حينما يحكُم سفلة القوم!

كفاح محمود كريم

في غياب معايير مهنية ووطنية خالصة في اختيار أو ارتقاء الكوادر المتقدمة في الدولة، وفشل معظم الأنظمة التي توالت على حكم كثير من البلدان التي تحولت إلى نظم ثورية وشمولية سواء كانت بايديولوجيات دينية أو سياسية وبأشكال مختلفة ومتنوعة بين حزب وآخر أو حركة وأخرى، كما حصل وما يزال يحصل في بلدان الشرق الأوسط عموما، وأكاد اجزم في غالبية افريقيا وامريكا اللاتينية واسيا، ظهرت على سدة الحكم مجاميع من الفاسدين واللصوص حولت بلدانها إلى صالة قمار كبيرة ومعتقل مرعب لكل الكفاءات الخالصة والمتميزة، ودفعت إلى مفاصل التحكم بالمال والسلطة أفواج من النكرات والتافهين لتنفيذ برامجها في الفساد والإفساد.

وبعيداً عن التصنيفات الرأسمالية والشيوعية لطبقات المجتمع وتعريفهم للشرائح، سأتحدث هنا عما قاله ابن خلدون* عن حكم أسافل الناس، وما ذكره أحد أعيان الفرات الأوسط إبان حكم الهواشم ووزيرهم الأول نوري السعيد، الذي طالما كان يتولى إضافة إلى رئاسة الحكومة أحد منصبي الداخلية أو الدفاع وأحياناً الخارجية أيضاً، لكي لا يقع القوم بهذه المناكفات أو البازارات العراقية للمناصب الحلوبة التي نشهد مسرحياتها ومهازلها اليوم.

قبل أكثر من نصف قرن توسط شخص ما لدى أحد أعيان الفرات الأوسط وهو الشيخ عبود الهيمص* طالباً منه توصية نوري السعيد لقبول ابنه في كلية الشرطة أو العسكرية حينها، وبعد التحري والتدقيق، قال له الباشا لا يمكن قبوله لأسباب تربوية واجتماعية تتعلق بأسرته، مؤكداً أنه لا يستطيع أن يقبل شخص فيه عاهات تربوية واجتماعية في موقع سيكون فيه بعد سنوات برتبة عالية يتحكم من خلالها بآلاف البشر وعوائلهم.

وقبل الخوض فيما قاله ابن خلدون أو الشيخ عبود الهيمص نقلاً عن الباشا نوري السعيد، فأن الأسافل واللصوص والسفهاء ومتسلقي المناصب والامتيازات، لا علاقة لهم بالطبقة التي ينتمون إليها ونمط السلوك الذي يمارسونه. فقد شهدنا في حياتنا أنبل البشر بين الفقراء ومنهم، والعكس

صحيح بين الأثرياء. إنها فعلاً البيئة الفاسدة والتربية المنحرفة والقيم الدنيا التي تنتج هذا النمط من الشرائح الاجتماعية، وتتعلق حتماً بالبيئة التي ينشئون فيها والتربية التي يتلقونها في طفولتهم والسنوات الأولى من نضجهم، وفي الوقت الذي تهتم الدولة المتحضرة في معالجة هذه الشرائح؛ بل ومنعها من التسلط أو التحكم بأي شكل من الأشكال وفي كل مفاصل الدولة، فإنها تنمو وتتمدد في الدول المتخلفة سواءً أكانت دكتاتورية أو حتى في مراحلها الأولى بالديمقراطية، وخير مثال ما نشهده في بلداننا التي تعج اليوم بمهرجانات وأسواق الفساد المالي والإداري والسياسي ناهيك عن الاجتماعي والأخلاقي، وليس أروع مما قاله ابن خلدون عن هذه الشريحة التي تسلطت على رقاب البشر من منافذ ديمقراطية أتاحت لها في لعبة الانتخابات والقيم القبلية البائسة وتجارة المناصب بالسحت الحرام، أن تنفذ إلى مواقع حذرَ منها المفكر الكبير منذ أكثر من ستمائة عامِ حينما قال:

“لا تولوا أبناء السفلة والسفهاء قيادة الجنود ومناصب القضاء وشؤون العامة، لأنهم إذا أصبحوا من ذوي المناصب اجتهدوا في ظلم الأبرياء وأبناء الشرفاء وإذلالهم بشكلِ متعمد، نظراً لشعورهم المستمر بعقدة النقص والدونية التي تلازمهم وترفض مغادرة نفوسهم، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى سقوط العروش ونهاية الدول”.

ولينظر كلّ منا أينما كان وفي أي مكان إلى ما حوله ليرى ما ذكره ابن خلدون وفعله الباشا نوري السعيد في شخوص أُناس تولت أو تسلقت في غفلةِ من الزمن وبسلم صدئ مواقع التسلط والتحكم في دول صنفتها منظمات الشفافية العالمية بأنها الأفشل والأكثر فساداً في العالم!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش:

* ابن خلدون هو عبد الرحمن بن محمد، ابن خلدون أبو زيد، ولي الدين الحضرمي الإشبيلي (1332 – 1406م)، ولد في تونس وشب فيها وتخرّج من جامعة الزيتونة، ويعتبر ابنُ خَلدون مؤسسَ علم الاجتماع الحديث ومن علماء التاريخ والاقتصاد.

* عبود الهيمص ( 1904-1989 ) من أعيان وشيوخ الفرات الأوسط ( محافظة بابل ) وهو أحد شيوخ عشائر البو سلطان من قبيلة زبيد ومن كبار رجال الإدارة السياسية في العهد الملكي واحد ثوار العشرين ورجل البرلمان المعروف.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here