ذكرى مرور 40 سنة على الجناية التي جنتها سلطة البعث في تهجير مليون عراقي الى ايران باسلوب همجي تجاوز حدود الخيال.

مذكرات د. رضا العطار

بدأ صدام حسين بتهجير زهاء مليون مواطن عراقي عربي وكرد فيلي الى ايران سنة 1979، بحجة انهم منحدرين من اصول فارسية. علما ان جدودهم كانوا نزحوا من هناك الى ارض الرافدين قبل عقود متمادية من الزمن، واستقروا فيه. وعند تشكيل الحكومة العراقية عام 1921، اكتسب هؤلاء جميعهم تقريبا الجنسية العراقية، ولم يبقى لهم ما كان يربط اسلافهم بالارض التي خرجوا منها شيئا، فقد اصبحوا بحكم الواقع والقانون، عرب مستعربين.

فقد درس اطفالهم في مدارس العراق وخدم شبابهم العلم وانخرطوا في وظائف الدولة، فكان منهم رجال في السلطة مرموقين و اساتذة جامعات بارزين وضباط بواسل كبار والكثرة الكثيرة من التجار الذين كانوا يدفعون بعجلة الاقتصاد العراقي دوما الى الامام، حقا انهم كانوا يشكلون الجانب العريض من النسيج الاجتماعي العراقي المتماسك.
علما ان القانون الدولي يعتبر التهجير القسري، جريمة ضد الانسانية ! .

لكن تباغت الشعب يوم السابع في نيسان عام 1980 بحدث رهيب، عندما دبرت مخابرات النظام مكيدة ضد تجار الشيعة الكبار، ذوي الشأن والمال. فقد دعتهم للحضور في غرفة تجارة بغداد، مصطحبين معهم كل ما بحوزتهم من وثائق ثبوتية تتعلق باجازات الاستيراد وما لهم من اموال وعقارات منقولة وغير منقولة. كان عددهم زهاء سبعمئة تاجر معروف، معظمهم من بغداد.
وزعمت السلطة الغشيمة ان الغاية من حضورهم، تجديد اجازات الاستيراد، لكن الحضور فوجئوا بان الشرطة تحيطهم من كل جانب، تجبرهم على الخروج، والركوب في مركبات خاصة ثم سارت بهم بأتجاه الحدود الايرانية، ولما بلغت نقطة معينة توقفت، وإذا بمرتزقة النظام تامرهم بالنزول و الدخول الى البلد المجاور، مهددين اياهم بالرمي ان تمرًدوا، بعد ان جُرّدوهم من هوياتهم وما يملكون. وقد قُدر ما استحوذ عليه الارهاب الحكومي من ثروات منهوبة، بعشرة مليارات دولار.

وفي اواخر عام 1979. بدأت المخابرات البعثية بترحيل العراقيين الشيعة قسرا، وقد اتسمت حملاتهم الظالمة بطابع الحقد الطائفي والعنصري البغيض، وأسلوب ارهابي داعشي، لا يختلف عن همجية الاقوام البدائية.
ففي اغلب الحالات، كانت الاسر العراقية الامنة تباغت في جنح الليل، وهم نيام، باقتحام منازلهم، فيصاب اهل الدار بالفزع، يرتجفون رعبا، يأمرونهم بالخروج من بيوتهم فورا، دون ان يأخذوا معهم شيئا، ثم يُحشرون داخل مركبات كالانعام، لا ضوء فيها ولا غطاء، يسيرون بهم بأتجاه التخوم الايرانية، ليطوحوا بهؤلاء الابرياء بالعراء ارضا، فتزداد اعداد الحشود التي سبقتهم. كانت مناطق الحدود الطويلة تزدحم بطوفان المبعدين حتى ترائى مشهدها المروًع من الجو وكأن شعبا يغادر وطنه.

كانت كل دفعة تعد ببضعة آلاف، تجرد من كل ما يثبت عراقيتهم، كالجنسية ودفتر الخدمة وهوية الاحوال المدنية وكل ما هو نفيس. وسط خوف الاطفال وصراخهم، وحيرة الكبار وذهولهم، محتفظين بفلذات اكبادهم وهم صبايا، كي يغيبوهم في اعماق السجون. وعندما تحرر العراق وسقط البعث عام 2003، لم يجد الاباء لأولادهم على أثر.

كان على المهجرين من رجال ونساء، شيوخ واطفال، ان يقطعوا البراري الموحشة، وبقاع مقفرة وعرة، بعضها ملغومة، مدد، تراوحت بين 24 ـ 28 ساعة، مشيا على الاقدام كي يصلوا الى اقرب قرية ايرانية، يتحملون خلالها من لسعات المناخ وعظة الجوع ومرارة العطش، ناهيك عما كان يخيف الصغار من اصوات الحيوانات في ظلمة الليل الدامس، وقد تزامنت بعض التسفيرات مع فصل الشتاء، فهلك المئات و مرض الكثير منهم.

كانت الخيام التي اقيمت على التخوم، تزدحم بعشرات الالوف من العراقيين المهجرين في كل دفعة،، كان من النادر ان تجد بينهم من يتكلم الفارسية، كما كان من النادر ايضا، من له في البلد الغريب قريبا، يلجأ اليه، فكانو يقفون فيها حائرين مبتئسين، تراودهم افكار مضطربة، افقدتهم القدرة على فهم واقعهم الاليم. كان الهلع الشديد يعصف بقلوبهم على مصير ابنائهم المحتجزين في العراق، فغدو اسرى شبحهم ليل نهار، كانو لا يعرفون كيف يتخلصون من هذه النازلة التي ألمت بهم، والتي جثمت على صدورهم كالكابوس، يقضون جلً اوقاتهم في شبه ذهول، ولم يثبوا الى رشدهم الا عندما قابلهم المسؤول الحكومي واخذ يناول كل واحد منهم بطاقة، تلك التي تسمح لحاملها بالأقامة والعمل فقط، وهذا يعني ان العراقي المهجر، اصبح منذ اللحظة محروما من الامتيازات والحقوق التي كان يتمتع بها في وطنه قبل ايام، منها حق التملك وحق السفر وحق الدراسة الجامعية وحقوق اخرى كثيرة.

كان بين المهجرين عشرات الالوف من سكنة مناطق الاهوار في محافظة العمارة، منحدرين اصلا من قبائل البو محمد، التي نزحت الى العراق من اعماق الجزيرة العربية في الزمن الغابر والمعروفين عندنا بالمعدان، كانوا يجهلون لغة القوم مثلما كانوا يجهلون عاداتهم وتقاليدهم وطرائق معيشتهم، فغدوا ساخطين مكتئبين، ينظرون الى ما حولهم بأستياء وغضب. ولسان حالهم يقول :

ناء عن الاوطان يفصلني * * عمن احب، البرُ والبحرُ

في وحشة لا شيء يؤنسني * * إلا أنا والدمع والصبرُ

حولي أعاجم يرطنون فما * * للضاد عند لسانهم قدرُ

أناسُ مالي بقربهم صلة * * ومدينة ـ ـ لكنها قفرُ
للقروي، شاعر مهجري.

اما حال الشاب العراقي الأعزب، الذي طرد من وطنه واستسلم لجور الزمن، بدأ يفكر في بناء اسرة، تشعره بالراحة النفسية. فيعقد الخطوبة على فتاة ايرانية ثم يذهب بها الى دائرة الأحوال الشخصية، ليسجل عقد زواجه، لكنه يفاجئ بقرار الرفض، كونه عراقي، والعراقي ليس له حق الأقتران بفتاة ايرانية.

لقد اصبح واقع العراقي المهجًر واقعأ مرًا ومؤلما، يشعر من خلاله بظلم التاريخ، كانت احاسيسه العاطفية، من شوق وحنين لا تهدأ، وهي افرازات تحدثها ذكريات الوطن الغائب. أيام كان متنعما بزهو الحياة وعزًها. كانت تلك الاحاسيس تظهرعليه بشكل زفرات وتأوهات، لا وحتى النحيب احيانا.
ومع طول سنوات الاغتراب، يشتد الاستذكار ويثخن الحنين الى الوطن،
هذه المحنة التي اشعل فتيلها له، اوباش الزمن. كان بعضهم لم يتحمل الصدمة، فيبقى حزين النفس مكتئبا.

بعض المهجرين كان قادرا على تحمل الحالة، فعملوا بروح ايجابية ناظرة الى المستقبل، واندفعوا الى الاسواق وانخرطوا في اعمال البيع والشراء،
اما الاخرون، وعلى الرغم من تهيئة فرص العمل التي اتاحتها الدولة لهم، إلا انهم كانوا يضخمون معاناتهم باظهار الشكوى والتذمر. وكلما اشتدت عليهم غربة الروح، زادت معه رنة الشكوى والتذمر، الى ان يصبح الصمت في النهاية هو الحاصل بشكل ما – – صمت المهَجًر، او صمت الرافض او صمت الكابت وقد يكون الصمت احيانا هو صمت الجنون.

عندما يأس المهجرون العراقيون من امل الرجوع، كان امامهم خيارين لا ثالث لهما : إما التلائم مع المحيط الجديد بكل ايجابياته وسلبياته، فكل شيء في الجمهورية الاسلامية، يفوح برائحة الدين والمذهب وما يتبعه من طقوس وشعائر، ففي مثل هذا الوسط العابق بروح العقيدة والايمان، استقبله العراقي المتدين برحابة الصدر، فأستطاب له البقاء.
اما حال المثقف العلماني الذي لم يرق له ذلك، قرر الانتقال الى بلد آخر.

كانت فكرة الانتقال الى سوريا تراود اذهان الكثيرين . . . كانت الدولة تسمح لهم بالسفر اليها، حتى لو لم تكن لديهم اوراق ثبوتية، لكنها لا تسمح لهم بالعودة ثانية على أي حال. . . .
اما الذين كانوا يتطلعون في الانتقال الى الدول الغربية خلال التسعينيات، كان عليهم الذهاب الى سوق المضاربين (سوق مروي) في طهران الذي يجهز الراغبين بجوازات سفر عراقية اصلية، توصلهم الى الدولة المبتغاة، بعد الحصول على فيزتها، يباع الواحد منها بخمسة الاف دولار. كانت قد اغتنمت خلال التسعينيات من دوائر السفر في المحافظات الجنوبية في العراق اثناء الأنتفاضة الشعبانية المعروفة.

لقد اقام المحسنون من التجار العراقيين المهجرين في اواخر الثمانينات، مستشفى خيري فخمة في وسط العاصمة طهران. وفي عام1991 وبينما انا كنت مقيما في واشنطن، متمتعا بحياة التقاعد، تلقيت من مسؤلي هذه المؤسسة دعوة للقدوم الى ايران بغية الاشراف على ادارة العيادة الخارجية لطبابة العيون فيها.
لقد اكتشفت عند وصولي، ان للمؤسسة المذكورة صيت عريض في الاوساط الشعبية، فلها امكانيات واسعة في مجال تقديم الخدمات الطبية للمرضى عموما، الى جانب الخدمات الاجتماعية لأعداد غفيرة من الارامل العراقيات اللائي فقدن ازواجهن في الحرب، تسعفهم ماديا كل شهر.

اما في مجال الطب،، فكان طاقم المعالجة في المؤسسة الخيرية يضم اكثر من خمسين طبيبا في مختلف الاختصاصات، عراقيين وايرانيين، انها كانت تستقبل يوميا زهاء الف مراجع، معظمهم من الطبقة الوسطى وما دونها، بسبب رخص اسعار العلاج والدواء فيها، يكفي ان نعطي مثلين لا اكثر :
كانت اجور قلع السن لا تتجاوز الدولار الواحد، أما سعر دواء قطرة العين،
(البايلوكاربين) فكان بالمقارنة مع نظيره في الولايات المتحدة، أقل من خمسمائة ضعف !

وهناك في الجانب المقابل للمستشفى كان موقع جامع العراقيين الكبير، الذي اسسه المهجرون انفسهم، كانت الفعاليات الدينية والاجتماعية تجري فيها كل يوم و على مدار السنة، فهو مركز التقائهم، يأتون اليه من كل مكان، وخاصة في ايام شهر محرم، يقدمون اليه من مختلف المحافظات، لأحياء ذكرى عاشوراء من كل عام، وبغية استيعاب جموع الوفود الكبيرة، تقام في شارع الجامع خيمة كبيرة عالية، تغطي المكان، وخلال هذه الايام العصيبة، تنقطع حركة المرور.

كان من عادة بعض العراقيين المهجرين ان يفصحوا اليً عن مكبوتاتهم اثناء تواجدهم في طبابة العيون، إن وجدوا الفرصة لذلك، تخص ذكريات تهجيرهم المأساوية ماضيا وعن اوضاعهم الاجتماعية حاضرا.
اقول : وبعد ان مكثت في مقر عملي سبعة سنوات متتالية، تراكمت لدي معلومات عن محنة العراقيين المنكوبين، لا يكفي مجلد ضخم لتدوينها.
لكنني اتركها و اقتصر كلامي على ذكر بعض ايجابياتها كنموذج :

قال احدهم : يأبى صاحب الدار ان يستوفي مني بدل ايجار، ويقول اخر : (أناس لا اعرفهم، لكنهم زوّدوا داري بالسجاد الجديد، او البراد الحديث دون مقابل، ويقول غيره (عندما اخرج صباحا من داري، اجد احيانا امام الباب، صفيحة زيت او كيس رز او ما شابه ذلك). ورابعهم يقول : (استلم بين حين وآخر رسائل فيها نقود، لا تحمل اسم المرسل). ويقول خامسهم : اتلقى من وقت لاخر، انا وافراد اسرتي دعوة عشاء ال بيوت اناس لا نعرفهم، والقائمة
تطول.

كنت احيانا اشك في صحة اقوالهم، لانه ليس من المنطق ان يكون البشر هناك بهذا المستوى من كرم الضيافة ونحن نشتبك واياهم في حرب ضروس على التخوم منذ سنوات ؟ فكانت الفكرة بالنسبة اليً محيرة !
ان الضيافة الكريمة والسخاء العريض الذي ابداه الشعب الايراني تجاه الاعداد الكبيرة من العوائل العراقية المهجرة، دليل ساطع على نبل مشاعره الانسانية التي تجلت في صفاء العطاء، والذي سيجله التاريخ له بمداد من الذهب.

وعندما كنت اجد نفسي في الاوساط الاجتماعية، والفرصة سانحة، اظهر لمعارفي حيرتي قبال هذا اللغز، لا بل هذا التناقض، فكان جوابهم دوما :
اننا نعلم انتم شعب مسالم، لكنكم اصبحتم ضحايا الحرب الامريكية والتي يلعب صدام فيها دور مخلب القط

ان التسفيرات القهرية الظالمة التي اقدمت عليها سلطة البعث، قد آلت على العراق العزيز المصائب والبلايا، غيبت عن انظار الشعب.
انها كبدته خسائر بشرية لا تعوض، وخسائر مادية فادحة، يتعذر حصرها، كانت في طليعتها عشرات الالوف من ذوي الاختصاصات العالية، وفي مختلف المجالات : علمية وزراعية وصناعية واقتصادية وتكنولوجيا متطورة، فضلا عن جمهور غفير من النخب، ضمت أدباء ومثقفين واعلام، فكانت سياسة ابعادهم عن وطنهم جريمة لا تغتفر.

الدكتور رضا العطار
واشنطن، شتاء عام 2019

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here