قراءة في رواية داعشتاين ، مخلوق السعير والمصير،للروائي جاسم المطير

ذياب فهد الطائي
صدرت الرواية عن مؤسسة أوطان للنشر والتوزيع في القاهرة عام 2018 بحوالي 400 صفحة من القطع الكبير ,والرواية هي اخر منجزأدبي للمطيري
ومن العنوان نستنتج ان الرواية تتعلق بتنظيم الدولة الاسلامية (داعش ) وهي استجابة موضوعية لتسجيل ورصد ظاهرة داعش بعد ان احتلت مكانا في الفكر والثقافة العربية والاسلامية وتمكنت من تطبيق رؤيتها للنظام الاجتماعي والسياسي الذي تتبناه والذي برهنوا (في نينوى والرقة والفلوجة وكوباني إنهم يكرهون كل شيء حي ….يكرهون بعضهم بعضا …يكرهون الانسان أكثر مما يكرهون الحيوان)
لقد استثار سلوك داعش القائم على نظرية التوحش في المناطق التي تمكنت من السيطرة عليها في العراق وسوريا ،عددا كبيرا من النخب المثقفة وعلى الخصوص الروائيين منهم فتصدوا لرصد الظاهرة وتسجيل سلوكها المتطرف واساليبها الوحشية ، فكتب الروائي وارد بدر سالم (عذراء سنجار )وهاجر عبد الصمد (حبيبي داعشي ) واسماء وهبة (راقصة داعش ) وعبد الجبار المدوري (الليالي السود )ولدانيال سلفيا (الارملة السوداء ) ومصطفى محود عوض (أيام داعش)
وقد استلفت نظري ان هؤلاء الكتاب وهم على امتداد الوطن العربي ليس فيهم روائيين من الصف الاول كما يقال ،فلم يكتب محمد خضير ولا عبد الرزاق الربيعي او يوسف القعيد ، جمال الغيطاني ، واسيني الاعرج ،مثلا ،وكانت الروايات التي اسلفت ذكرها تتحدث باساليب متفاوته في تقنياتها السردية عن التوحش الداعشي دون ان تعرج على تحليل الظاهرة والكشف عن جذورها الفكرية والاجتماعية ،مع ادراكي ان هذه المسارات في الرواية تتطلب اساسا فكريا يتكئ على مرجعية في رؤية عميقة لجدلية الاحتكاك بين الاضداد الاجتماعية وحركتها في مسار التاريخ، وهنا تكمن نقطة الاختلاف الاساسية بين رواية المطير والاخرين ،فهو يمتلك ذاكرة مليئة بالشواهد التاريخية ، ورؤية تأخذ بالمسار الماركسي في فهم التاريخ،ولكن ذلك الخزين الكبير لا يمثل الا دور (الدليل ) الذي يعرف الطرق والدروب ولكنه لا يلزمك بواحدة منها ، انه يقدم لك فرصة الاختيار ،من هنا كانت معاناة ،( المطير)وهو يفحص بعناية موضوعه،
حريصا على ان يقدمه بما يتيح للقارئ أن يتفاعل معه وان يأنس الى الخيال الموازي للواقع الذي رسمه المؤلف بعناية ،وهذا ما نسميه صناعة الرواية ، وهوالجزء الاكثر مشقة في عملية السرد الروائي.
ومن اجل الدخول في تحليل الرواية ،لابد من الاشارة الى أن هذا يستدعي تفكيكها للوقوف على عمق الفكرة و دقة السرد وترابط الموضوع ، وهذا لن يفقدها خصوصيتها الجمالية التي تتمتع بها بحكم ما يتمتع به الروائي المطير من مواصفات واشتراطات في كتاباته الروائية عموما.
نقف أولا عند العنوان (داعشتاين ) في هذا الاختيار تتمثل قصدية المؤلف في حكمه على هذه الظاهرة بأنها ليست نباتا شيطانيا ظهر في المشهد السياسي في الشرق الاوسط ، وانما هي نباتا حقليا زرع بعناية فائقة وربما يكون قد أستنبت اولا في مزارع زجاجية لضمان ترعرع النبتة ، قبل نقلها الى مزارع السياسة في الشرق الاوسط ،وهذه النبتة هي مخلوق السعير الذي حصد أرواح عشرات الالاف من البشر وتعمد تدمير معالم التاريخ والحضارة ، هنا يقدم المطير هذا المخلوق كما هو (يتحرك بسرعة ، يتحرك بتوتر ولكن بهدوء ،يتحرك بضغط شديد يصعب معه أن يبقى أي مخلوق حيا اذا قاوم هذا الضعط …تحرك الجميع بطاقة وحشية ، تملك قوة الاضطراب وتخريب كل شيء يقف مواجها ، بل كانوا على استعداد حتى التحليق في الجو لإحراق المدينة كلها، بموجوداتها وسكانها ورميهم بجحيم السعير)
وفي بنية الرواية يمكن تشخيص ما يلي:
1-ان زمن الرواية هو زمن دائري ابتعد عن الزمن الخطي في الرواية الكلاسيكية
2-ان البنى السردية في الرواية والتي استخدمت الحوار باقل مساحة ممكنة في فضاء الرواية كانت حريصة على البعد التراكمي في التقاط المواصفات التي اختص بها تنظيم داعش وزعيمه دون ان تفقد توهجها السردي.
3-ان توظيف التاريخ (رحلة شهرزاد على بساط الريح ) يحمل دلالة لا يمكن ان يتجاوزها القارئ المتفاعل (المثقف )، وتكمن هذه الدلالة في الكشف عن مفارقة بين الماضي المترف المفعم بالسلام والنشاط والحاضر الذي يعيشه العراق ،تقول شهرزاد (ما أثار استغرابي واستغراب الكابتن هو اننا شممنا عبرعباب الفضاء الفسيح رائحة غريبة عجيبة تأتي من الأرض الى السماء،رائحة كريهة خانقة ، قوية جدا ،لا أدري أهي رائحة دماء موتى أم رائحة روث ماشية ……ربما رائحة من جهنم تقيد أنفاسي بالضيق والالام)
4-اقتصر المؤلف شخوص الرواية الفاعلين على عدد محدد: ابرزهم أبو بكر البغدادي وعائشة وشقيقها الوليد بن غانم ، والممرضة مريم ، كما جعل من شهرزاد الراوية الرئيسة لأحداث الرواية ولكنه لم يهمل (الراوي )العليم فاسند اليه دورا ينسل اليه بهدوء ودونما ضجة بسلاسة روائي محترف.
5-ان الرواية ببنيتها التي كتبت بعناية وبتركيز يمكن اضافتها الى روايات الحداثة .. وهي ترقى إلى التجريب الذي تؤديه آداب ما بعد الحداثة، التي تقوم على فكرة الاستحواذ على الأصل والتنويع على ثيماته،فقد اعتمدت اسلوبا سرديا غير مطروق (كما اعلم )ولم تلجأ الى استخدام تقليدي لموضوعها من ناحيتي السرد والمضمون ،قام الروائي المطير بعملية وصف لما يجري دون الاعتماد على حدث يجري متابعة نموه وفقا لما يسمى بالحبكة الروائية،متنقلا بين فنتازيا التكنولوجيا الحديثة التي يقوم شهريار باستخدامها وحكايات شهرزاد الباريسية،
وقام المؤلف باستعراض موضوع الرواية عبر 50 بيانا ثم عاود الترقيم من جديد ليبدأ من البيان رقم 1 وبعنوان من جمعية الذئاب الجائعة ،حيث ينتقل الى حكاية فرعية عن مريم وصديقها عبد الحميد المراكشي،ثم دخول مريم الى بيت عائشة ممرضة.
6-تطرح الرواية عبر عملية سرد متماسك تساؤلا هاما حول بنية السرد في هذه الرواية بالذات ،لأنها تقف متميزة في المشوار الروائي للمؤلف،وهذا يتطلب دراسة مسألة غاية في الاهمية في عمل الروائي المحترف وهي كيف تعامل مع ادواته الفنية ،(فهذا النوع من الدراسة هو الأقدر على إظهار إمكانات الكاتب الفنية؛ نظراً لتنوع التقنيات الفنية بتنوع العناصر البنائية المكونة من: حدث، وشخصية، وراوٍ، وزمان، ومكان).
لقد تناول الباحث موضوع روايته عبر السرد الذي اعتمد على الوصف وتجنب الحوار إلا في أضيق الحدود ،معتمدا على مهاراته الصحفية ليجنب القارئ ملل السرد التقريري كما انه حرص أن لايبدو ملتزما بايدلوجية معينة رغم ان القارئ المتمعن يمكن ان يكتشف الخيط الخفي الذي يشد الرواية الى الاسلوب الماركسي في التحليل للمواقف الاجتماعية .
7-إن رواية (داعشتاين)تقدم تحليلا لنشوء وتطور (الدولة الإسلامية ) كما انه يكشف عن السلوك الشخصي لقادة هذا التنظيم ،على نحو تنوع فيه السرد وتكشفت فيه الأسرار الداخلية للتنظيم ،وفي حديث المؤلف عن ما يمكن ان يسببه التنظيم من مخاطر لاوربا والعالم الغربي ، استعان بشخصة جون برنار
التي وظفها ليكشف الخطر العالمي الذي يمثله هذا التنظيم ، وفي تقديري فان هذا التوظيف التفاتة ذكية من المؤلف ليستعين بأكاديمي غربي وليس بمنظر عربي وذلك لإبعاد الإتهام بالانحياز ، يشرح برنار في محاضراته أمرين:
الاول: يتعلق بخطر التنظيم ودخول بلدان اقليمية في اللعبة الطائفية مما يساعد التنظيم على ايجاد حواضن تعاونه في أعماله الوحشية ،واشار بالاسم الى كل من ايران والسعودية وتركيا و تدخلها المباشر في الحياة العراقية الداخلية
الثاني :وجودالمهجرين من البلدان العربية والاسلامية في اوربا وهم يتمتعون بما توفره بلدان المهجر لهم ، ولكنهم يرفضون عادات وثقافة تلك البلدان ،وعدم فهم طبيعة الحياة الغربية ومرتكزاتها الفكرية والفلسفية ،تجعل معظم ازلئك المهجرين يعيشون في عزلة ويقتاتون الصمت في لياليهم.
8-لم يغفل المؤلف تقديم دراسة وافية عن الشخصية الرئيس في الرواية (أبو بكر البغدادي )، في مواضع متفرقة في النص السردي (الرواية ) أورد ا لمؤلف صفات تلك الشخصية)
:8/1 -انه حذر ويتمتع بقدرة قيادية
8/2 -انه مهووس بالامتلاك ،وهو يفكر بالطرق التي يجب عليه سلوكها لتغيير قناعة الشخصيات التي يرغب ان ترتبط به،وحينما قرر ان يرتبط ب(عائشة ) كان كل همه (كيف يخلصها من عاداتها المتمسكة بها ) ويقصد السفور وايمانها بالحرية كحق لكل انسان ،وعائشة هنا النموذج المضاد ،فهي منذ دراستها الثانوية ،كانت تحدث زميلاتها عن عشقها للحرية ،وترفع شعار لاحب حقيقي بدون الحرية.
8/3-كان واثقا وعلى نحو مطلق بأنه (المعّد ) لأن يقود الامة الاسلامية وفي ذهنه طريقة واحدة لا بد من استخدامها بكل صرامة وتوحش ، وكانت عائشة هي الوحيدة التي ادركت خطورة نجاحه في الوصول الى السيطرة على مدينة الموصل حين اخبرتها امها بما حصل ،وهي الوحيدة ايضا التي عزت قدرته على ذلك الى سبب موضوعي يتعلق بغفلة العراقيين ،ولكن المؤلف وعبر شهرزاد ، كان يطرح تفصيلا اكثر اقناعا (التاريخ الطويل للتضليل الذي مارسته قوى الدين السياسي ،مخابرات اجنبية ،مصالح اقليمية متناقضة ،تراجع القوى العلمانية بسبب سياسات التصفية الجسدية لمعظم قياداتها).
وأخيرا فان الرواية كنص مفتوح، تسمح بطرح اسئلة اخرى يمكن البناء عليها في الوصول الى تنويعات في مسارات ممكنة ، كما إنها شكلا تجريبيا جديدا في السرد العراقي الحديث ويمكنني التأكيد على انها ستكون موضع دراسات نقدية واسعة .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here