التفاصيل الكاملة لانقلاب شباط الأسود عام 1963

بقلم : فراس الغضبان الحمداني

كانت العاصمة العراقية هادئة تماماً . ونلاحظ إعدادا كبيرة من المسلحين المدنيين يمخرون الشوارع . أنهم أعضاء « الحرس القومي » ، الذين يحملون أشرطة نسيجية خضر على سواعدهم وينسقون مع رجال الشرطة. وهم يتحركون تحت إشراف من الجيش بشكل واسع ، إلا إن مهمتهم الأساسية هي قنص الشيوعيين ، وهي عملية بوشرت حال توقف المقاومة في وزارة الدفاع.

هناك عدد من الشيوعيين ظل حتى يوم الثلاثاء 12 شباط ، يواصل خوض معارك صغيرة في عدد من الإحياء ضد الحرس القومي. لكن هذه المعارك تبدو بمثابة النزع الأخير في مقاومة توشك على الانطفاء . أما الاعتقالات فهي من الضخامة إلى درجة يستحيل علينا الآن إعطاء رقم محدد عنها . الكثير من عمليات الاعتقال تتم لمجرد الشبهة أو الوشاية . ولقد جرى إنشاء معسكرات اعتقال جماعية كبيرة في وسط الثكنات العسكرية وأينما أمكن ، لإلقاء كافة المدنيين الذين اعتقلوا في غضون أيام الانقلاب المنصرمة ولم يعدموا بعد . لكن الإعدامات التي جرت لغيرهم هي بإعداد لا تحصى وبدون محاكمة . إن عدد الذين قتلوا لحد الآن لم يتم الكشف عنه بعد . ففي وزارة الخارجية يقولون عن احتمال إن العدد هو « أربعون ضحية » ، ثم يضيفون مستدركين : « إن الرقم لم يتحدد بعد على وجه الدقة ». لكن التقديرات الحقيقية الأكثر تواضعاً واتزاناً وتتحدث عن سقوط إلف قتيل على اقل تقدير في العاصمة بغداد وحدها حتى الآن.

في اللحظة الحالية تستعيد بغداد حركة شبه عادية ، والأجواء بدأت تتجه نحو الهدوء . إذ يبدو إن يوم السبت 9 شباط كان ، بإقرار الجميع ، اليوم الأكثر رعباً . لذا فقد حبس الناس أنفسهم في المنازل ، حيث حصل قطع في الكهرباء ، كما إن أصوات رشقات الرشاشات كانت تسمع في أركان الشوارع . وبينما كانت الأوامر والأوامر المضادة تذاع من الراديو ، كان شبان من حملة الأشرطة الخضراء على السواعد يمارسون ما يشبه لعبة الحروب الصغيرة مقيمين دكتاتورياتهم في كل حيّ . التجول لا يتم إلا بتصريح خاص يرخص به ، إلا إن أولئك الذين بحاجة ماسة له لا يعرفون لمن يتوجهون بالطلب لاستحصاله. وحتى عندما ينجحون في الحصول على مثل تلك التصريحات فأنهم لا يجدون من يعترف لهم بصفتها الرسمية.

وكمثال على حملات « التطهير » الواسعة ما حصل في وزارة مهمة كوزارة النفط، حيث لم يسلم فيها سوى اثنين من الموظفين بينما القي القبض على كافة العاملين في الوزارة حتى صغار السن منهم وأرسلوا إلى المعتقلات . ففي الأوساط الرسمية للنظام الجديد نسمعهم يقولون بشكل دائم : “لدينا قوائم بأسماء جميع الشيوعيين ولن نترك أحداً منهم يفلت من يدنا”. والقلق كبير جداً في أوساط المسيحيين الكلدان الذين، كما يقال، اصطفوا مع الشيوعيين . إن الإضرار المادية اقل مما تم تخيله ، إذ كانت وزارة الدفاع مركز الهجمات الجوية ، ومن الواضح بداهة أنها تعرضت للقصف بكثير من القذائف والتي بمعظمها لم تكن صواريخ إنما قنابل صغيرة العيار ، وان كان كلام راديو بغداد خلال الساعات الأولى بعد انقلاب يوم الجمعة المصادف 8 شباط ، الذي أكّد قائلاً « لقد سحقت الدكتاتورية الخائنة كالجرذ تحت أنقاض وزارة الدفاع » ، أوحى بالاعتقاد بان الوزارة تعرضت لتدمير شبه كلّي . عموماً ، ورغم آثار المعارك فيها ، ليس لبغداد هيئة مدينة مهدمة تحت القصف بما في ذلك إحياؤها الأكثر تعرضاً للإصابات.

إما عن كيفية حصول الانقلاب الذي قامت به مجموعة من العسكريين المتمردين في يوم الجمعة الذي يصادف اليوم الرابع عشر من شهر رمضان ، فان التفاصيل أصبحت معروفة الآن لدينا.، لم يكن الزعيم عبد الكريم قاسم موجوداً في وزارة الدفاع ، التي هي مقر إقامته الاعتيادي ، في اللحظة التي قامت فيها طائرات قاعدة البانية بمباشرة هجماتها صبيحة يوم 8 شباط . فيوم الجمعة هذا كان كغيره يوم التعطيل الأسبوعي للمؤسسات الرسمية والخاصة . فقد كان السكان قد سهروا حتى وقت متأخر عشيته ، وكانت الشوارع خالية إلا من عدد قليل من المارة . كما ذكرت الإذاعة العراقية إن الزعيم عبد الكريم قاسم قام في ليلة الخميس على الجمعة بواحدة من جولاته التفقدية التي اعتاد القيام بها إلى عدد من إحياء العاصمة. وفي الساعة الثامنة والنصف توقف البث الإذاعي فجأة . ثم تبين إن فريقاً صغيراً من العسكريين استطاع الاستيلاء على محطة الإرسال الإذاعي الواقعة في منطقة تبعد حوالي خمسة كيلومترات شمال شرقي بغداد . وقد تكوّن الفريق من بعض الضباط الشباب شأن معظم الذين شاركوا في تنفيذ هذا الانقلاب العسكري . في نفس الوقت ، بوغت قائد الجوية العراقية ( الزعيم جلال الاوقاتي ) بجماعة أخرى من صغار الضباط نجحت باقتحام منزله وسارع أفرادها إلى غرس بنادقهم الرشاشة في صدره طالبين منه إن يضع توقيعه على أمر يقضي بشن عملية جوية ضد وزارة الدفاع الوطني مقر إقامة الزعيم قاسم . ولما رفض إن يفعل ذلك، ازداد الضباط الشباب حدة في عدوانيتهم.

عندئذ وضع الزعيم ( الاوقاتي ) احد أطفاله في أحضانه معتقداً إن ذلك كفيل بردعهم قليلاً ، إلا أنهم على العكس صاروا اشدّ شراسة وخطراً في تهديدهم. وهنا ، وتحت فوهات البنادق الرشاشة المتحفزة نحو رأسه وافق على توقيع أمر القيام بالعملية . بيد أنهم وحال انتهائه من وضع توقيعه أطلقوا عليه رشقات رصاص عدة أردته قتيلاً في الحال ، هذه هي البداية الفعلية الأولى لعملية تنفيذ الانقلاب العسكري . وفي تلك اللحظة كانت عدة طائرات قادمة من قاعدة الحبانية قد ظهرت فجأة فوق قاعدة عسكرية أخرى كائنة في موقع جنوب غربي بغداد تسمى بـ « معسكر الرشيد » يرابط فيها عادة قسم مهم من القوة الجوية والدبابات . فالجماعة المتمردة كانت تعرف مسبقاً بأنها لا تمتلك أي حظ في كسب ضباط الجو العاملين في معسكر الرشيد إلى جانبها. لذلك سارعت ، عبر عمليات قصف نُفذت جيداً ، إلى تدمير جميع أسراب الطائرات الرابضة هناك خلال بضعة دقائق فقط . وبفضل الفوضى التي نتجت عن ذلك ، بوشرت الهجمات الجوية على مقر وزارة الدفاع الوطني .

حيث كانت الطائرات القادمة من معسكر الحبانية تحلق على ارتفاع منخفض ، مقتفية مسار مياه دجلة المتاخم للجانب الشمالي من وزارة الدفاع ، قبل أن تنطلق لتلقي قذائفها فوقها ثم تصعد محلقة عالياً في سماء مدينة بغداد نفسها.

هذه الفعاليات الجوية التي أيقظت جميع سكان بغداد من نومهم، أعطت الانطباع خلال بعض الوقت بان ما يجري هو مجرد مناورة جوية . غير إن راديو بغداد سرعان ما باشر بإذاعة البيان رقم واحد الصادر من « المجلس الوطني لقيادة الثورة » الذي أعلن « إن عبدالكريم قاسم انتهى بعد إن سحقته تحت أنقاض وزارة الدفاع » . لكن وحتى تلك اللحظة لم يكن الأمر كذلك في الواقع . بل إن الزعيم لم يكن في أي من المباني التي كانت الطائرات تهاجمها .

ففي فجر ذلك اليوم وبعد اختتام جولته التفقدية المعتادة في شوارع بغداد النائمة فانه فوجئ شأنه شأن باقي سكان بغداد ، بحصول الهجمات الجوية. ولقد ظل على اتصال تلفوني مع الوزارة لحوالي الساعتين قبل إن يذهب بنفسه إلى مقر قيادته العامة في حوالي ما بين العاشرة والعاشرة والنصف صباحاً مخترقا بسيارته جموع المواطنين ورافعا أصابعه إلى الأعلى تشير بعلامة النصر ليتولى بنفسه قيادة المقاومة ضد الانقلاب العسكري فقبل إن يدخل مباني الوزارة المقصوفة ، تجول في عدد من إحياء بغداد ، ظاهراً بنفسه إمام السكان بهدف تبديد آثار الإعلان عن موته عبر إذاعة بغداد . ولقد بدا قاسم مطمئناً جداً بينما كانت الأوساط الشعبية البغدادية تعبر له عن حبها بشكل صادق وهي تعلن تضامنها معه في تلك اللحظة الحرجة . في وزارة الدفاع كانت هناك كتيبة معززة بحوالي سبعمائة رجل ، هي بمثابة الحرس الاعتيادي للحكومة ولقائد الثورة . لكنها في تلك الجمعة من رمضان ، لم تكن قط في حالة إعداد مسبق لمقاومة هجمة جوية ، بينما لم يكن هناك شيء خلال الساعات الأولى من الانقلاب العسكري سوى الهجمات الجوية . والطائرات المستخدمة هي من طراز « ميغ » و« هوكر هنتر » ، وكانت تطير على انفراد أو زوجياً قبل إن تلقي قنابلها الصغيرة وصواريخها الموجهة بدقة كبيرة . وكان السكان في تلك الساعة يتابعون معركة إذاعية بين محطتي الراديو والتلفزيون.

حيث كان الراديو الذي سقط بأيدي المتمردين يعلن موت قاسم ، بينما كانت محطة التلفزيون، التي يبدو إن « المجلس الوطني لقيادة الثورة » نسيها في حساباته ، تعلن من جانبها إن « الزعيم الامين » لا يزال على قيد الحياة وهو الذي يقود المقاومة ، كما راحت تبث أشرطة يظهر فيها وهو يخطب في الجماهير . عندئذ ، وبعد إن فشلت محاولاته العديدة لقطع البث التلفزيوني عبر الأوامر الهاتفية ، اصدر « المجلس الوطني للثورة » أوامره للطائرات بقصف مبنى التلفزيون . وبانقطاع البث التلفزيوني فجأة هكذا ، خسر قاسم الوسيلة الوحيدة التي ظلت بيده للحفاظ على قناة اتصال مع جماهير الشعب في بغداد. حتى نهاية صباح يوم الجمعة ذاك ، كان قاسم لا يزال صامداً، حيث استطاع العسكريون السبعمائة الموجودون في وزارة الدفاع إن ينظموا مقاومة كفيلة بتعريض الطائرات التي تحاول مهاجمتها إلى الخطر . وهنا جاء تدخل المدرعات بمثابة المرحلة الثانية في عملية التمرد ، إذ انه هو الذي سيقلب كفة الوضع لصالح الضباط الشباب الذين كانوا قد حضروا للانقلاب بجرأة لكن بشكل عجول جداً في ذات الوقت . ففي بغداد معسكران كبيران احدهما يعرف باسم « معسكر الرشيد » والآخر باسم « الوشاش » ، تتواجد في كل منهما إعداد مهمة من القوات المدرعة.

ورغم إن قوات الوشاش أعلنت تأييدها للانقلاب العسكري منذ الدقائق الأولى للتمرد ، فانه كان ينبغي الانتظار حتى بداية ما بعد الظهيرة ، لكي نرى الدبابات تظهر في شوارع بغداد لتقوم بتطويق وزارة الدفاع من بعيد ، وذلك لأن العمليات الجوية للطائرات منعتها من الاقتراب جداً من مباني الوزارة المحاصرة . وهنا ، ومن داخل الوزارة ، راح قاسم يحاول التمكن من استقدام القوات المدرعة المرابطة في معسكر الرشيد لتجيء في نجدته ، غير انه كان يواجه رفضاً مبطناً من لدن المسؤولين فيها . حيث كان قائد القوات المدرعة في معسكر الرشيد يراوغ زاعماً بأنه عاجز عن القيام بشيء . لكنهم يقولون اليوم في بغداد إن ضباط المدرعات كانوا يعتقدون منذ 18 كانون الأول 1962، بان قاسم يشك في ولائهم ، حيث قام في احد الاجتماعات العسكرية معهم بإبراز ورقة مطوية في يده وهو يقول لهم “إنني اعرف إن بينكم من يحضر لمؤامرة ولديّ في هذه الورقة أسماؤهم وبعضهم من كبار الضباط..”.

وهكذا، فمنذ ذلك التاريخ ، وضباط المدرعات لا يضمرون إلا ثقة متأرجحة بقائد الثورة العراقية . إما الضباط الذين لم يتهمهم بشيء فأنهم هم أيضا خذلوه ولم يتحركوا للدفاع عنه في ذلك اليوم حيث كان قاسم بأمس الحاجة لهم …
ابتداءً من الساعة الخامسة مساءً ، أصبحت الطائرات أقل عدداً نتيجة نجاح الدفاعات الجوية الموجودة في وزارة الدفاع بإسقاط واحدة منها . فالمقاومة فيها كانت متواصلة بعد ، غير إن التعزيزات العسكرية التي أخذت تصل إلى المتمردين تزايدت باستمرار.

وفي حوالي الساعة السادسة والنصف مساء كانت العاصمة قد شهدت وصول وحدات قادمة من معسكر ثالث أكثر بعداً عن العاصمة . كانت الدبابات المسبوقة بسيارات جيب يجلس فيها عدد من الضباط، تأخُذ مواقعها بشكل بطيء وحذر أول الأمر ، ثم بعد برهة تبدأ بدورها بإمطار قذائفها على مباني وزارة الدفاع . ابتداء من هذه اللحظة فقط ، أصبح مؤكداً إن قاسم خسر المعركة . واليوم ، بعد عودة الهدوء ، فان كل من يحلل عملية الانقلاب مقتنع بأنها أعدت بشكل سيئ وان المتمردين ما كانوا يستطيعون الإطاحة بقاسم لولا الحظ الكبير الذي حالفهم .

[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here