كيف ان الحضارة العربية تأثرت بالأداب الفارسية قديما ؟ (اقتباس) ح9

د. رضا العطار

كان اسلوب البلاغة والفصاحة في صدر الاسلام وسيلة للتحريض على الجهاد والفتح، كما كانت عند الثائرين وسيلة للتعبئة للثورة. وفي كلتا الحالتين كانت مواجهة للمتلقي تحاول التأثير فيه. ولكن عندما دخلت الدولة الاموية في اواخر عهدها في دوامة من الفتن والثورات المناهضة، فقد تركت الخطابة مكانها لنوع آخر من الخطاب هو (الترسل) اي لممارسة الضغط (البلاغي) على الناس، من اجل الركون الى الهدوء والسكينة. وكما كانت القيم الدينية زمن الاندفاع ونشر الرسالة وسيلة للتعبئة من اجل الفتح والجهاد. يتحول الحكام زمن الانتفاضات الى توضيف القيم الدينية، الجسر الامن لتحقيق هذا الطلب، من اجل الدعوة الى التزام الطاعة التي تعني (القعود والسكينة).
والفرق بين الخطابة والترسل هو ان الاولى تلجأ الى توضيف (ضمير المخاطب) بينما الثانية الى توظيف
(ضمير الغائب) لنفس المهمة.

واضح اننا هنا ازاء (اخلاق) تختلف تمام الاختلاف عن اخلاق البداوة واخلاق (المساواة) والتواضع التي تطبع المجتمع القبلي والتي كانت سائدة زمن الخلفاء الراشدين، حينما كان عامة الناس يخاطب الخليفة كواحد من
(ايها الناس). بينما الان وقد استقبل المجتمع مع رسائل ابن المقفع وعبد الحميد مفهوم آخر جديد تماما وهو الموروث الفارسي الذي جعل اخلاقهم على صنفين، العامة والخاصة. لقد جعل مفهوم (العامة) مكان مفهوم القوم، و(الخاصة) مكان (العشيرة). نتيجة الدروس الجديدة في الاخلاق. اننا اوردنا النصوص لنضع القارئ امام خطاب ناضج يتعدى الرغبة في تكريس قيم الطاعة والتسليم للآمير يتجاوز (ادب اللسان) و (ادب النفس) الى نوع ثالث هو
(الاداب السلطانية) . . الاداب التي يجب ان يتحلى بها السلطان في تدبير (الامور) صغيرها وكبيرها ليضمن لنفسه النجاح في مركزه والاستمرار فيه.

لقد كرس الامويون فكرة (الجبر) في حكمهم كأساس لايديولوجيتهم السياسية، فكانوا لا يطمعون في رضا الناس، ولذلك فهم لا يدعونهم الى الاخلاص في الطاعة لا باسم الدين ولا باسم الاخلاق. كل ما كان يطلبون منهم هو الخضوع راضين او مكرهين. وفعلا تؤكد الشواهد ان الامويين لم يحاولوا توظيف الدين في اضفاء الشرعية على حكمهم. بأستثناء فكرة (القضاء والقدر) التي تعني انهم انتصروا على خصومهم عن طريق الخداع والقوة. ولو اننا بحثنا في الدوافع لوجدناها كامنة في قوة العصبية الاموية وفي خصومتها التقليدية مع بني هاشم منذ الجاهلية.

وقد سار الخلفاء الامويون على هذا النوع من النهج الى الوقت الذي ظهر فيه كل من ابن المقفع وعبد الحميد الكاتب، وكتاباتهما (التنويرية) منقولة من الثقافة الفارسية وما كان لها من ردود فعل ايجابية وسلبية، هكذا نجد الخليفة الوليد بن عبد الملك يخطب مباشرة بعد دفن ابيه سنة 91 للهجرة، خطبة قصيرة يدعو فيها الى (الطاعة) فعلا، طاعته كملك يتولى الملك لاول مرة ولكن لا باسم الدين ولا باسم الاخلاق ولا باسم سيرة سلفه، بل يدعوهم الى الطاعة عارية من كل تبرير، الطاعة بمعنى الخضوع للقوة . . . فالخطاب هذا حول الطاعة خطاب مختصر، خطاب يشير الى شيء عملي مباشر (العصا لمن عطا).

وكما لا نجد لخطاب (الطاعة) الذي نقله كتاب الدواوين من امثال ابن المقفع ورفاقه من الادب الفارسي الى البيئة الاموية، كذلك لا نجد في القرآن ما يمكن ان يكون مصدر الهام لهم، بل بالعكس، فالقرآن يطرح الطاعة طرحا مخالفا تماما. فقد تجاهلوا تلك الآية القرآنية التي تدعو الى طاعة (اولي الامر) كما تجاهلوا الحديث النبوي (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق). نعم لقد تكرر في القرآن لفظ (الطاعة) وما اشتق منه ولكن هذا اللفظ ينصرف معناه دائما الى الله. او الى (الله ورسوله). اما بالنسبة الى (اولو الامر) فلا طاعة مطلقة، بل طاعة تراضي وتوافق. بحيث اذا حصل اختلاف او نزاع معهم وجب رد الامر الى الله ورسوله. (يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر، ذلك خير واحسن تأويلا) (سورة النساء).
وإذن فكل ما ورد في نصوص هؤلاء الكتاب من (الحث على الطاعة) ومن تفخيم لمنصب (الخليفة) وربطه ب (خلافة الله) لا يجد مرجعيته ولا اصوله في التراث العربي الاسلامي. وإذن فلا يبقى الا ان نقول : نحن ازاء نصوص يجب البحث لها عن اصل ومصدر في ثقافة اخرى وفي الثقافة الفارسية بالذات. إذن فلا بد من القول بان الموروث الفارسي في ميدان (الاخلاق والسياسة) قد انتقل الى الثقافة العربية في زمن مبكر جدا (سنة 113 ه) زمن الخليفة الاموي هشام بن عبد الملك . . . لكن كيف بدأ هذا الحضور المبكر للموروث الفارسي في الثقافة العربية ؟

يمكن الرجوع بطبيعة الحال الى ما قبل الاسلام، الى ملوك الحيرة، خاصة المنذر بن ماء السماء الذي تولى الحكم عام 520 م وعاصر كسرى انوشروان. والى ابنه النعمان الذي تولى الحكم سنة 580 م وعاصر كسرى ابرويز. ولكن ليس لدينا من المعلومات ما يسمح باية افتراضات في هذا الصدد، هذا فضلا من ان الدولة العربية الاسلامية قد نشأت في المدينة، بمعزل عن اي تأثير من هذا النوع. واذا اضفنا الى ذلك ان دولة معاوية كانت اقرب الى امارة الغساسنة، حليفة الروم البيزنطيين ضد الفرس. فان الفرضية التي تفرض نفسها في هذا المجال هي ان التطور النوعي قد حصل في بنية دولة بني أمية نفسها، وان التأثير الفارسي قد جاء نتيجة هذا التحول. فما عسى ان يكون هذا التحول الذي جعل الدولة الاموية تنفتح في اواخر عهدها على الموروث الفارسي الاخلاقي والسياسي ؟

هنا لا بد من لفت الانتباه وهو ان سجلات الديوان كانت تكتب بالفارسية، وقد نقلت الى العربية ابتداء من زمن عبد الملك بن مروان، واذن فكتاب الدواوين في هذه المرحلة كانوا يعرفون الفارسية وعلى صلة ليس فقط بمصطلحاتها الادارية بل بمجمل ثقافتها، فان معلوماتنا عن صلة عبد الحميد الكاتب بالثقافة الفارسية لا تترك مجالا للشك في هذا الحضور المبكر للموروث الفارسي في عملية تأسيس الفكر الاخلاقي في الثقافة العربية. وعبد الحميد كما هو معروف صديق ملازم لابن المقفع الذي كرس كل جهده لنقل (ادب الفرس) الى المحيط العربي الاسلامي.

هذه شهادة على غاية من الاهمية، فهي تؤكد ان الموروث الفارسي خاصة منه ما يتعلق ب (الاداب السلطانية) والبروتوكول والسياسة والاخلاق والكتاب كانت بمثابة الجسر الذي عبر عليه الموروث الفارسي الى الثقافة العربية.
وكانت المادة الاولى التي دُشن بها هذا العبور تنتمي الى مجال القيم، (ادب اللسان) و (ادب النفس). واستمرت (الاداب السلطانية) تغذي (فن الكتابة) في الحضارة العربية الى اواخر ما يعرف في الخطاب العربي المعاصر ب (عصر الانحطاط). العصر الذي لم ينته بعد حتى في هذا المجال : مجال (الكتابة).
الحلقة التالية بعد اسبوع !

* مقتبس بتصرف من كتاب نقد العقل العربي ـ العقل الاخلاقي العربي لمؤلفه د. موحمد عابد الجابري، الطبعة السادسة، دار النهضة، الحمراء، شارع البصرة، بيروت 2014

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here