دروس أخلاقية من عملية تشكيل الحكومة السويدية

ساهر عريبي
[email protected]

وأخيرا فاز المرشح لرئاسة الحكومة الجديدة في مملكة السويد ستيفان لوفين بعدم معارضة ألأغلبية النيابية لتكليفه تشكيل الحكومة , بعد مرور 131 على إجراء الإنتخابات في شهر سبتمبر من العام الماضي, التي لم تفرز حزبا او تحالفا يحظى بالأغلبية النيابية, لكنها أسفرت عن فوز أحد الأحزاب المعادية للمهاجرين (حزب الديمقراطيين السويديين) بقرابة 20% من مقاعد البرلمان البالغة 349 مقعدا أدى الى تعقيد المشهد السياسي في البلاد بعد أن أراد هذا الحزب ان يلعب دور بيضة القبان في التشكيلة الحكومية الجديدة.

لكن الأحزاب السياسية السويدية, اليمينية منها واليسارية رفضت التحالف مع هذا الحزب من أجل تشكيل الحكومة وكان من الممكن لأي من التحالفين أي الإشتراكي والمحافظ أن ينهض بأعباء تشكيل الحكومة بكل يسر لو تحالف مع هذا الحزب. فعند النظر الى الخارطة النيابية التي أفرزتها الإنتخابات الأخيرة فيمكن ملاحظة أن الحزب الإشتراكي الذي يتزعمه رئيس الوزراء الحالي ستيفان لوفين فاز ب 100 مقعد واما حليفه حزب البيئة فحصل على 16 مقعدا فيما نال حزب اليسار 28 مقعدا, وبذلك يكون مجموع مقاعد احزاب اليسار 144.

وبالمقابل فإن أحزاب اليمين ويمين الوسط وهي كل من الحزب المحافظ والديمقراطي المسيحي والوسط والأحرار فازت ب 70, 22, 31, 20 على التوالي, وبذلك يكون مجموع مقاعد اليمين 143 أي أقل من تحالف اليسار بمقعد واحد. وكانت المفاجئة أن الحزب الذي يوصف بالعنصري فاز ب 62 مقعدا , مما وضع الحزب في وضع تفاوضي قوي إذ أصبح أمر ولادة الحكومة رهن يديه ومتوقف على خياره في التحالف مع احد التحالفين لترجيح كفة أحدهما.

غير أن تحالف اليسار اعلن وبكل وضوح انه ليس بصدد التحالف مع هذا الحزب أو حتى الإستجابة لبعض مطالبه ودون إعطائه منصبا في الحكومة. وهنا لابد من الإشارة الى ان الأحزاب في السويد عندما تدعم رئيس وزراء ما فإنها لاتشترط مقابل ذلك الدعم الحصول على وزارات بل في كثير من الأحيان تشترط موافقة الحكومة على تشريعات تتناسب مع آيديولوجيات تلك الأحزاب وطروحاتها التي تعرف بها في اوساط الناخبين , وعادة ماتتمحور تلك التوجهات حول مواضيع الضرائب والهجرة والعمل والبيئة.

وقد طغى موضوع الهجرة على مفاوضات تشكيل الحكومة مما أدى الى إقصاء الحزب المعادي للمهاجرين من مفاوضات تشكيل الحكومة, لأن توجهات الحزب تتعارض مع المبادئ الأساسية لجميع الأحزاب السويدية , سواء اليمينية منها او اليسارية. فهذا الحزب رفع شعارات متشددة مهددا بطرد المهاجرين من البلاد وارجاعهم الى بلدانهم. ومثل هذه التوجهات تتعارض مع النهج التاريخي في السويد القائم على استقبال المهاجرين الذي يعانون من الإضطهاد, فقد استقبلت السويد أكثر من مليون مهاجر خلال العقود القليلة الماضية بالرغم من أنها بلد صغير يبلغ تعداد نفوسه 9 مليون نسمه.

وتكلف عملية استقبال المهاجرين خزينة الدولة مبالغ هائلة لأنها توفر لهم السكن الملائم والعيش الكريم والتعليم والرعاية الصحية المجانية. وقد أثارت هذه السياسات الكريمة غضب التيارات الشعبوية التي نمت في اوروبا مؤخرا, والتي ألّبت بدورها الشارع على المهاجرين وبأنهم يمثلون عبءا على الدولة بالرغم من أن الكثير منهم تحول بمرور الوقت الى عنصر فاعل في المجتمع وخاصة الجيل الثاني والثالث من المهاجرين.

ونتيجة لذلك بدأت الأحزاب السويدية مفاوضات شاقة لتشكيل الحكومة بعيدا عن هذا الحزب العنصري. لكن كلا التحالفين فشل في نيل ثقة البرلمان لتمرير مرشحه. فقد فشل رئيس الوزراء الحالي في نيل ثقة البرلمان عند تكليفه أول مرة وكذلك فشل زعيم اليمين كريسترسون. ويعود هذا الفشل الى أن الحزب العنصري صوّت ضدهما او أعلن عدم تأييده لهما. وهنا لابد من التوقف والتطرق الى كيفية حصول رئيس الوزراء المرشّح على ثقة البرلمان.

فاالعملية مختلفة في السويد عما هي عليه في بلدان أخرى, إذا لايشترط حصول المرشح على ألأغلبية المطلقة أي 175 مقعدا بل ألا تعارضه الأغلبية المطلقه , إذ لو عارض تكليفه 174 نائبا ومنحه الثقة نائب واحد مثلا وأمتنع عن التصويت 174 نائبا فإنه يصبح رئيسا للوزراء! ,مما يجدر ذكره بان كلا التحالفين لم يحاول شراء أصوات نواب بعضهما كما ولم ينتقل أي نائب بين التحالفين لأن هذا امر مستحيل وقوعه لأن المبادئ هي الحاكمه وليست الأموال والمناصب. حتى وصلت الأمور الى طريق مسدود وبات خيار إجراء إنتخابات مبكرة هو المرجّح , لكن الأحزاب لا تحبّذ هذا الخيار لأنه مكلف لخزينة الدولة ويعكس هدرا من الأحزاب لموارد البلاد مما يثير غضب الناخبين.

وبعد الوصول الى هذا الطريق المسدود لوّح زعيم اليمين بإمكانية التفاهم مع الحزب العنصري ولكن دون اشراكه في الحكومة, لكن هذا الطرح ووجه بفيتو من حزبي يمين الوسط وهما كل من الوسط والأحرار اللذان أعلنا بأنها سيصوتان ضد زعيم اليمين في حال تفاهمه مع الحزب العنصري وحتى دون اشراك الأخير في الحكومة وتعهده مثلا باتباع سياسة متشددة ضد المهاجرين. لقد أدى هذا الموقف الى سد الطريق امام حزب المحافظين لتولي الحكم.

ونظرا لأن حزبي الوسط والأحرار يعتبران من احزاب يمين الوسط فإن الطريق مفتوح امامهما للتحالف مع الحزب الإشتراكي وحزب البيئة. واما المقصود من التحالف فهو ليس المشاركة في الحكومة ولا إعطاء أصواتهما لها وإنما عدم معار ضتها عند التصويت مقابل الموافقة على بعض سياساتهما التي لا تتعارض مع مبادئ الحزب الإشتراكي, وهو ماحصل. وقد نشرت بنود التوافق امام الجمهور ولم تعقد خلف الكواليس .

وقد حصل رئيس الوزراء الملكلف ستيفان لوفين على تأييد 115 نائب فيما عارضه 153 نائبا وامتنع 77 عن التصويت فيما تغيب أربعة نواب بداعي السفر. وبذلك أصبح لوفين رئيسا للوزراء بالرغم من انه لم يحصل الا على تأييد أقل من ثلث أعضاء البرلمان, وقد امتنعت أحزاب كل من الوسط والأحرار واليسار عن معارضته بالرغم من عدم حصولها على أي منصب حكومي مقابل تمرير حكومته! فما يهم هذه الأحزاب هو برامجها فحزب اليسار مثلا يضع في سلم أولوياته تحسين اوضاع الطبقة العامله فيما يريد حزب الوسط تحسين اوضاع الشركات الصغيرة والإهتمام بالبيئة وأما حزب الأحرار فاشترط وقف إعطاء تراخيص لتأسيس مدارس دينية وتوفير فرص عمل للمهاجرين الجدد اضافة الى تقليل بعض الضرائب.

واما القاسم المشترك بين هذه الأحزاب فهو تحجيم نفوذ الحزب العنصري في السياسة السويدية وهو ماحصل, فهذا الحزب الذي فاز بعدد كبير من المقاعد بات وجوده في البرلمان من عدمه سيّان مع إتفاق هذه الأحزاب التي سيشكل حزبين منها فقط الحكومة وهما الإشتراكي والبيئة بالرغم من أن عدد مقاعدهما 116 مقعدا فقط.

تبدو الدروس المستخلصة من التجربة الإنتخابية السويدية غنية بالقيم والمبادئ الأخلاقية واولها أن جميع الأحزاب تضع مصلحة البلاد فوق مصلحتها الحزبية فهي تتحاشى إعادة الإنتخابات لأنها تكلف خزينة الدولة, وثانيها ان الأحزاب لا تتنازل عن مبادءها من اجل الحكم, وثالثها أنها لا تحاول شراء نواب من احزاب اخرى , كما وأن إنتقال نائب من حزب لآخر يبدو شبه مستحيل لأنه سيعكس إنتهازية يعاقبه عليها الناخبون وتعني القضاء على مستقبله السياسي, ورابعها أن الأحزاب لا تعقد إتفاقات وراء الكواليس ودون ان تطلع الناخبين عليها بل تتمتع باعلى درجات الشفافية ,وأخيرا فأنها تدعم المرشح وإن كان من غير حزبها ليس مقابل منصب حكومي بل مقابل تنفيذ بعض برامجها.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here