كيف ان الحضارة العربية تأثرت بالأداب الفارسية قديما ؟ح7

ح7 (اقتباس) د. رضا العطار

وصفنا القيم التي روجها الموروث الفارسي بكونها قيما كسروية وقد عنينا بذلك ان السلًم الذي ينظم هذه القيم، ينطلق من (كسرى). كسرى الذي يخدمه الكل، ولا يخدم هو احد، والذي يجعل نفسه ـ عند الحاجة ـ وسيطا بين الله والناس.
اما القيم الاخرى فهي تندرج نزولا من اقرب الناس إليه (الوزير والكاتب، او المريد والتابع) الخ الى من يعبر عنه في هذا النظام من القيم ب (سفلة العامة)، والغالب ما تأتي (النساء) في اسفل هذه (السفلة). اقول النساء ـ بالجمع ـ ولا اقول (المرأة) بالمفرد. لان (المفرد) الوحيد في نظام القيم الكسروية هو (كسرى) وحده لا شريك له. تماما مثلما ان (الفرد) الاحد في ميدان الالهية هو الله الذي لا إله إلا هو. اما الباقي ف (جمع) او اسم جنس لجمع (قوم) (قبيلة) (طبقة) طائفة، رعية، ناس، وايضا جماهير الخ. انها (اخلاق الطاعة) التي لا يكون لها معنى الاً اذا تعلق الامر بطاعة الجماعة للواحد الفرد. اما طاعة فرد لفرد، او طاعة فرد لجماعة، فليس مما يقبله النظام الكسروي هذا.

الحق ان ما يلفت النظر في هذا النظام الكسروي، وفي الآداب السلطانية المعبرة عنه، هو غياب الانسان ك (فرد) بل غياب مفهوم (الانسان) نفسه. ذلك لان من اسس هذا النظام من القيم التعامل مع ما دون (كسرى) على اساس ان الامر يتعلق بطبقات وليس بأفراد، طبقات من النوع الجيولوجي وليس من النوع الاجتماعي المعاصر : طبقة الحاشية والوزراء والكتاب، وتحتها طبقة رجال الدين، وتحتها طبقة الجند . . وتحت الجميع طبقة الزراع والصناع والمهان!
الفرد البشري ليس قيمة ولا له قيمة . . .

والسؤال الان : لماذا غُيب الفرد في هذا النظام ؟ او بعبارة اخرى : لماذا كان هذا النظام من القيم نظاما كسرويا بهذا الشكل : نظاما يحتكر فيه كسرى مجال الحضور ؟ كل شيء يدور حوله على شكل دوائر وحلقات، الجند، الوزراء، رجال الدين، الخاصة، العامة. وكل (الادب) يتحدث عنه : صحبة السلطان، طاعة السلطان، (عدل) السلطان الخ.
النصوص الفارسية في (الادب والحكمة) تنشغل بالسلطان. ليس فقط في المجالات الذي ذكرنا بل في مجال الحكمة ايضا. فما من سؤال في موضوع اخلاقي إلا ويكون كسرى من بين (الحكماء) الذين يطلب منهم الجواب.
كل شيء يدور حول كسرى، وكسرى حاضر في كل شيء، يزاحم حضوره في وجدان الفرس حضور الله،
والحق ان (الدين والملك) كانا توآمين فعلا، ليس في النظام السياسي الاجتماعي للدولة الساسانية وحسب، بل في قلوب رعاياها ايضا، وذلك الى درجة ان احدهم لو اعلن انه يعبد كسرى لما اثار استهجانا من احد. ومن هنا كانت طاعة كسرى وطاعة الله من الامور (البديهية) التي لا تكون موضوع نقاش.
هذا عن الوضع في الدولة الساسانية، فكيف ولماذا استنسخ هذا النموذج ليكون احد المصادر الاساسية للقيم الاخلاقية والسياسية في الدولة العربية الاسلامية ؟

لقد بينا كيف ان (خطاب الطاعة) قد روجه كتاب الدواوين البارزين من امثال عبد الله بن المقفع وعبد الحميد في اواخر الدولة الاموية. وكيف ان هذين الكاتبين وجدا مرجعيتهما في الموروث السياسي الفارسي، الذي بدأ الاهتمام به في البلاط الاموي منذ زمن عبد الملك بن مروان الذي اتسع ليشمل نظام البلاط الفارسي وثقافته زمن هشام أبنه، كان الدافع في البداية هو وصول الدولة الاموية ـ في عملية الانتقال من (خشونة البداوة) الى ( رقة الحضارة) بتعبير ابن خلدون ـ الى مرحلة من التطور والنمو صارت تشعر معها بالحاجة الى ما يعبر عن هذه الدرجة من الرقي.

بمعنى ان الامويين كانوا قد ورثوا بالفعل الدولة الساسانية وحضارتها، ورثوا ارضها وسكانها وكل شيء فيها فلم تعد تشكل (الاخر) بالنسبة لهم كما كان الشأن بالنسبة للروم البيزنطيين، كانت علاقة الامويين مع هؤلاء علاقة حرب، اما علاقتهم مع الفرس فقد صارت بمثابة علاقة شخص بقريبه، بل بصورته في المرآة.

إذن كانت هناك ظروف موضوعية وذاتية هي التي املت القيم الكسروية في فارس اولا ثم في الدولة العربية الاسلامية، هذه الظروف هنا وهناك هي التي غيبت (الفرد) كقيمة في ذاته، القيمة هي الدولة وليس الفرد، الفرد لا قيمة له، هو مجرد جزيئة في احد مكونات الدولة، الطبقات، ومن هنا كانت الاخلاق واحدة من ثلاث :

اما اخلاق السلطان، واما اخلاق الخاصة واما اخلاق العامة. اما اخلاق السلطان فتقوم على التفرد والتعالي، واما اخلاق الخاصة فتقوم على الخدمة والحذر، وإما اخلاق العامة فتقوم على الطاعة والصبر.

لقد انتقلت هذه الاخلاق الى الثقافة العربية بدافع الحاجة اليها، حاجة الدولة العربية الناشئة التي تحولت بفعل ظروف داخلية من (خلافة راشدة) الى ملك عضوض، حاجتها الى نموذج في (الملك) تقتدي به. وسواء كان ذلك خيرا او شرا، فإن النموذج الفارسي الذي قضى العرب على حامله، الدولة الساسانية، هو الذي سيؤخذ به، او سيفرض نفسه على الدولة العربية الاسلامية . . وقد تم تسجيلها والتعبير عنها ـ عبر قرون ـ في نصوص اعتبرت نصوص ادبية مقدسة. جمعت بين (ادب اللسان) و (ادب النفس) . . . لقد جُمع معظم هذه النصوص في كتب خاصة في عهد كسرى انوشروان، آخر ملوك الساسانيين، وكأن القدر اراد بذلك ان يورثها للدولة القادمة، الدولة العربية الاسلامية، التي ستحل محل دولة الفرس عام 21 للهجرة، فكانت تلك النصوص من اول ما ترجم ونقل من (الموروث القديم) كله، وبالتأكيد كانت اول ما ترجم ونقل في ميدان (الاخلاق والسياسة).
الحلقة التالية بعد اسبوع !

* مقتبس من كتاب نقد العقل العربي ـ العقل الاخلاقي العربي لمؤلفه د. محمد عابد الجابري، الطبعة السادسة، دار النهضة الحمراء شارع البصرة بيروت 2014 .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here