العربية الاسلامية، وكان ذلك زمن هشام بن عبد الملك. اما المعارضة قبل هذا التاريخ،كانت تستقطبها ثلاث تيارات : الشيعة والخوارج والقدرية، وهم سلف المعتزلة. ولم تكن اي منها توظف اية عناصر من الموروث الفارسي. بل لقد اقتصرت على الموروث العربي.

وما نريد ابرازه من التذكير بهذه المعطيات هو ان النموذج الفارسي قد فرض نفسه ليس فقط على مستوى القيم الكسروية التي تبناها ملوك الامويين، عن طريق كتًاب الديوان بل فرض النموذج الفارسي نفسه كذلك علىمستوى القيم المعارضة للقيم الكسروية. فالعلويون الشيعة الذين تزعموا حركات معارضة مسلحة ضد الامويين كانوا يوظفون نفس القيم التي اعتمدتها الحركات المعارضة للكسروية في عقر دارها.

هكذا تشكلت صورة (الامام) لدى الشيعة الذي يعلو على (الخليفة) ولا يعلى عليه. الخليفة او كسرى، يحكم الابدان ويتصرف في الارواح بواسطة رجال الدين الرسميين. اما (الامام) فيحكم النفوس ومن خلالها يحكمالابدان، والمطلوب من الناس (الرعية) في كلتا الحالتين : الطاعة، فطاعة الخليفة / كسرى، او كسرى / الخليفة، يبرر بكونه ظل الله على الارض، فطاعته من طاعة الله . . . اما (الامام) فهو وارث اسرار الدين، لا بل وارث النبوة، بل هو الاله الذي حلً كله او جزء منه في جسمبشر، فطاعته هي نفسها طاعة الله. على هذا الاساس قامت ايديولوجيا (الامامة) الشيعية والاسماعيلية خاصة . . . (الامامية) التي تكرس قيم الاخلاق الكسروية نفسها وبمفعول اقوى واعمق، ولذلك ليس غريبا ان تتطابق هذه القيم وتلك في الدولة الفاطمية. دولة السلاطين / الأئمة.

فيدًعي احدهم الألهية (الحاكم بأمر الله الفاطمي) من 386 الى 411 للهجرة كما يحدثنا التاريخ.

* مقتبس من كتاب نقد العقل العربي ـ العقل الاخلاقي العربي لمؤلفه د. محمد عابد الجابري، الطبعة السادسة دار النهضة الحمراء، شارع البصرة بيروت 2014 .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here