موازنة العقل أم موازنة النفط؟

ساهر عريبي
[email protected]

صوّت البرلمان السويدي في شهر نوفمبر من العام الماضية على موازنة العام الحالي وقدرها 1083 مليار كرونة سويدية أي ما يعادل 120 مليار دولار وفقا لسعر الصرف الحالي البالغ 9 كرونه لكل دولار.
وبلغت نفقات البلاد المخمنة لهذا العام 113 مليار دولار مما يعني ان فائض الموازنة يبلغ 7 مليار دولار امريكي. وأما إيرادات الموازنة فهي من ”الزكاة“ ! أي من الضرائب على المواطنين و الشركات السويدية العملاقة امثال فولفو وإيكيا وأريكسون وأطلس كوبكو وغيرها من الشركات الصناعية. فالضريبة في السويد تسمى ”Skatt“ وتلفظ كما هي عليه بالعربي زكاة! وهي الضريبة التي فرضتها الشريعة الإسلامية على الأغنياء في المجتمع, بهدف تمويل بيت المال الذي تصرف موارده لتحسين اوضاع المسلمين!

وتعادل هذه الضريبة في السويد فريضة الخمس عندنا والبالغة 20% من الدخل السنوي للمواطن ثم ترتفع مع إزدياد الدخل لتصل الى مستويات عالية تبلغ قرابة ال 60% من الدخل السنوي مع تصاعد مدخولات الفرد او الشركة. ويقوم المجتمع السويدي على ضريبة ”الزكاة“ ولولاها لأنهارت الدولة وسادتها الفوضى والجرائم لأن البلاد تفتقد للموارد الطبيعية مثل النفط وكما هي عليه شقيقتها النرويج. ويلاحظ ان المصدر الرئيس لهذه الضريبة هو العقل السويدي! فالتطور العلمي والصناعي هو مصدر الدخل الأساسي في البلاد, ويمكن تصور حجم التطور الصناعي في البلاد إذا ما اخذنا بنظر الإعتبار عدد نفوس السويديين البالغ قرابة ال 10 مليون إنسان فقط! لكن هذا المجتمع الضئيل قياسا بالعديد من الدول الصناعية الكبرى فجّر طاقته والى مستوى عادل فيه إنتاج بلد نفطي كالعراق يصدر أربعة مليون برميل يوميا كي يوفر مدخولا لموازنة أقل من موازنة السويد!

وأما موارد صرف الموازنة فهي تشمل كافة قطاعات الحياة في السويد وأهمها التامين الإجتماعي للعوائل والأطفال وسكنهم وتبلغ قرابة 11 مليار دولار, وبمبلغ مماثل مخصص للتأمين الإجتماعي في حال المرض, ثم التأمين الإجتماعي لكبار السن ويخصص له 4 مليار دولار. وأما الدعم الدراسي فخصص له قرابة ال 3 مليار دولار واما الأبحاث فخصص لها 9 مليار دولار. وحظي القطاع الصحي ب 8.5 مليار دولار, والنظام القضائي 5 مليار وسوق العمل 8.5 مليار والمواصلات 5 مليار والدفاع 6 مليار والهجرة 1.5 مليار ودمج المهاجرين 2 مليار والمساعدات الخارجية 5 مليار !! والثقافة قرابة ال 2 مليار دولار, وهناك قطاعات اخرى مثل إدارات الدولة وقضايا البيئة وغيرها.

ويلاحظ أن الموازنة تغطي كافة إحتياجات المجتمع السويدي بالإضافة الى إحتياجات المهاجرين القادمين من بلدان شتى وفوق ذلك هناك فائض فيها يبلغ مقداره 7 مليار دولار أمريكي, وبذلك فإن السويد لا تعاني من عجز وليست بحاجة للإقتراض, لإن العقل فيها مصدر لا ينضب للدخل وهي واحدة من الدول التي تتمتع بأعلى مستويات التعليم والأبحاث وتكاد تتحول بمرور الوقت الى دولة أبحاث مع نقل الصناعة الى الخارج. وهي أيضا تعتبر من الدول المتقدمه على صعيد الحفاظ على البيئة وتقليل إنبعاث الغازات السامة والبحث عن بدائل نظيفة للطاقة. وهي رائدة كذلك في العديد من المجالات ومنها الرياضة والسياسة حيث عادة ما تلعب السويد دورا إيجابيا في حل النزاعات الدولية وكانت آخر محاولة لها هو الإجتماع الذي إستضافته مؤخرا لوضوع حد للحرب على اليمن.

إن مثل هذا المجتمع الذي تسوده القيم الإنسانية ماكان له أن ينهض لولا قوة القانون وشعور المواطن بالمسؤولية وحسن استغلال حكوماته للموارد البشرية وأخيرا التوزيع العادل لواردات الدولة أي الضرائب فهي غير مخصصة لفئة دون اخرى , بل هي لجميع المواطنين حتى أصبحت السويد في مقدمة الدول على صعيد الشفافية وانحسار الفساد المالي والإداري. ومن هنا يمكن معرفة عظمة نظام الضرائب الذي ورد في الشريعة الإسلامية والقائم على الزكاة والخمس فهو قادر على سد كافة إحتياجات المجتمع فيما لوجرى تطبيقه بشكل شفاف وعادل كما هو عليه الحال في السويد.

وعند مقارنة موازنة ”الزكاة ” في السويد مع موازنة العراق او مع موازنة العديد من الدول النفطية في المنطقة, فيلاحظ أن مدخول العقل في هذه الموازنة غائب في موازنات تلك الدول ! ولنأخذ موازنة العراق مثلا فقد بلغ مقدارها في المسودة التي قدمتها الحكومة 132 تريليون دينار أي ما يعادل 110 مليار دولار امريكي وهو رقم مقارب للموازنة السويدية. واما واردات الموازنة فإها من النفط وخمّن مقدارها ب 90 مليار دولار وبذلك يصبح العجز في الموازنة 20 مليار دولار سيتم سده عبر عدة طرق وفي مقدمتها الإقتراض من الدول والبنوك الخارجية. ومما يجدر ذكره أن الموازنة إعتمد فيها على سعر برميل للنفط يبلغ 56 دولار وعلى إنتاج يومي للنفط يبلغ قرابة ال 4 مليون برميل, وهذا يعني أن هناك مخاطر لتزايد العجز في حال انخفضت أسعار النفط العالمية او انخفض انتاج النفط.

ولا أريد الدخول في تخصيصات الموازنة العراقية وأبواب صرفها فهي أرقام على الورق كما جرت عليه العادة واما على صعيد الواقع فليس لها تاثير , لأن الجزء الأكبر منها تستولي عليه مافيات الفساد في البلاد , ولكن الأمر المهم الذي اود التطرق له هو لماذا غابت واردات العقل العراقي عن الموازنة ؟ ولماذا هذا الإعتماد على مصدر وحيد للدخل وهو النفط مع ان العراق غني بموارده البشريه والطبيعية من انهار وأراض زراعية خصبه وثروات حيوانية وسياحة دينية واخرى أثرية بالإضافة الى موقعه الإستراتيجي في المنطقة؟ لا شك بان احد أهم أسباب ذلك هو تولّي الجهلة لمقاليد الحكم في البلاد وخاصة اولئك الذي تسلطوا على مقاليد الحكم في البلاد خلال ال 15 عاما الماضية. فهؤلاء لم يكن لهم سوى برنامج واحد وهو التشبث بالسلطه بالرغم من أنهم اعترفوا بفشلهم وتقصيرهم , والأنكى من كل ذلك أن سياساتهم قائمة على إستبعاد العقول العراقية وقتل الصناعة والزراعة والسياحة إلا في ما يخدم مصالحهم الخاصة, وبالتالي تحويل العراق الى دولة ريعية تعتمد على النفط حالها كحال العديد من البلدان المصدرة للنفط التي ليس لها موارد بشرية كما هو عليه العراق.

ولايبدو في الأفق ان هذه الطبقة السياسية في وارد تغيير سياساتها وإعطاء اولوية للعقل العراقي ليكون مصدر دخل في الموازنة وليس مصدرها الوحيد كما هو عليه الحال في السويد. ففي مثل هذه المنطقة المضطربة التي لن تتوقف فيها النزاعات والحروب يوما فإن تجميد العقل والإعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل سيضع مستقبل البلاد في المجهول وسيبقيها متخلفة مستهلكة في زمن دخلت فيه الشعوب في سباق مع الزمن في مسيرة التطور العلمي وهو مايستدعي وضع الحكومة لخطة طويلة الأمد لزيادة واردات الموازنة العقلية وتقليل الواردات النفطية التي تكاد ان تقضي على العقل وتحوله الى تحفة أثرية ستوضع يوما في المتاحف العالمية!

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here