كيف ان الحضارة العربية تأثرت بالأداب الفارسية قديما ؟ ح10 (اقتباس)

د. رضا العطار

تعويضا لهشاشة حكم (العصا)، وجد الامويون ضالتهم في الموروث الفارسي من سحر اللغة وقوة القلم !
يؤكد باحث مختص في الشؤون الساسانية : (ان الجاه الذي كان يتمتع به طبقة الكتًاب في بلاد فارس كان واضحا ومعروفا. فإن الايرانيين كانوا يعنون دائما بالشكل. فالوثائق الرسمية والمراسلات بين الافراد ينبغي ان تصاغ صياغة انيقة، فتختلط بها نبذ من اقوال الحكماء، والحِكم الخلقية، والدينية والشعر والالغاز الرائقة، التي تجعل الرسالة او الوثيقة قطعة ادبية جميلة. كما ان الطريقة التي يصاغ بها الكِتاب ويوجًه، يراعى فيها الفوارق بين رتبتي المرسل والمرسل اليه مراعاة دقيقة. ويبدو ان الميل الى بلاغة شكلية و ادب جم واحاديث القصر التي يبدأ بها كل ملك جديد.
كان الكتًاب دبلوماسيين حقيقيين. فقد كانوا ملمين بكل انواع الوثائق ويسيطرون على مراسلات الدولة، ويصيغون جميع الاوامر الملكية، وينظًمون قوائم التشريفات السلطانية. وكان رئيس كتاب الدولة، يعين من بين حاشية الملك.

ان الهدف من ذكر ما ورد اعلاه هو اثبات حقيقة بسيطة ولكن على جانب كبير من الاهمية بالنسبة لموضوعنا، حقيقة ان التدوين في (الاخلاق) في الثقافة العربية الاسلامية، اعني الانتقال بها من المرحلة الشفوية الخاضعة بطبيعتها للظروف . . الى المرحلة المتجددة التي تشيد فيها الاخلاق على اساس نظام للقيم. يصبح نموذجا للنظام الذي يتكرس عبر العادة والعرف والظرفيات، اقول ان التدوين في الاخلاق في العربية الاسلامية، لم يجر في البداية لا داخل الموروث العربي (الخالص) ولا داخل الموروث الاسلامي (الخالص)، واهمية هذه الحقيقة التاريخية بالنسبة لموضوعنا لا تخفى. فالتاريخ للفكر الاخلاقي في الاسلام، سواء من اجل تاريخه، او من اجل اكتساب تصور عام للشكل الذي جرت عليه الامور فيه، يتوقف اول ما يتوقف، على تحديد البداية. فالبداية هي التي تحدد المسار وترسم الافاق، ليس للباحث وحسب، بل ايضا لمن انخرطوا تاريخيا في تلك البداية.

لقد تعرفنا على الشكل اللغوي الذي لبسه التدوين في الاخلاق عند ظهور الاسلام، وهذا شيء مهم، لان الاخلاق في البداية كانت (ادبا) وكانت تجمع بين (ادب اللسان) و (ادب النفس)، وقد تعرفنا كذلك على طبيعة المضمون الذي ركب هذا الشكل. واكتشفنا ان (ادب النفس) يجمع هو الاخر بين بعدين اثنين، (ادب النفس) مطلق النفس و (ادب السلطان). وان القيمة المركزية في هذه (الاداب) التي تشكل ثلاثة في واحد، هي (الطاعة) طاعة الحاكم، ومن هنا جاز ان نطلق عليها (اخلاق الطاعة) والطاعة هي احدى صور الاستبداد، تظهر في مرحلة نشوء الدولة، ترافقها قوة السلاح، اي استعمال سياسة (العصا لمن عصا).

ولكل دولة عندما يبدأ التدهور يدب في مفاصلها لها عواملها، والعامل الاهم الذي سبب في ضعف دولة بني أمية، قتلهم للحسين بن علي بن ابي طالب واهل بيته، احفاد النبي في واقعة كربلاء عام61 للهجرة، مما تسبب في اثارة السخط وغضب مسلمي العالم عليهم. فكان ملزما على الامويين ان يحولوا صيغة الخطاب الموجه للشعب من اسلوب القوة والتهديد الى اسلوب الاقناع والتهدئة، بهدف جعله يركن الى الهدوء والسكينة، فوظف الدين، (الجسر المهم الذي يمر عليه هذا الطلب)، وكذلك جمال اللغة وسحر مفرداتها وجاذبية بلاغتها، كل هذه المحسنات كانت جاهزة يومذاك في الموروث الفارسي . . .
هل نذهب الى ابعد من هذا في الاستنتاج ؟

لنكتف بالقول : ان اول درس في (الاخلاق والسياسة) تلقاه العقل العربي كان على يد معاوية. حاملة السيف، لا القلم، وكان بعنوان (الجبر)، الجبر في كل شيء، أمرًه امره يزيد وأمر كل من جاء بعده، (كان قضاء وقدر) وكان ذلك نتيجة هزيمة العرب جميعا في حربهم الاهلية الاولى التي خلدت اسم مكان (صفًين) فبقيت جراحها ثابتة ماثلة مثول المكان. اما الدرس الثاني الذي تلقاه العقل العربي في (الاخلاق والسياسة) فكان عنوانه (الطاعة) وكان هذه المرة في مادة (الادب)، اكتسبها من بلاد فارس عبر كتًاب الدولة العربية، وهنا قام الادب بمقام السيف.
ان الظروف التي حركت ذلك القلم، كانت ظروف سيف مسلول، ادت الى هزيمة دولة معاوية وعشيرته هزيمة نهائية مع مروان بن محمد، آخر ملوك بني أمية.

الجبر والطاعة عنصران اساسيان في (اخلاق الهزيمة) بدأت الدولة الاموية باوليهما وانتهت بآخرهما. هل سيختلف الامر مع العباسيين ؟ لقد ورثوا من خصومهم الامويين عقلا اخلاقيا، بل نظاما في القيم، تحتل في الطاعة موقع القيمة المركزية، وتهمين على آفاقه ايديولوجيا الجبر. نعم كانت هناك ردود فعل زمن الامويين وزمن العباسيين. كانت هناك في العصرين معا ردود على المجمبرة، كان هناك رفض للطاعة من حين لاخر، بالسيف كما بالقلم. ولكن ذلك كله لم يكن ليحول دون حضور ابن المقفع وزملائه. ولا دون استفتاح ابي العباس السفاح اول ملوك بني العباس. خطبته يوم بويع سنة 135 ه بالقول : (الحمد لله الذي اصطفى الاسلام لنفسه تكرمة وشرًفه وعظًمه، واختاره لنا وايده بنا، وجعلنا اهله وكهفه وحصنه والقوامين به والذائبين عنه، والناصرين له، الخ ) وسيتضح الامر اكثر مع ابي جعفر المنصور الذي خلفه، والذي خطب في مكة قائلا : ( ايها الناس ! إنما انا سلطان الله في ارضه، اسوسكم بتوفيقه، وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله اعمل فيه بمشيئته وارادته واعطي بأذنه، فقد جعلني الله عليه قفلا : ان شاء ان يفتحي فتحني لإعطائكم وقسم ارزاقكم، وان شاء ان يقفلني عليها اقفلني )

خطبهم كانت خطب بالغة، تؤكد نظاما في القيم مختلفة، نظاما يوضع فيه (الملك، الخليفة . . ) نائبا عن الله، حتى لا نقول : الله نفسه. لقد بدأ خطاب الجبر والطاعة في نصوص الامويين خطابا برغماتيا واقعيا واقعية (العصا لمن عصا) ثم عندما ضعفت قوة (العصا) وجدت دولة بني أمية المنهارة في كُتًابها الذي غرفوا من الموروث الفارسي ما مكنها من تعويض هشاشة العصا بسلطة القلم وسحر اللغة. ولكن هيهات.
اما الخطاب العباسيين فقد انطلق من حيث انتهى خطاب اسلافهم، من توظيف الموروث الفارسي معززا بمفاهيم من الخطاب الديني الاسلامي. والهدف هو هو : غرس اخلاق الطاعة في النفوس. واذا اخذنا بعين الاعتبار ان تكريس اخلاق الطاعة بتوظيف الدين في السياسة قد حدث منذ بداية الدولة العباسية. مساوقا للنهضة التي قادتها هذه الدولة، ادركنا اي ازدهار سيلقاه الموروث الفارسي وقيمه الاخلاقية السياسية في الثقافة العربية.
الحلقة التالية في الاسبوع القادم

* مقتبس من كتاب نقد العقل الاخلاقي العربي لمؤلفه د. محمد عابد الجابري ، الطبعة السادسة، دار النهضة، الحمراء، شارع البصرة، بيروت 2914

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here