في ادب الحياة، ما المعني من عبارة ( ثلاثية النفس ؟ )

* د. رضا العطار

لست ادري من اين جاءت تلك الرابطة الغريبة بين النفس البشرية وبين العدد ثلاثة ؟
او كيف حدث هذا التقسيم الثلاثي الذي لا تخطئه العين العابرة لهذه (النفس) في مجالات تختلف فيما بينهما تمام الاختلاف، وعصور متباعدة اشد ما يكون التباعد ! لكن الذي اعلمه علم اليقين ان هناك في تاريخ الفكر الانساني ظاهرة تستوقف النظر وهي لهذا جديرة ببحث متأن ودراسة متعمقة، وهي انك تجد تقسيما ثلاثيا للنفس البشرية في مجال الفلسفة تارة وفي ميدان علم النفس تارة اخرى.

ولو اننا بدأنا بأقدم نظرية عن النفس البشرية في تاريخ الفكر، ووقفنا امام نظرية افلاطون الذي اطلق عليه المسلمون لقب ( الافلاطون الالهي ) لمثاليته الرفيعة وروحانيته العالية، وهي نظرية تقسيم النفس تقسيما ثلاثيا. وجعل كل قسم من هذه الاقسام مستقرا في جسم الانسان ادناها (النفس الشهوانية) ومقرها البطن، تحت الحجاب الحاجز، وهي مستودع الشرور والجشع والشهوة وممارسة الغرائز .. الخ، بل انها لا تجيد سوى هذه العمليات والوظائف الحسية بانواعها المختلفة. ومن ثم كانت (العفة) فضيلتها.

اما الضرب الثاني من النفس البشرية عند افلاطون فهو: (النفس الأنفعالية) ومقرها الصدر وتغلب عليها الحمية والانفعال وتميل الى الاندفاع نحو حماية المقدسات والقيم السامية. ولهذا كانت فضيلتها (الشجاعة).
اما الثالثة وهي اعلى الانفس جميعا فهي (النفس العاقلة) ومقرها الرأس وهي مصدر الاتزان والتعقل والفهم والحكمة.
والبشر نظير هذه الانواع الثلاثة : الرجل العادي بصنوفه المختلفة من زارع وصانع وحارس .. الخ.وهي طبقة لا همّ لها سوى الجري وراء شهوات الحس من تناول الطعام والشراب وممارسة الجنس .. ثم هناك طبقة الجند بما لها من همّة ونشاط وحماس في الذود عن الوطن. واخيرا هناك طبقة الحكام الذين قد ينقلبول الى فلاسفة او ان يكونوا هم انفسهم فلاسفة.

فهناك اذن عند افلاطون قسمة ثلاثية للنفس البشرية تقوم عليها قسمة ثلاثية اخرى لطبقات المجتمع وافراد البشر، فإذا ما انتقلنا من (افلاطون الالهي) الى تلميذه ارسطو الذي لقبه المسلمون (بالمعلم الاول) لغزارة علمه وعظمة ثقافته الموسوعية. لوجدناه يكتب لأول مرة كتابا خاصا عن النفس ويعتبرها مبدأ الحياة في كل كائن حي – ولهذا عُدّ الكائن حيا لوجود (نفس) بداخله تقوم بعمليات الحياة ومن هنا جاءت كلمة الحيوان على اعتبار ان الحيوان لا بد ان تكون له نفس.
اما الضرب الاول من النفس عند ارسطو فهو النفس النامية التي تقوم بالعمليات البيولوجية المختلفة كالتغذية والهضم والاخراج والتنفس .. الخ
ولما كان النبات هو اول الكائنات الحية في سلم التطور – طبقا لنظرية التطور لداروين – وتقتصر العمليات الحيوية فيه على هذه الوظائف البيولوجية، كانت النفس النامية دون العقل.
اما الضرب الثاني من النفس فهو ( النفس الحاسة )التي تقوم بوظائف الاحساس في الحيوان كالابصار والتذوق والشم والسمع.. الخ ومركز الاحساس عند ارسطو هو القلب وحجته ان شرط الاحساس هو الحرارة، التي يقوم القلب بتوزيعها في اطراف الجسم ضمن الدورة الدموية.
اما الانفس الثلاث فهي النفس العاقلة او الناطقة التي توجد في الانسان دون النبات والحيوان – وهي تقوم بعمليات الاستدلال المختلفة وتكوين المعاني العامة والتفريق بين الخير والشر والحق والباطل .. فالانفس الثلاث تتدرج في الكائنات الحية بمستويات معلومة، بحيث توجد النفس النامية في النبات فحسب، والحاسة في الحيوان فقط. والنفس العاقلة او الناطقة في الانسان. الا اننا كلما علونا في سلم الكائنات وجدنا زيادة في درجة التعقيد. فالانسان وهو ما يهمنا الان فانه يبلغ درجة من التعقيد في الوظائف التي يقوم بها تحتم وجود هذا التقسيم الثلاثي للنفس – – اعني ان يداخله ثلاثة انفس – هي من احدى الزوايا نفس نامية ومن زاوية اخرى نفس حاسة ثم هي في جانب ثالث النفس الاعلى، اعني النفس العاقلة.

واذا ما تركنا حقل الدراسات الفلسفية وانتقلنا الى ميدان الدين لوجدنا ان القرآن الكريم يكاد يتنبأ بالتقسيم الثلاثي للفس البشرية الذي سيقوله العالم النفساني الشهير (فرويد) ومدرسة التحليل النفسي بعد اكثر من الف سنة، اذ تراه يحدثنا عن (النفس الأمارة). وعلينا ان نلاحظ جيدا كلمة (أمّارة) التي تعني انها كثيرة الامر في ارتكاب المعاصي والشرور. انها النفس التي تضغط على صاحبها في الحاح مستمر ليشبع رغباته وغرائزه ويستمتع بشهواته غير عابثة بقيم اخلاقية او جوانب روحية — حتى ان نبي الله يوسف لا يستطيع ان يبري نفسه من الوقوع في الزلل. ( وما ابريء نفسي ان النفس للأمارة بالسوء الا ما رحم ربي ..) سورة يوسف

ثم يحدثنا القرآن ايضا ان هناك نفسا ثانية هي (النفس اللوامة) سورة القيامة، التي تراعي القيم وتحافظ عليها ومن ثم تحاسب نفسها اذا ما ارتكبت اثما. وعلينا ان نلاحظ ان تعبير (اللوامة) يعني انها كثيرة اللوم والتأنيب وكأنها تقوم بدور الرقيب. ولهذا فاننا نقول انها تقوم بوظيفة اخلاقية.

ثم هناك ثالثا اعلى هذه الانفس الثلاثة وهي (النفس المطمئنة) من سورة الفجر، النفس المثالية التي ترجع الى ربها آمنة مطمئنة مؤمنة به مقبلة عليه راضية بثوابه ومرضية عند الله بعملها تلك هي اعلى الانفس انها الذات العليا التي تشعر شعورا مستمرا بالمثول امام مسؤولية العقل.
ان هذه المقارنات تحتاج الى بحث جاد يتعقب هذه الظاهرة العجيبة، ظاهرة التقسيم الثلاثي للنفس البشرية في مجالات الفلسفة والدين وعلم النفس – ليقول لنا قول الفصل بدل الاجترار للماضي والتباهي بحضارة الاقدمين.

* مقتبس من كتاب افكار ومواقف لمؤلفه الامام عبد الفتاح امام مع التصرف.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here